الأربعاء، 4 مارس 2015

مختصر زاد المعاد لابن قيم الجوزية الجزء الثانى

ص -129-      فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عند دخوله منزله
لم يكن يفجأ أهله بغتةً يتخونهم، ولكن كان يدخل على علمٍ منهم، وكان يسلّم عليهم، وإذا دخل بدأ بالسّواك، وسأل عنهم، وربّما قال:
"هل عندكم من غداءٍ؟"، وربّما سكت حتى يحضر بين يديه ما تيسر.
وثبت عنه أنّ رجلاً سلّم عليه وهو يبول، فلم يردّ عليه، وأخبر أنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ يمقت على الحديث على الغائط، وكان لا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها بغائطٍ، ولا بولٍ، ونهى عن ذلك.

ص -130-      فصل
ثبت عنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أنّه سنّ الأذان بترجيعٍ وغير ترجيعٍ، وشرع الإقامة مثنى وفرادى، ولكن كلمة الإقامة: "قد قامت الصّلاة" لم يصحّ عنه إفرادها البتّة، وكذلك الذي صحّ عنه تكرار لفظ التّكبير في أوّل الأذان، ولم يصحّ عنه الاقتصار على مرّتين، وشرع لأمّته عند الأذان خمسة أنواع:
أحدها: أن يقولوا كما يقول المؤذّن إلاّ في الحيعلة، فأبدلها بـ: "لا حول ولا قوّة إلاّ بالله"، ولم يجيء عنه الجمع بينهما، ولا الاقتصار على الحيعلة، وهذا مقتضى الحكمة، فإنّ كلمات الأذان ذكر، وكلمة الحيعلة دعاء إلى الصّلاة، فسّن للسّامع أن يستعين على هذه الدّعوة بكلمة الإعانة.
الثّاني: أن يقول:
"رضيت بالله ربّاً، والإسلام ديناً، وبمحمّدٍ رسولاً"، وأخبر أنّ مَن قال ذلك "غفر له ذنبه".
الثّالث: أن يصلّي على النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بعد فراغه من إجابة المؤذّن، وأكملها ما علّمه أمّته، وإن تحذلق المتحذلقون.
الرّابع: أن يقول بعد الصّلاة عليه:
"اللهم ربّ هذه الدّعوة التّامّة، والصّلاة القائمة، آتِ محمّداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً".

ص -131-      الخامس: أن يدعوَ لنفسه بعد ذلك، وفي (السّنن) عنه: "الدّعاء لا يُرَدُّ بين الأذان والإقامة"، قالوا: فما نقول يا رسول الله؟ قال: "سلوا الله العافية في الدّنيا والآخرة". حديث صحيح.
وكان يكثر الدّعاء في عشر ذي الحجة، ويأمر فيه بالإكثار من التّهليل والتّكبير والتّحميد، ويذكر عنه أنّه كان يكبّر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيّام التّشريق، فيقول
: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد". وهذا وإن كان لا يصحّ إسناده، فالعمل عليه، ولفظه هكذا بشفع التّكبير، وأمّا كونه ثلاثاً، فإنّما روي عن جابر وابن عبّاس، مَن فعلهما ثلاثاً نسقاً فقط، وكلاهما حسن، قال الشّافعي: وإن زاد، فقال: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. كان حسناً.

ص -132-      فصل
وكان إذا وضع يده في الطّعام قال: "بسم الله"، وأمر بذلك، ويقول إن نسي: "بسم الله في أوّله وآخره". حديث صحيح. والصّحيح وجوب التّسمية عند الأكل، وتاركها شريكه الشّيطان في طعامه وشرابه، وأحاديث الأمر بها صحيحة صريحة، ولا معارض لها، ولا إجماع يُسوِّغ مخالفتها.
وهل تزول مشاركة الشّيطان بتسمية أحد الجماعة؟
فنصّ الشّافعي على إجزاء تسمية الواحد، وقد يقال: لا ترتفع مشاركة الشّيطان للآكل إلاّ بتسميته هو. وللتّرمذي وصحّحه عن عائشة: كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يأكل طعاماً في ستة من أصحابه، فجاء أعرابي، فأكله بلقمتين، فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"أمّا إنّه لو سمّى لكفاكم". ومعلومٌ أنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ هو وأصحابه سمّوا، ولهذا جاء في حديث حذيفة: حضرنا طعاماً، فجاءت جارية، كأنّها تُدفع، فذهبت لتضع يدها، فأخذ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بيدها، ثم جاء أعرابي، فأخذ بيده، فقال: "إنّ الشّيطان يستحلّ الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه، وإنّه جاء بهذه الجارية ليستحلّ بها، فأخذتُ بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحلّ به، فأخذتُ بيده، والذي نفسي بيده إنّ يده لفي يدي مع يديهما". ثم ذكر اسم الله وأكل.
ولكن قد يجاب بأنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لم يكن وضع يده، ولكن الجارية ابتدأت.
وأمّا مسألة ردّ السّلام، وتشميت

ص -133-      العاطس ففيهما نظر. وقد صحّ عنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "إذا عطس أحدكم فحمد الله، فحقّ على كلّ مَن سمعه أن يشمته"، وإن سلم الحكم فيهما، فالفرق بينهما وبين مسألة الآكل ظاهر، فإنّ الشّيطان إنّما يتوصل إلى مشاركته الأكل، فإذا سمّى غيره، قلت مشاركة الشّيطان له، وتبقى المشاركة بينه وبين مَن لم يُسَمِّ.
ويذكر عنه أنّه كان إذا شرب تنفس في الإناء ثلاثة أنفاس يحمد الله في كلّ نفسٍ، ويشكره في آخرهن.
وما عاب طعاماً قطّ، بل إن كرهه تركه وسكت. وربّما قال:
"أجدُني أعافه". أي: لا أشتهيه.
وكان يمدح الطّعام أحياناً كقوله:
"نعم الإدام الخل". لِمَن قال: ما عندنا إلاّ خل. تطييباً لقلب مَن قدمه، لا تفضيلاً له على سائر الأنواع، وكان إذا قرب إليه الطّعام وهو صائم قال: "إنّي صائم"، وأمر مَن قدّم إليه الطّعام وهو صائم أن يصلّي، أي: يدعو لِمَن قدّمه، وإن كان مفطراً أن يأكل منه.
وإذا دعي إلى طعامٍ، وتبعه أحدٌ، أعلم به ربّ المنْزل، فقال: "إنّ هذا تبعنا، فإن شئت أن تأذن له، وإن شئت رجع"، وكان يتحدث على طعامه، كما قال لربيبه:
"سمِّ الله، وكُلْ مِمّا يليك". وربّما كان يكرّر على أضيافه عرض الأكل عليهم مراراً كما يفعله أهل الكرم، كما في حديث أبي هريرة في اللّبن. وكان إذا أكل عند قومٍ، لم يخرج حتى يدعو لهم. وذكر أبو داود عنه في قصة أبي الهيثم: فأكلوا فلمّا فرغوا قال: "أثيبوا أخاكم". قالوا: يا رسول الله، وما إثابته؟، قال: "إنّ الرّجل إذا دخل بيته، فأكل طعامه، وشرب شرابه فدعوا له، فذلك إثابته".

 

ص -134-      وصحّ عنه أنّه دخل منْزله ليلة، فالتمس طعاماً، فلم يجده فقال: "اللهم أطعم مَن أطعمني، واسق مَن سقاني".
وكان يدعو لِمَن يضيّف المساكين، ويثني عليهم، وكان لا يأنف من مؤاكلة أحدٍ صغيرٍ كان أو كبيراً، حرّاً أو عبداً، ويأمر بالأكل باليمنى، وينهى عن الشّمال، ويقول:
"إنّ الشّيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله". ومقتضاه تحريم الأكل بها، وهو الصّحيح، وأمر مَن شكوا إليه: أنّهم لا يشبعون أن يجتمعوا على طعامهم، ولا يتفرّقوا، وأن يذكروا اسم الله عليه، وروي عنه أنّه قال: "أذيبوا طعامكم بذكر الله ـ عزّ وجلّ ـ والصّلاة، ولا تناموا عليه، فتقسَوا قلوبكم". وأحْر به أن يكون صحيحاً. والتّجربة تشهد به.

ص -135-      فصل: في هديه-صلّى الله عليه وسلّم-في السّلام والاستئذان
وتشميت العاطس
في (الصّحيحين) عنه:
"إنّ أفضل الإسلام إطعام الطّعام، وأن تقرأ السّلام على مَن عرفتَ ومَن لم تعرف".
وفيهما
: "إنّ آدم لما خلقه الله قال له: اذهب إلى أولئك النّفر من الملائكة فسلّم عليهم، واستمع ما يحيّونك، فإنّها تحيّتك وتحيّة ذرّيّتك. فقال: السّلام عليكم. فقالوا: السّلام عليكم ورحمة الله. فزادوه: ورحمة الله".
وفيهما: "أنّه أمر بإفشاء السّلام، وأنّهم إذا أفْشَوا السّلام تحابوا، وأنّهم لا يدخلون الجنة حتى يؤمنوا، ولا يؤمنوا حتى يتحابوا".
وقال البخاري في (صحيحه): قال عمار: ثلاث مَن جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السّلام للعالم، والإنفاق من الإقتار.
وقد تضمنت هذه الثّلاث أصول الخير وفروعه، فإنّ الإنصاف يوجب عليه أداء حقوق الله كاملة، وأداء حقوق النّاس كذلك، ويعاملهم بما يحبّ أن يعاملوه به، ويدخل فيه إنصافه من نفسه، فلا يدّعى لها ما ليس لها، ولا يخفيها بتدسّيه لها بمعاصي الله.

ص -136-      والمقصود أنّ إنصافه من نفسه يوجب عليه معرفة ربّه، ومعرفة نفسه، وأن لا يزاحمَ بها مالكها، ولا يقسم إرادته بين مراد سيّده ومرادها، وهي قسمة ضيزى، مثل قسمة الذين قالوا: {هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، [الأنعام، من الآية: 136].
فلينظر العبد لا يكون من أهل هذه القسمة وهو لا يشعر، فإنّه خُلِقَ ظلوماً جهولاً، وكيف يطلب الإنصاف مِمَن وَصْفُهُ الظّلمُ والجهلُ!؟، وكيف ينصف الخلق مَن لم ينصف الخالق!؟، كما في الأثر: ابن آدم مَا أنصفتني، خيري إليك نازل، وشرّك إليّ صاعد. وفي أثرٍ آخر: ابن آدم ما أنصفتني، خلقتك وتعبدُ غيري، وأرزقك، وتشكر سواي، ثم كيف ينصف غيره مَن لم ينصف نفسه وظلمها أقبح الظّلم وهو يظنّ أنّه يكرمها؟!.
وبذل السّلام يتضمن التّواضع، لا يتكبّر على أحدٍ، والإنفاق من الإقتار لا يصدر إلاّ عن قوّة ثقةٍ بالله وقوّة يقينٍ، وتوكّلٍ ورحمةٍ، وزهدٍ وسخاء نفس، وتكذيب بوعد مَن يعده الفقر، ويأمره بالفحشاء.
وثبت عنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أنّه مرّ بصبيان، فسلم عليهم، وذكر التّرمذي أنّه مرّ بجماعة نسوة، فألوى بيده بالتّسليم، وقال أبو داود عن أسماء بنت يزيد: مرّ علينا النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في نسوة، فسلّم علينا. وهي رواية حديث التّرمذي، والظّاهر أنّ القصّة واحدةٌ، وأنّه سلّم عليهن بيده.
وفي البخاري: أنّ الصّحابة ينصرفون من الجمعة، فيمرّون على عجوزٍ في طريقهم، فيسلّمون عليها. فتقدّم لهم طعاماً من أصول

ص -137-      السّلق والشّعير، وهذا هو الصّواب في مسألة السّلام على النّساء يسلّم على العجوز، وذوات المحارم دون غيرهن.
وفي (صحيح البخاري):
"يسلّم الصّغير على الكبير، والمارّ على القاعد، والرّاكب على الماشي، والقليل على الكثير".
وفي التّرمذي
: "يسلّم الماشي على القائم".
وفي (مسند البزار) عنه:
"والماشيان أيّهما بدأ فهو أفضل".
وفي (سنن أبي داود) عنه:
"إنّ أولى النّاس بالله مَن بدأهم بالسّلام".
وكان من هديه السّلامُ عند المجيء إلى القوم، والسّلام عند الانصراف عنهم، وثبت عنه أنّه قال:
"إذا قعد أحدكم فليسلّم، وإذا قام فليسلّم، فليست الأولى بأحقّ من الآخرة".
وذكر أبو داود عنه:
"إذا لقي أحدكم صاحبه، فليسلّم عليه، فإن حال بينهما شجرة أو جدار، ثم لقيه، فليسلّم عليه أيضاً".
وقال أنسّ: كان أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يتماشون، فإذا لقيتهم شجرة أو أكمة تفرّقوا يميناً وشمالاً، وإذا التقوا من ورائها سلّم بعضهم على بعضٍ.
ومن هديه أنّ الدّاخل إلى المسجد يبتدئ بركعتين، ثم يجيء فيسلّم، فتكون تحيّة المسجد قبل تحيّة أهله، فإنّ تلك حقّ الله، والسّلام عليهم حقّ لهم، وحقّ الله تعالى في مثل هذا أولى بالتّقديم بخلاف الحقوق المالية، فإنّ فيها نزاعاً، والفرق بينهما حاجة الآدمي، وعدم اتّساع المال لأداء الحقّين. وعلى هذا، فيُسَنُّ لداخل المسجد إذا كان فيه جماعة ثلاث تحيّات مرتّبة:

ص -138-      إحداها: أن يقول عند دخوله: بسم الله والصّلاةُ والسّلامُ على رسول الله. ثم يصلّي تحيّة المسجد، ثم يسلّم على القوم. وكان إذا دخل على أهله باللّيل سلّم تسليماً لا يوقظ النّائم، ويسمع اليقظان، ذكره مسلم. وذكر التّرمذي عنه: "السّلام قبل الكلام". ولأحمد عن ابن عمر مرفوعاً: "السّلام قبل السّؤال، فمَن بدأ بالسّؤال قبل السّلام، فلا تجيبوه". ويُذكر عنه: "لا تأذنوا لِمَن لم يبدأ بالسّلام".
وكان إذا أتى باب قومٍ لم يستقبل الباب، ولكن من ركنه الأيمن، أو الأيسر، فيقول:
"السّلام عليكم". وكان يسلّم بنفسه على مَن يواجهه ويحمل السّلام للغائب، ويتحمل السّلام كما تحمّله من الله لخديجة. وقال للصّدِّيقة الثّانية: "هذا جبريل يقرأ عليك السّلام". وكان من هديه انتهاء السّلام إلى: "وبركاته"، وكان من هديه أن يسلّم ثلاثاً كما في البخاري عن أنس، ولعلّه في الكثير الذي لا تبلغهم المرّة، وإذا ظنّ أنّه لم يحصل الإسماع بالأوّل والثّاني.
ومَن تأمّل هديه علم أنّ التكرير أمرٌ عارضٌ.
وكان يبدأ مَن لقيه بالسّلام، وإذا سلّم عليه أحدٌ ردّ عليه مثلها أو أحسن على الفور إلاّ لعذرٍ مثل قضاء الحاجة، ولم يكن يردّ بيده، ولا برأسه، ولا بإصبعه إلاّ في الصّلاة، فإنّه ثبت عنه الرّدّ فيها بالإشارة.
وكان هديه في الابتداء:
"السّلام عليكم ورحمة الله"، ويكره أن يقول المبتدئ: عليك السّلام. وكان يردّ على المسلم: "وعليكم السّلام"، بالواو، ولو حذف الرّادّ الواو. فقالت طائفة: لا يسقط به

ص -139-      فرض الرّدّ؛ لأنّه مخالف للسّنة؛ ولأنّه لا يعلم هل هو ردّ أو ابتداء تحيّة.
وذهبت طائفة إلى أنّه ردٌّ صحيحٌ، نصّ عليه الشّافعي، واحتجّ له بقوله تعالى:
{قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ}، [هود، من الآية: 69]، أي: سلام عليكم لا بدّ من هذا، ولكن حسن الحذف في الرّدّ لأجل الحذف في الابتداء، واحتجّ له بردّ الملائكة على آدم المتقدّم.

ص -140-      فصل: في هديهـ صلّى الله عليه وسلّم ـفي السّلام على أهل الكتاب
صحّ عنه: "لا تبدؤهم بالسّلام، وإذا لقيتموهم في الطّريق، فاضطرّوهم إلى أضيق الطّريق"، لكن قد قيل: إنّه في قضيةٍ خاصّةٍ، لما سار إلى بني قريظة قال: "لا تبدؤهم بالسّلام"، فهل هو عامٌ لأهل الذّمة، أو يختصّ بِمَن كانت حاله كأولئك؟
لكن في (صحيح مسلم):
"لا تبدأوا اليهود ولا النّصارى بالسّلام، وإذا لقيتم أحدهم في الطّريق فاضطرّوه إلى أضيقه". والظّاهر أنّ هذا عامٌ.
واخلف في الرّدّ عليهم، والصّواب وجوبه، والفرق بينهم، وبين أهل البدع أنّا مأمورون بهجرهم، وثبت عنه أنّه مرَّ على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين، فسلّم عليهم، وكتب إلى هرقل وغيره بـ:
"السّلام على مَن اتّبع الهدى". ويذكر عنه أنّه: "يجزئ عن الجماعة إذا مرّوا أن يسلّم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يردَّ أحدهم". فذهب إلى هذا مَن قال: الرّدّ فرض كفاية. لكن ما أحسنه لو كان ثابتاً! فإنّ فيه سعيد ابن خالد، قال أبو زرعة: ضعيف. وكذلك قال أبو حاتم.
وكان من هديه إذا بلّغه أحد السّلام عن غيره أن يردّ عليه وعلى المبلّغ.
ومن هديه ترك السّلام ابتداء وردّا على مَن أحدث حدثاً حتى يتوب.

ص -141-      فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الاستئذان
صحّ عنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أنّه قال:
"الاستئذان ثلاثاً، فإن أذن لك، وإلاّ فارجع".
وصحّ عنه:
"إنّما جعل الاستئذان من أجل البصر".
وصحّ عنه أنّه أراد أن يفقأ عين الذي نظر إليه من حجرته، وقال:
"إنّما جُعل الاستئذان من أجل البصر".
وصحّ عنه التّسليم قبل الاستئذان فعلاً وتعليماً. واستأذن عليه رجلٌ فقال: أألِجُ؟ فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لرجلٍ:
"اخرج إلى هذا فعلّمه الاستئذان، فقل له: قل: السّلام عليكم أأدخل؟". فسمعه الرّجل، فقال ذلك، فأذن له، فدخل.
وفيه ردٌّ على مَن قال: يقدّم الاستئذان، وعلى مَن قال: إن وقعت عينه على صاحب المنْزل قبل دخوله بدأ بالسّلام وإلاّ بالاستئذان.
ومن هديه أنّه إذا استأذن ثلاثاً ولم يؤذن له، انصرف. وهو ردّ على مَن يقول: إن ظنّ أنّهم لم يسمعوه زاد على الثّلاث، وعلى مَن قال: يعيده بلفظٍ آخر.
ومن هديه أنّ المستأذن إذا قيل له: مَن أنتَ؟ قال: فلان بن فلان، أو يذكر كنيته، ولا يقول: أنا.
وروى أبو داود عنه:
"أنّ رسول الرجل إلى الرّجل إذنه". وذكره البخاري تعليقاً. ثم ذكر ما يدلّ على اعتبار

ص -142-      الإذن بعد الدّعوة، وهو حديث دعاء أهل الصّفة، وقوله: فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا.
وقالت طائفة: إنّ الحديثين على حالين: فإن جاء المدعو على الفور، لم يحتج للاستئذان، وإن تراخى، احتاج إليه.
وقال آخرون: إن كان عند الدّاعي مَن قد أذن له قبل مجيء المدعو لم يحتج للاستئذان وإلاّ استأذن.
وكان إذا دخل إلى مكانٍ يحبّ الانفراد فيه، أمر مَن يمسك الباب، فلا يدخل عليه أحدٌ إلاّ بإذنٍ.
وأما الاستئذان الذي أمر الله به المماليك، ومَن لم يبلغ الحلم في العورات الثّلاث قبل الفجر ووقت الظّهيرة وعند النّوم، فكان بان عباس يأمر به، ويقول: ترك النّاس العمل به.
وقالت طائفة: الآية منسوخة، ولم تأت بحجّة.
وقالت طائفة: أمر ندب، وليس معها ما يدلّ على صرف الأمر عن ظاهره.
وقالت طائفة: المأمور به النّساء خاصّة، وهذا ظاهر البطلان.
وقالت طائفة عكس هذا، نظراً إلى لفظ: "الذين" ولكن سياق الآية يأباه فتأمّله.
وقالت طائفة: كان الأمر لعلّةٍ وزال بزوالها وهي الحاجة، وروى أبو داود في (سننه) أنّ نفراً قالوا لابن عباس: كيف ترى هذه الآية ولا يعمل بها أحدٌ؟
فقال: إنّ الله حليم رؤوف بالمؤمنين يحبّ السِّتر، وكان النّاس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال فربّما دخل الخادم أو الولد، أو يتيمة الرّجل، والرّجل على أهله، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله تعالى بالسُّتور والخير فلم أر أحداً يعمل بذلك بعد.
وقد أنكر بعضهم ثبوته، وطعن في عكرمة، ولم يصنع شيئاً

ص -143-      ، وطعن في عمرو بن أبي عمرو، وقد احتجّ به صاحبا الصّحيح، فإنكاره تعنت لا وجه له.
وقالت طائفة: الآية محكمة لا دافع لها.
والصّحيح أنّ الحكم معلَّل بعلةٍ قد أشارت إليها الآية، فإن كان هناك ما يقوم مقام الاستئذان من فتح بابٍ فتحه دليل على الدّخول، أو رفع سترٍ، أو تردّد الدّاخل ونحوه، أغنى عن الاستئذان، وإن لم يكن مايقوم مقامه، فلا بدّ منه، فإذا وجدت العلة، وجد الحكم. وإذا انتفت انتفى.

ص -144-      فصل
ثبت عنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أنّه قال: "إنّ الله يحبّ العطاس، ويكره التّثاؤب، فإذا عطس أحدكم وحمد الله كان حقّاً على كلّ مسلمٍ سَمِعَهُ أن يقول له: يرحمك الله، وأمّا التّثاؤب فإنّما هو من الشّيطان، فإذا تثاءب أحدكم، فليردّه ما استطاع، فإنّ أحدكم إذا تثاءب ضحك الشّطيان". ذكره البخاري.
وفي (صحيحه) أيضاً: "إذا عطس أحدكم، فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله ويُصلح بالكم".
وفي (صحيح مسلم): "إذا عطس أحدكم فحمد الله، فشمّتوه، وإن لم يحمد الله، فلا تشمّتوه".
وفي (صحيحه):
"حقّ المسلم على المسلم ستٌّ: إذا لقيته فسلّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس وحمد الله فشمِّته، وإذا مات فاتبعه، وإذا مرض فعده".
وللتّرمذي عن ابن عمر: علمنا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عند العطاس أن نقول:
"الحمد لله على كلّ حالٍ".
وذكر مالك عن نافع عن ابن عمر: إذا عطس أحدكم، فقيل له: يرحمك الله. فليقل: يرحمنا الله وإيّاكم، ويغفر لنا ولكم.
وظاهر الحديث المبدوء به أن التّشميت فرض عينٍ اختاره ابن أبي زيد، ولا دافع له.
ولما كان العاطس قد حصل له بالعطاس نعمة ومنفعة بخروج الأبخرة المحتقنة، شرع له ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ حمد الله على هذه النّعمة مع بقاء

ص -145-      أعضائه على هيئتها بعد هذه الزّلزلة التي هي للبدن كزلزلة الأرض لها.
وكان إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه، وخفض بها صوته، ويذكر عنه: أنّ التّثاؤب الرّفيع، والعطسة الشّديدة من الشّيطان.
وصحّ عنه أنّه عطس عنده رجلٌ، فقال:
"يرحمك الله"، ثم عطس أخرى، فقال له: "الرّجل مزكوم"، لفظ مسلمٍ.
ولفظ التّرمذي أنّه قاله بعد العطسة الثّالثة. وقال: حديث صحيح. ولأبي داود عن أبي هريرة موقوفاً: شمِّت أخاك ثلاثاً، فما زاد فهو زكام.
فإن قيل: الذي فيه زكام أولى أن يُدْعَى له!.
قيل: يُدْعى له كما يدعى للمريض، وأمّا سنّة العطاس الذي يحبّه الله وهو نعمة، فإنّه إلى تمام الثّلاث.
وقوله: "الرّجل مزكومٌ" تنبيه على الدّعاء له بالعافية، وفيه: اعتذار من ترك تشميته.
وإذا حمد الله فسمعه بعضهم دون بعض، فالصّواب أن يشمّته مَن لم يسمعه إذا تحقّق أنّه حمد الله، والنَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال:
"فإن حمد الله فشمّتوه"، وإذا نسي الحمد، فقال ابن العربي: لا يذكّره. وظاهر السّنة يقوّي هذا القول. والنّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لم يذكّره، وهو أولى بفعل السُّنة وتعليمها.
وصحّ عنه أنّ اليهود كانوا يتعاطسون عنده يرجون أن يقول لهم: يرحمكم الله. فيقول:
"يهديكم الله ويصلح بالكم".

ص -146-      فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في آداب السّفر
صحّ عنه أنّه قال: "إذا همّ أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين"، الحديث فعوض أمّته بهذا عما كان عليه أهل الجاهلية من زجر الطّير، والاستقسام بالأزلام، الذي نظيره هذه القرعة التي يفعلها إخوان المشركين يطلبون بها علم ما قسم لهم في الغيب. ولهذا سمّي استقساماً، فعوضهم بهذا الدّعاء ـ الذي هو توحيد وتوكّل، وسؤال للذي لا يأتي بالحسنات إلاّ هو، ولا يصرف السّيّئات إلاّ هو ـ عن التّطيّر والتّنجيم، واختيار المطالع ونحوه، فهذا الدّعاء هو طالع أهل السّعادة لا طالع أهل الشّرك:
{الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، [الحجر، الآية: 96].
وتضمن الإقرار بصفات كماله والإقرار بربوبيته، والتّوكّل عليه، واعتراف العبد بعجزه عن العلم بمصالح نفسه، وقدرته عليها، وإرادته لها.
ولأحمد عن سعد مرفوعاً:
"إنّ من سعادة ابن آدم استخارة الله ورضاه بما قضى الله، وإنّ من شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله وسخطه بما قضى الله".
فتأمّل كيف وقع المقدور مكتنفاً بأمرين: التوكّل الذي هو مضمون الاستخارة قبله، والرّضى بما يقضي الله بعده.
وكان إذا ركب راحلته كبّر ثلاثاً، ثم قال:
{سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ

ص -147-      لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}، [الزّخرف، الآيتان: 13-14].
ثم يقول:
"اللهم إنّي أسألك في سفري هذا البرّ والتّقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوِّن علينا السّفر، واطوِ عنّا بُعْدَهُ، اللهم أنتَ الصّاحب في السّفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا".
وكان إذا رجع قال:
"آيبون تائبون إن شاء الله عابدون لربّنا حامدون".
وذكر أحمد عنه أنّه إذا دخل البلد قال:
"توباً توباً، لربّنا أوباً، لا يغادر حوباً".
وكان إذا وضع رجله في الرّكاب لركوب دابته قال: "بسم الله" فإذا استوى على ظهرها قال:
"الحمد لله"، ثم يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}، [الزّخرف، من الآية: 13].
وكان إذا ودع أصحابه في السّفر يقول لأحدهم:
"أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك"، وقال له رجلٌ: إني أريد سفراً. قال: "أوصيك بتقوى الله، والتّكبير على كلّ شرفٍ". وكان هو وأصحابه إذا علو الثّنايا كبّروا، وإذا هبطوا سبّحوا، فوضعت الصّلاة على ذلك. وقال أنس: كان النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذا علا شرَفاً من الأرض أو نشزاً قال: "اللهم لك الشّرف على كلّ شرفٍ، ولك الحمد على كلّ حالٍ". وكان يقول: "لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس".
وكان يكره للمسافر وحده أن يسير باللّيل، وقال: "لو يعلم النّاس ما في الوحدة ما سار أحد وحده بليلٍ"، بل كان يكره السّفر للواحد، وأخبر أن: "الواحد شيطان والاثنان شيطانان، والثّلاثة ركب"، وكان يقول: "إذا نزل أحدكم منْزلاً فليقل: أعوذ بكلمات الله التّامّات من شرّ ما خلق. فإنّه لا يضرّه شيء حتى يرتحل".
وكان يقول:
"إذا سافرتم في

ص -148-      الخصب، فأعطوا الإبل حظها من الأرض، وإذا سافرتهم في السّنّة، فأسرعوا عليها السّير، وإذا عرَّستم، فاجتنبوا الطّريق، فإنّها طرق الدّواب، ومأموى الهوام باللّيل".
وكان ينهى عن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوّ مخافة أن يناله العدو.
وكان ينهى المرأة أن تسافر بغير محرمٍ ولو مسافة بريدٍ، ويأمر المسافر إذا قضى نهمته من سفره أن يعجل الرّجوع إلى أهله، وينهى أن يطرق الرّجل أهله ليلا ً إذا طالت غيبته عنهم، وإذا قدم من سفرٍ تلقى بالولدان من أهل بيته، وكان يعتنق القادم من سفرٍ، ويقبّله إذا كان من أهله.
قال الشّبعي: كان أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذا قدموا من سفر تعانقوا، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين.

ص -149-      فصل
ثبت عنه أنّه علمهم خطبة الحاجة: "إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ـ وفي لفظٍ ـ: وسيّئات أعمالنا، مَن يهد الله فلا مضلّ له، ومَن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّداً عبده رسوله". ثم يقرأ الثّلاث الآيات:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} الآية، [آل عمران، من الآية: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ}، الآية [النّساء، من الآية: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}، الآية [الأحزاب، الآيتان: 70-71].
قال شعبة: قلت لأبي إسحاق: هذه في خطبة النّكاح أو في غيره؟ قال: في كلّ حاجة.
وقال:
"إذا أفاد أحدكم امرأة أو خادماً، أو دابةً، فليأخذ بناصيتها، وليدع الله بالبركة، ويسمِّ الله ـ عزّ وجلّ ـ، وليقل: اللهم إنّي أسألك خيرها وخير ما جُبلت عليه، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما جُبلت عليه".
وكان يقول للمتزوِّج:
"بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خيرٍ".
وصحّ عنه أنّه قال
: "ما من رجلٍ رأى مُبتلى، فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضّلني على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً، إلاّ لم يصبه ذلك البلاء كائناً ما كان".

ص -150-      وذكر عنه أنّه ذكرت الطّيرة عنده فقال: "أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً، فإذا رأيت من الطّيرة ما تكره، فقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلاّ أنتَ، ولا يدفع السّيئات إلاّ أنتَ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بك".

ص -151-      فصل
فصحّ عنه: "الرّؤيا الصّالحة من الله، والرّؤيا السّوء من الشّيطان، فمَن رأى رؤيا يكره منها شيئاً، فلينفث عن يساره، وليتعوّذ بالله من الشّيطان، فإنّها لا تضرّه، ولا يخبر بها أحداً، فإن رأى رؤيا حسنة، فليستبشر ولا يخبر بها إلاّ مَن يحبّ".
وأمر مَن رأى ما يكره أن يتحوّل عن جنبه الذي كان عليه، وأمره أن يصلّي، فأمره بخمسة أشياء: أن ينفث عن يساره، وأن يستعيذ بالله من الشّيطان، ولا يخبر بها أحداً، وأن يتحول عن جنبه الذي كان عليه، وأن يقوم يصلّي، وقال
: "الرّؤيا على رجلٍ طائرٍ ما لم تعبّر، فإذا عبّرت وقعت، ولا يقصّها إلاّ على وادٍّ أو ذي رأيٍ".
ويذكر عنه أنّه كان يقول للرّائي:
"خيراً رأيت". ثم يعبّرها

ص -152-      فصل: فيما يقوله ويفعله مَنْ بُلِيَ بالوساس
عن عبد الله بن مسعود يرفعه: "إنّ للملك بقلب ابن آدم لَمّة، والشّيطان لَمّة، فلمة الملك إيعاد بالخير، وتصديق بالحقّ، ورجاء صالح ثواب، ولَمّة الشّيطان إيعاد بالشّر، وتكذيب بالحقّ، وقنوط من الخير، فإذا وجدتم لَمّة اللمك، فاحمدوا الله، واسألوه من فضله، وإذا وجدتم لَمّة الشّيطان، فاستعيذوا بالله واستغفروه".
وقال له عثمان بن أبي العاص: قد حال الشّيطان بيني وبين صلاتي وقراءتي؟ قال:
"ذاك شيطان يقال له: خِنْزَب، فإذا أحسسته، فتعوّذ بالله، واتفل عن يسارك ثلاثاً".
وشكا إليه الصّحابة أنّ أحدهم يجد في نفسه ما لأن يكون حُمَمَةً أحبَّ إليه من أن يتكلّم به، فقال:
"الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي ردّ كيده إلى الوسوسة". وأرشد مَن بُلي بشيء من وسوسة التّسلسل في الفاعلين إذا قيل له: هذا الله خلق الخلق، فمَن خلق الله؟ أن يقرأ: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، [الحديد: 3].
وكذلك قال ابن عبّاس لأبي زميل وقد سأله: ما شيء أجده في صدري؟
قال: ما هو؟ قلت: والله لا أتكلّم به، فقال: أشيء من شكٍّ؟

ص -153-      قلت: بلى. قال: ما نجا من ذلك أحدٌ فإذا وجدت في نفسك شيئاً، فقل: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ} الآية، [الحديد: 3].
فأرشدهم بالآية إلى بطلان التّسلسل ببديهة العقل، وأنّ سلسلة المخلوقات في ابتدائها تنتهي إلى أوّلٍ ليس قبله شيء، كما تنتهي في آخرها إلى آخر ليس بعده شيء، كما أنّ ظهوره: هو العلوّ الذي ليس فوقه شيء، وبطونه هو: الإحاطة التي لا يكون دونه فيها شيء، ولو كان قبله شيء يكون مؤثّراً فيه، لكان هو الرّبّ الخلاّق، فلا بدّ أن ينتهي الأمر إلى خالقٍ غنيٍ عن غيره، وكلّ شيءٍ فقير إليه، قائم بنفسه، وكلّ شيء قائم به، موجود بذاته، قديم لا أوّل له، وكلّ ما سواه فوجوده بعد عدمه، باقٍ بذاته، وبقاء كلّ شيء به.
وقال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "لا يزال النّاس يتساءلون حتى يقول قائلهم: هذا الله خالق الخلق، فمَن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً، فليستعذ بالله، ولينته".
وقال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}، الآية. [فصلت من الآية: 36].
ولما كان الشّيطان نوعين: نوعاً يُرى عياناً وهو الإنسي، ونوعاً لا يُرى وهو الجنّي، أمر الله تعالى نبيّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أن يكتفي من شرّ الإنسي بالإعراض والعفو والدّفع بالتي هي أحسن، وشرّ الجنّي بالاستعاذة، وجمع بين النّوعين في (سورة الأعراف)، و(المؤمنين) و(فصلت).
فما هو إلاّ الاستعاذة ضارعاً   أو الدّفع بالحسنى هما خير مطلوبٍ
فهذا دواء الدّاء من شرّ ما يُرى            وذاك دواء الدّاء من شرّ محجوبٍ

ص -154-      فصل
وأمر ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ مَن اشتدّ غضبه أن يطفئ جمرة الغضب بالوضوء والقعود إن كان قائماً، والاضطجاع إن كان قاعداً، والاستعاذة بالله من الشّيطان، ولما كان الغضب والشّهوة جمرتين من نارٍ في قلب ابن آدم أمر أن يطفئهما بما ذكر، كقوله تعالى:
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} الآية، [البقرة من الآية: 44].
وهذا إنّما يحمل عليه شدّة الشّهوة، فأمرهم بما يطفؤا به جمرتها، وهو الاستعانة بالصّبر والصّلاة، وأمر تعالى بالاستعاذة من الشّيطان عند نزغاته.
ولما كانت المعاصي كلّها تتولّد من الغضب والشّهوة، وكان نهاية قوّة الغضب القتل، ونهاية قوّة الشّهوة الزّنا، قرن بينهما في سورة (الأنعام) و(الإسراء)، و(الفرقان).
وكان ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذا رأى ما يحبّ قال:
"الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصّالحات". وإذا رأى ما يكره قال: "الحمد لله على كلّ حالٍ".
وكان يدعو لِمَن تقرب إليه بما يحبّ، فلما وضع له ابن عبّاس وضوءه قال:
"اللهم فَقِّهْهُ في الدِّين، وعَلِّمْهُ التّأويل".
وقال لأبي قتادة لَمّا دَعَّمه باللّيل لما مال عن راحلته:
"حفظك الله بما حفظت به نبيّه".
وقال: "مَن صُنِعَ إليه معروفٌ فقال: جزاك الله خيراً، فقد أبلغ في الثّناء".
وقال للذي أقرضه لما وفّاه:
"بارك الله لك في أهلك ومالك، إنّما جزاء السّلف

ص -155-      الحمد والأداء".
وإذا أهديت إليه هدية كافأ بأكثر منها، وإن لم يُردّها اعتذر إلى مهديها، كقوله للصّعب: "إنّا لم نرده عليك إلاّ أنا حرم".
وأمر أمّته إذا سمعوا نهيق الحمار: أن يستعيذوا بالله من الشّيطان الرّجيم، وإذا سمعوا صياح الدّيك: أن يسألوا الله من فضله.
ويروى أنّه أمرهم بالتّكبير عند الحريق، فإنّه يطفئه، وكره لأهل المجلس أن يخلو مجلسهم من ذكر الله ـ عزّ وجلّ ـ، وقال:
"مَن قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله تِرة، ومَن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله تِرة". والتِرة: الحسرة.
وقال:
"مَن جلس مجلساً فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنتَ، أستغفرك، وأتوب إليك، إلاّ غفر له ما كان في مجلسه ذلك".
وفي سنن أبي داود أنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كان يقوله إذا أراد أن يقوم من المجلس، فسئل عنه، فقال:
"ذلك كفّارة لما يكون في المجلس".

ص -156-      فصل: في ألفاظٍ كان ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يكره أن يقال
فمنها: خبث نفسي، أو جاشت، ومنها: أن يسمى العنب كرماً، وقول الرّجل: هلك النّاس، وقال: "إذا قال ذلك، فهو أهلكهم"، وفي معناه: فسد النّاس، وفسد الزّمان ونحوه. ونهى أن يقال: مُطِرنا بنوء كذا وكذا، وما شاء الله وشئت.
ومنها: أن يحلف بغير الله. ومنها: أن يقول في حلفه: هو يهودي أو نحوه إن فعل كذا.
ومنها: أن يقول للسّلطان: ملك الملوك. ومنها: قول السّيد: عبدي وأمتي، ومنها: سبّ الرّيح، ومنها: سبّ الحمى، وسبّ الدّيك، والدّعاء بدعوى الجاهلية، كالدّعاء إلى القبائل والعصبية لها، ومثله التّعصب للمذاهب والطّرائق والمشايخ. ومنها: تسمية العشاء بالعتمة، تسمية غالبة يهجر بها لفظ العشاء.
ومنها: سباب المسلم، وأن يتناجى اثنان دون الثّالث، وأن تخبر المرأة زوجها بمحاسن امرأة أخرى. ومنها: قول: اللهم اغفر لي إن شئت.
ومنها: الإكثار من الحلف، وأن يقول: قوس قزح، وأن يسأل أحداً بوجه الله، وأن تسمى المدينة يثرب، وأن يُسأل الرّجل فيم ضرب امرأته إلاّ إذا دعت الحاجة إليه. ومنها: أن يقول: صمتُ رمضان كلّه، وقمتُ اللّيل كلّه.

ص -157-      ومن الألفاظ المكروهة الإفصاح عن الأشياء التي ينبغي الكناية عنها، وأن يقال: أطال الله بقاءك. ونحو ذلك، ومنها: أن يقول الصّائم: وحقّ الذي خاتمه على فمي، فإنّما يختم على فم الكافر، وأن يقول للمكوس حقوقاً، أو لما ينفقه في طاعةٍ: خسرت كذا، وأن يقول: أنفقت في هذه الدّنيا مالاً كثيراً، ومنها: أن يقول المفتي: أحلّ الله كذا وحرّم كذا في مسائل الاجتهاد. ومنها: أن تسمى أدلة القرآن والسّنة مجازات، ولا سيما إذا أضاف إلى ذلك تسمية شبه المتكلّمين قواطع عقلية، فلا إله إلاّ الله كم حصل بهاتين التّسميتين من إفساد الدّين والدّنيا! ومنها: أن يحدث الرّجل بما يكون بينه وبين أهله كما يفعله السِّفْلَةُ.
ومما يكره من الألفاظ: زعموا وذكروا وقالوا ونحوه، وأن يقال للسّلطان: خليفة الله، فإنّ الخليفة إنّما يكون عن غائبٍ والله سبحانه خليفة الغائب في أهله.
وليحذر كلّ الحذر من طغيان (أنا) و(لي) و(عندي) فإنّ هذه ابتلي بها إبليس وفرعون وقارون فـ: (أنا خير منه) لإبليس، و(لي ملك مصر) لفرعون، (وعلى علمٍ عندي) لقارون، وأحسن ما وضعت (أنا) في قول العبد: أنا العبد المذنب المستغفر المعترف. ونحوه، و(لي) في قوله: لي الذّنب، ولي الجرم، ولي الفقر، والذّلّ، و(عندي) في قوله: اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي، وكلّ ذلك عندي.

ص -158-      فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الجهاد والغزوات
لَمّا كان الجهاد ذِرْوَةً سنام الإسلام، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرّفعة في الدّنيا، كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الذّروة العليا منه، فاستولى على أنواعه كلّها، فجاهد في الله حقّ جهاده بالقلب والجنان، والدّعوة والبيان، والسّيف والسّنان، فكانت ساعاته موقوفة على الجهاد، ولهذا كان أعظم العالمين عند الله قدراً.
وأمره تعالى بالجهاد من حين بعثه، فقال:
{فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيرا}، [الفرقان: 52]. فهذه سورة مكيّة أمره فيها بالجهاد بالبيان، وكذلك جهاد المنافقين إنّما هو بالحجّة وهو أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد الخواص، وأفراد العالم والمعاونون عليه، وإن كانوا هم الأقلّين عدداً، فهم الأعظمون عند الله قدراً.
ولما كان من أفضل الجهاد قول الحقّ مع شدّة المعارض مثل أن يتكلّم به عند مَن يخاف سقوطه، كان للرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ من ذلك الحظّ الأوفر، وكان له ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من ذلك أكمله وأتمّه، ولما كان جهاد أعداء الله فرعاً على جهاد النّفس، كما قال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"المجاهد مَن جاهد نفسه في ذات الله"، كان جهادها مقدَّماً. فهذان عدوان

ص -159-      قد امتحن العبد بجهادهما، وبينهما عدوّ ثالث لا يمكنه جهادهما إلاّ بجهاده وهو واقف بينهما يثبط عن جهادهما وهو الشّيطان، قال الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} الآية، [فاطر من الآية: 6].
والأمر بذلك تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته، فهذه ثلاثة أعداء أمر العبد بمحاربتها، وسُلطت عليه امتحاناً من الله، وأعطي العبد مدداً وقوّة، وبلي أحد الفريقين بالآخر، وجعل بعضهم لبعض فتنة، ليبلوَ أخبارهم، فأعطى عباده الأسماع والأبصار والعقول والقوى، وأنْزل عليهم كتبه، وأرسل إليهم رسله، وأمدّهم بملائكته، وأمرهم بما هو من أعظم العون لهم على حرب عدوّهم، وأخبرهم أنّهم إن امتثلوه فلن يزالوا منصورين وأنّه إن سلط عليهم، فلتركهم بعض ما أمروا به، ثم لم يؤيسهم بل أمرهم أن يداووا جراحهم، ويعودوا إلى مناهضة عدوّهم بصبرهم، وأخبرهم أنّه مع المتّقين منهم، ومع المحسنين، ومع الصّابرين، ومع المؤمنين، وأنّه يدافع عن عباده المؤمنين ما لا يدافعون عن أنفسهم، بل بدفاعه عنهم انتصروا، ولولا ذلك لاجتاحهم عدوّهم.
وهذه المدافعة بحسب إيمانهم، فإن قوي إيمانهم قويت، فمَن وجد خيراً فليحمد الله، ومَن وجد غير ذلك فلا يلومن إلاّ نفسه. وأمرهم أن يجاهدوا فيه حقّ جهاده، كما أمرهم أن يتّقوه حقّ تقاته، وكما أنّ حقّ تقاته أن يُطاع فلا يُعصى، ويذكر فلا يُنسى، ويشكر فلا يُكفر، فحقّ جهاده أن يجاهد نفسه ليسلم قلبه ولسانه وجواره لله وبالله، لا لنفسه ولا بنفسه، ويُجاهد شيطانه بتكذيب وعده ومعصية أمره، فإنّه يعد بالأماني، ويمني الغرور، ويأمر بالفحشاء، وينهى عن الهدى وأخلاق

ص -160-      الإيمان كلّها، فينشأ له من هذين الجهادين قوّة وعدة يجاهد بهما أعداء الله بقلبه ولسانه ويده وماله، لتكون كلمة الله هي العليا.
واختلفت عبارات السّلف في حقّ الجهاد، فقال ابن عبّاس: هو استفراغ الطّاقة فيه، وأن لا يخاف في الله لومة لائمٍ.
وقال ابن المبارك: مجاهدة النّفس والهوى.
ولم يصب مَن قال: إنّ الآيتين منسوختان لظنّه تضمنهما ما لا يطاق، وحقّ تقاته وحقّ جهاده: هو ما يطيقه كلّ عبدٍ في نفسه، وذلك يختلف باختلاف أحوال المكلّفين.
وتأمّل كيف عقب الأمر بذلك بقوله:
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، [الحج من الآية: 78]. والحرج: الضيق.
وقال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"بُعِثْتُ بالحنيفية السّمحة"، فهي التّوحيد، سمحة في العمل، وقد وسع الله سبحانه على عباده غاية التّوسعة في دينه ورزقه وعفوه ومغفرته، فبسط عليهم التّوبة ما دامت الرّوح في الجسد، وجعل لكلّ سيّئةٍ كفاّرةً، وجعل لكلّ ما حرم عوضاً من الحلال، وجعل لكلّ عسرٍ يمتحنهم به يسراً قبله ويسراً بعده، فكيف يكلّفهم ما لا يسعهم، فضلاً عما لا يطيقونه.

ص -161-      فصل
إذا عرف هذا، فالجهاد على أربع مراتب: جهاد النّفس، وهو أيضاً أربع مراتب:
أحدها: أن يجاهدها على تعلّم الهدى.
الثّانية: على العمل به بعد علمه.
الثّالثة: على الدّعوة إليه، وإلاّ كان من الذين يكتمون ما أنزل الله.
الرّابعة: على الصّبر على مشاق الدّعوة، ويتحمل ذلك كلّه لله، فإذا استكمل هذه الأربع صار من الرّبّانيّين، فإنّ السّلف مجمعون على أنّ العالم لا يكون ربّانيّاً حتى يعرف الحقّ ويعمل به ويعلّمه.
المرتبة الثّانية: جهاد الشّيطان، وهو مرتبتان:
أحدهما: جهاده على دفع ما يلقي من الشّبهات.
الثّانية: على دفع ما يلقي من الشّهوات، فالأولى بعدة اليقين، والثّانية بعدة الصّبر، قال تعالى:
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ}، [السّجدة: 24].
المرتبة الثّالثة: جهاد الكفّار والمنافقين، وهو أربع مراتب: بالقلب واللّسان والمال والنّفس، وجهاد الكفّار أخصّ باليد، وجهاد المنافقين أخصّ باللّسان.
المرتبة الرّابعة: جهاد أرباب الظّلم والمنكرات والبدع، وهو

ص -162-      ثلاث مراتب: الأولى باليد إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللّسان، فإن عجز جاهد بقلبه.
فهذه ثلاث عشرة مرتبة من الجهاد، و"مَن مات ولم يغز، ولم يحدّث نفسه بالغزوات مات على شعبةٍ من النفاق".
ولا يتمّ الجهاد إلاّ بالهجرة، ولا الهجرة والجهاد إلاّ بالإيمان، والرّاجون لرحمة الله هم الذين قاموا بهذه الثّلاثة، قال الله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، [البقرة: 218].
وكما أنّ الإيمان فرضٌ على كلّ أحدٍ، ففرض عليه هجرتان في كلّ وقتٍ: هجرة إلى الله ـ عزّ وجلّ ـ بالإخلاص، وهجرة إلى رسوله بالمتابعة، وفرض عليه جهاد نفسه وشيطانه لا ينوب فيه أحدٌ عن أحدٍ.
وأمّا جهاد الكفّار والمنافقين، فقد يكتفى فيه ببعض الأمّة.

ص -163-      فصل
وأكمل الخلق عند الله ـ عزّ وجلّ ـ مَنْ كَمَّلَ مراتب الجهاد كلّها، ولهذا كان أكمل الخلق عند الله وأكرمهم على الله خاتم أنبيائه محمّداً رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فإنّه كمّل مراتبه، وجاهد في الله حقّ جهاده، وشرع فيه من حين بعثه الله إلى أن توفّاه، فإنّه لما أنزل عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، [المدثّر الآيات: 1- 4].
شمر عن ساق الدّعوة، وقام أتمّ قيامٍ، ودعا إلى الله ليلاً ونهاراً سرّاً وجهاراً، ولَمّا أنزل عليه:
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}، [الحجر من الآية: 94]، صدع بأمر الله، لا تأخذه في الله لومة لائمٍ، فدعا إلى الله الكبير والصّغير، والحرّ والعبد، والذّكر والأنثى، والجنّ والإنس.
ولما صدع بأمر الله، وصرح لقومه بالدّعوة، وبادأهم بسب آلهتهم، وعيب دينهم، اشتدّ أذاهم له ولِمَن استجاب له، وهذه سنة الله ـ عزّ وجلّ ـ في خلقه كما قال تعالى:
{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ}، [فصلت من الآية: 43].
وقال تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} الآية، [الأنعام من الآية: 112].
وقال تعالى:
{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}، [الذّاريات الآيتان: 52-53].
فعزى الله ـ سبحانه ـ نبيّه بذلك وأنّ له أسوة بِمَن تقدّمه، وعزّى أتباعه بقوله:
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية، [البقرة من الآية: 214].
وقوله:
{آلم.

ص -164-      َحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} ـ إلى قوله ـ: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}، [العنكبوت الآيات: 1-10].
فليتأمّل العبد سياق هذه الآيات، وما تضمنته من العبر وكنوز الحِكَم، فإنّ النّاس إذا أرسل إليهم الرّسل بين أمرين: إمّا أن يقول أحدهم: آمنا، وإمّا أن لا، بل يستمرّ على السّيّئات، فمَن قال: آمنا، فتنه ربّه، والفتنة: الابتلاء والاختبار، ليتبيّن الصّادق من الكاذب، ومَن لم يقل: آمنا، فلا يحسب أنّه يفوت الله ويسبقه، فمَن آمن بالرّسل، عاداه أعداؤهم، وآذوه، فابتلي بما يؤلمه، ومَن لم يطعهم عوقب في الدّنيا والآخرة.
فلا بدّ من حصول الألم لكلّ نفس، لكن المؤمن يحصل له الألم ابتداءً، ثم تكون له العاقبة في الدّنيا والآخرة، والمعرض تحصل له اللّذّة ابتداءً، ثم يصير إلى الألم الدّائم.
وسئل الشّافعي ـ رحمه الله ـ أيّما أفضل للرّجل أن يمكن أو يُبتلى؟
فقال: لا يمكن حتى يُبتلى، والله ـ عزّ وجلّ ـ ابتلى أولي العزم من رسله، فلمّا صبروا مكّنهم، فلا يظن أحد أنّه يخلص من الألم البتة فأعقلهم من باع ألماً مستمرّاً بألمٍ منقطعٍ، وأسفههم مَن باع الألم المنقطع اليسير بالألم المستمرّ العظيم.
فإن قيل: كيف يختار العاقل هذا؟
قيل: الحامل له على هذا النّقد والنّسيئة، والنّفس موكلة بالعاجل:
{كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ}، [القيامة الآيتان: 20-21]. {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ}، [الإنسان من الآية: 27].
وهذا يحصل لكلّ أحدٍ، فإنّ الإنسان لا بدّ له أن يعيش مع النّاس، ولهم إرادات يطلبون منه موافقتهم عليها، فإن لم يفعل آذوه،

ص -165-      أوعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب، تارة منهم، وتارة من غيرهم، كمن عنده دِينٌ وتُقَىً حلّ بين قوم ظلمة لا يتمكنون من ظلمهم إلاّ موافقته لهم، أو سكوته عنهم، فإن فعل سلم من شرّهم في الابتداء، ثم يتسلّطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداءً لو أنكر عليهم، وإن سلم منهم، فلا بدّ أن يهان على يد غيرهم.
فالحزم كلّ الحزم الأخذ بما قالته عائشة ـ رضي الله عنها ـ لمعاوية:
"مَن أرضى الله بسخط النّاس كفاه الله مؤنة النّاس، ومَن أرضى النّاس بسخط الله، لم يغنوا عنه من الله شيئاً".
ومَن تأمّل أحوال العالم، رأى هذا كثيراً، فيمَن يعين الرّؤساء وأهل البدع هرباً من عقوبتهم، فمَن وقاه الله شرّ نفسه، امتنع من الموافقة على المحرم، وصبر على عداوتهم، ثم تكون له العاقبة في الدّنيا والآخرة، كما كانت لِمَن ابتلي من العلماء وغيرهم.
ولَما كان الألم لا مخلص منه البتّة، عزّى الله ـ سبحانه ـ مَن اختار الألم المنقطع بقوله:
{مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، [العنكبوت: 5].
فضرب لهذا الألم المنقطع أجلاً وهو يوم لقائه، فيلتذّ العبد أعظم لذّةٍ بما تحمل من الألم لأجله، وأكّد هذا العزاء برجاء اللّقاء، ليحمل العبد اشتياقه إلى ربّه على تحمل الألم العاجل، بل ربّما غيّبه الشّوق عن شهود الألم والإحساس به، ولهذا سأل ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ربّه الشّوق إلى لقائه، وشوقه من أعظم النّعم، ولكن لهذه النّعمة أقوال وأعمال هما السّبب الذي تنال به، والله ـ سبحانه ـ سميع لتلك الأقوال عليم بتلك الأعمال، عليم بِمَن يصلح لهذه النّعمة، كما قال تعالى:
{وَكَذَلِكَ

ص -166-      فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} الآية، [الأنعام من الآية: 53]. فإذا فاتت العبد نعمة، فليقرأ على نفسه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}، [الأنعام من الآية: 53].
ثم عزّاهم تعالى بعزاء آخر، وهو أنّ جهادهم فيه إنّما هو لأنفسهم، وأنّه غني عن العالمين، فمصلحة هذا الجهاد ترجع إليهم لا له سبحانه، ثم أخبر أنّه يدخلهم بجهادهم وإيمانهم في زمرة الصّالحين، ثم أخبر عن حال الدّاخل في الإيمان بلا بصيرة، وأنّه يجعل فتنة النّاس، أي: أذاهم له ونيلهم إيّاه بالألم الذي لا بدّ منه، كعذاب الله الذي فرّ منه المؤمنون بالإيمان، فإذا جاء نصر الله لجنده قال: إني معكم والله أعلم بما انطوى عليه صدره من النفاق.
والمقصود أنّ الحكمة اقتضت أنّه سبحانه لا بدّ أن يمتحن النّفوس، فيظهر طيّبها من خبيثها، إذ النّفس في الأصل جاهلة ظالمة، وقد حصل لها بذلك من الخبث ما يحتاج خروجه إلى التّصفية، فإن خرج في هذه الدّار، وألاّ ففي كير جهنم، فإذا نقي العبد أذن له في دخول الجنة.

ص -167-      فصل
ولما دعا إلى الله، استجاب له عباد الله من كلّ قبيلةٍ، فكان حائز قصب سبقهم صدّيق الأمّة أبي بكر، فآزره في دين الله، ودعا معه إلى الله، فاستجاب لأبي بكر عثمان وطلحة وسعد.
وبادرت إلى الاستجابة صدِّيقة النّساء خديجة، وقامت بأعباء الصّدّيقية، وقال لها:
"لقد خشيت على نفسي". فقالت: أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً. ثم استدلت بما فيه من الصّفات على أنّ مَن كان كذلك، لم يخزه الله أبداً، فعلمت بفطرتها، وكمال عقلها أنّ الأعمال الصّالحة، والأخلاق الفاضلة تناسب كرامة الله وإحسانه، لا تناسب الخزي.
وبهذا العقل استحقت الصّديقة أن يرسل إليها ربّها السّلام منه مع رسوليه جبريل ومحمّد ـ عليهما السّلام ـ.
وبادر إلى الإسلام عليّ بن أبي طالب، وهو ابن ثمان سنين، وقيل: أكثر. وكان في كفالة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أخذه من عمّه إعانة له في سنة مِحْلٍ.
وبادر زيد بن حارثة حبّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وكان غلاماً لخديجة، فوهبته له، وجاء أبوه وعمّه في فدائه، فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"فهلاّ غير ذلك؟ فأخيره، فإن اختاركم فهو لكم

ص -168-      . فإن اختارني، فوالله ما أنا بالذي أختار على مَن اختارني أحداً". قالا: قد رددنا على النّصف، وأحسنت. فدعاه فخيّره، فقال: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً. قالا: ويحك يا زيد‍‌‍‌‍! أتختار العبودية على الحرّيّة، وعلى أهل بيتك؟ قال: نعم. لقد رأيت من هذا الرّجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً، فلمّا رأى ذلك رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أخرجه إلى الحجر، فقال: "أشهدكم أنّ زيداً ابني أرثه ويرثني". فلما رأيا ذلك طابت نفوسهماوانصرفا، ودعي زيد بن محمّدٍ حتى جاء الله بالإسلام، فنَزلت: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}، [الأحزاب من الآية: 5]، فدعي من يومئذٍ زيد بن حارثة. قال معمر عن الزّهري: ما علمنا أحداً أسلم قبل زيدٍ.
وأسلم ورقة بن نوفل، وفي (جامع التّرمذي): أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ رآه في المنام في هيئةٍ حسنةٍ.
ودخل النّاس في دين الله واحداً بعد واحدٍ، وقريش لا تنكر ذلك حتى بادأهم بعيب دينهم، وسب آلهتهم، فحينئذٍ شمّروا له ولأصحابه عن ساق العداوة، فحمى الله رسوله بأبي طالبٍ، لأنّه كان شريفاً معظماً فيهم، وكان من حكمة أحكم الحاكمين بقاؤه على دين قومه لما في ذلك من المصالح التي تبدو لِمَن تأمّلها.
وأمّا أصحابه، فمَن كانت له عشيرة تحميه، امتنع بهم، وسائرهم تصدّوا له بالعذاب، ومنهم عمّار وأمّه وأهل بيته، فإنّهم عذبوا في الله، وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذا مرّ بهم وهم يعذّبون يقول:
"صبراً يا آل ياسر، فإنّ موعدكم الجنة".ومنهم بلال، فإنّه عذّب في الله أشدّ

ص -169-      العذاب، هان عليهم، وهانت عليه نفسه في الله، وكان كلّما اشتدّ به العذاب يقول: أحد أحد. فيمرّ به ورقة بن نوفل، فيقول: إي والله يا بلال أحد أحد، أما والله لئن قتلتموه لأتّخذنّه حناناً.
ولما اشتدّ أذاهم على المؤمنين، وفُتِنَ منهم مَن فُتِن، أذن الله ـ سبحانه ـ لهم في الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة، وكان أوّل مَن هاجر إليها عثمان، ومعه زوجته رُقَيّة بنت رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وكانوا اثني عشر رجلاً، وأربع نسوة خرجوا متسلّلين سرّاً فوفق الله لهم ساعة وصولهم إلى السّاحل سفينتين، فحملوهم، وكان مخرجهم في رجب من السّنة الخامسة من المبعث، وخرجت قريش في آثارهم حتى جاؤا ساحل البحر، فلم يدركوهم، ثم بلغهم أنّ قريشاً قد كفوا عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فرجعوا، فلَمّا كانوا دون مكّة بساعة، بلغهم أنّهم أشدّ ما كانوا عداوة، فدخل من دخل منهم بجوار. وفي تلك المرّة دخل ابن مسعود، فسلم على النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وهو في الصّلاة، فلم يرد عليه، هذا هو الصّواب، كذا قال ابن إسحاق. قال فلما بلغهم أنّ ذلك باطلٌ، لم يدخل أحد منهم إلاّ بجوار أو مستخفياً، وكان مِمَن قدم منهم، فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة، فشهد بدراً، وأحداً. فذكر منهم ابن مسعود.
وحديث زيد بن أرقم أجيب عنه بجوابين:
أحدهما: أنّ النّهي ثبت بمكّة، ثم أذن فيه بالمدينة، ثم نهى عنه.
الثّاني: أنّ زيداً من صغار الصّحابة، وكان هو وجماعة يتكلّمون في الصّلاة على عادتهم، ولم يبلغهم النّهي، فلّما بلغهم انتهوا. ثم اشتدّ البلاء من قريش على مَن قدم من الحبشة وغيرهم، وسطت بهم عشائرهم،

ص -170-      فأذن لهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الخروج إلى أرض الحبشة مرّة ثانية، فكان خروجهم الثّاني أشقّ عليهم، ولقوا من قريش أذى شديداً، وصعب عليهم ما بلغهم عن النّجاشي من حسن جواره لهم.
فكان عدة من خرج في هذه المرّة ثلاثة وثمانين رجلاً إن كان عمار ابن ياسر فيهم، ومن النّساء تسع عشرة امرأة، قلت: قد ذكر في هذه الثّانية عثمان وجماعة مِمَن شهد بدراً، فإمّا أن يكون وهماً، وإمّا أن تكون لهم قدمة أخرى قبل بدر، فيكون لهم ثلاث قدمات، ولذلك قال ابن سعد وغيره: إنّهم لما سمعوا مهاجر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً، ومن النّساء ثمان، فمات منهم رجلان بمكّة، وحبس بمكّة سبعةٌ وشهد بدراً منهم أربعة وعشرون رجلاً، فلما كان شهر ربيع الأول سنة سبعٍ من الهجرة كتب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كتاباً إلى النّجاشي يدعوه إلى الإسلام مع عمرو بن أمية فأسلم، وقال: لو قدرت أن آتيه لأتيته، وكتب إليه أن يزوّجه أم حبيبة، وكانت فيمَن هاجر مع زوجها عبيد الله بن جَحْشٍ، فتنصر هناك، ومات نصرانياً، فزوجه النّجاشي إيّاها، وأصدقها عنه أربعمائة دينار، وكان الذي ولي تزويجها خالد بن سعيد بن العاص، وكتب إليه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أن يبعث إليه مَن بقي عنده من أصحابه، ويحملهم، فحملهم في سفينتين مع عمرو بن أمية، فقدموا على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بخيبر، فوجدوه قد فتحها.
وعلى هذا فيزول الإشكال الذي بين حديث ابن مسعود، وحديث زيد بن أرقم، ويكون تحريم الكلام بالمدينة.
فإن قيل: فما أحسنه لولا

ص -171-      أن ابن إسحاق قد قال ما حكيتم عنه أنّ ابن مسعود أقام بمكّة؟
قيل: قد ذكر ابن سعد أنّه أقام بمكّة يسيراً، ثم رجع إلى الحبشة، وهذا هو الأظهر؛ لأنّه لم يكن له بمكّة مَن يحميه، فتضمن هذا زيادة أمر خفي على ابن إسحاق، وابن إسحاق لم يذكر من حدّثه، وابن سعد أسنده إلى المطلب بن عبد الله بن حنطب، فزال الإشكال ولله الحمد.
وقد ذكر ابن إسحاق في هذه الهجرة أبا موسى الأشعري، وأنكر هذا عليه الوقدي وغيره، وقالوا: كيف يخفى هذا على مَن دونه؟ قلت: ليس هذا مما يخفى على مَن دونه فضلاً عنه؟! وإنّما نشأ الوهم أنّ أبا موسى هاجر من اليمن إلى عند جعفر وأصحابه، ثم قدم معهم، فعده ابن إسحاق لأبي موسى هجرة، ولم يقل: إنّه هاجر من مكّة لينكر عليه.

ص -172-      فصل
وانحاز المسلمون إلى النّجاشي آمنين، فبعثت قريش آثارهم عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص بهدايا للنّجاشي ليردّهم عليهم، وتشفعوا إليه بعظماء جنده، فأبى ذلك، فوشوا إليه أنّهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً، يقولون: إنّه عبد، فاستدعاهم ومقدَّمُهُم جعفر بن أبي طالب، فلما أرادوا الدّخول عليه، قال جعفر: يستأذن عليك حزب الله، فقال للآذن: قل له يعيد استئذانه. فأعاده. فلما دخلوا، قال: ما تقولون في عيسى؟ فتلا عليه جعفر صدراً من (كهيعص) فأخذ النّجاشي عوداً من الأرض، فقال: ما زاد على عيسى على هذا ولا مثل هذا العود، فتناخرت بطارقته حوله، قال: وإن نخرتم، وإن نخرتم. قال: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي، مَن سبّكم غرم. والسّيوم بلسانهم الآمنون. وقال للرسولين: لو أعطيتموني دبراً من ذهب ـ يقول: جبلاً من ذهب ـ ما أسلمتهم إليكما. ثم أمر، فردت عليهما هداياهما، ورجعا مقبوحين.
ثم أسلم حمزة وجماعة كثيرون، فلمّا رأت قريش أنّ أمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يعلو الأمور، أجمعوا على أن يتعاقدوا على بني هاشم وبني المطلب أن لا يبايعوهم، ولا يناكحوهم، ولا يكلّموهم، ولا يجالسوهم حتى يُسلموا إليهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وكتبوا بذلك صحيفة، وعلّقوها في سقف الكعبة كتبها بغيض بن عامر بن هاشم، فدعا عليه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فشلّت يده، فانحازوا مؤمنهم وكافرهم

ص -173-      إلى الشّعب إلاّ أبا لهب، فإنّه ظاهر قريشاً عليهم، وذلك سنة سبعٍ من البعثة، وبقوا محبوسين مضيّقاً عليهم جدّاً نحو ثلاث سنين، حتى بلغهم الجهد، وسمع أصواتُ صبيانهم بالبكاء من وراء الشّعب.
وهناك عمل أبو طالب قصيدته اللامية، وقريش بين راضٍ وكارهٍ، فسعى في نقضها كلّ مَن كان كارهاً لها، وَأَطْلَعَ الله رسوله على أمر صحيفتهم وأنّه سلّط عليها الأرضة، فأكلت ما فيها من قطيعةٍ وظلم إلاّ ذكر الله ـ عزّ وجلّ ـ، فأخبر بذلك عمّه، فخرج إلى قريش وأخبرهم، وقال: إن كان كاذباً خلّينا بينكم وبينه، وإن كان صادقاً رجعتم. قالوا: أنصفت. فأنزلوها، فلمّا رأوا الأمر كذلك، ازدادوا كفراً إلى كفرهم.
وخرج رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ومَن معه من الشّعب، ومات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر، وماتت خديجة بعده بثلاثة أيام، وقيل: غير ذلك. فاشتدّ البلاء على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من سفهاء قومه، فخرج إلى الطّائف رجاء أن ينصروه عليهم، ودعا إلى الله، فلم يرَ مَن يؤوي، ولم يرَ ناصراً، وآذوه أشدّ الأذى، ونالوا منه ما لم ينل قومه، ومعه زيد بن حارثة، فأقام بينهم عشرة أيّام لا يدع أحداً من أشرافهم إلاّ كلّمه، فقالوا: اخرج من بلدنا. وأغروا به سفهاءهم، فوقفوا له سماطين، وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه، وزيد يقيه بنفسه حتى أصابه شجاج في رأسه، فانصرف إلى مكّة محزوناً.
وفي مرجعه ذلك دعا بالدّعاء المشهور:
"اللهم إليك أشكو ضعف قوّتي، وقلة حيلتي..." الخ.

ص -174-      فأرسل ربّه ـ تبارك وتعالى ـ إليه مَلَك الجبال يستأمره أن يُطبق الأخشبين على أهل مكّة، وهما جبلاها اللّذان هي بينهما، فقال: "بل أستأني بهم لعلّ الله يخرج من أصلابهم مَن يعبده لا يشرك به شيئاً".
فلمّا نزل بنخلة في مرجعه، قام يصلّي من اللّيل، فصرف الله إليه نفراً من الجنّ، فاستمعوا قراءته ولم يشعر بهم حتى نزل عليه:
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ}، [الأحقاف من الآية: 29]. وأقام بنخلة أيّاماً، قال له زيد: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ يعني: قريشاً، قال: "يا زيد إنّ الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإنّ الله ناصر دينه، ومظهر نبيّه".
فلمّا انتهى إلى مكّة، أرسل رجلاً من خزاعة إلى مطعم بن عدي:
"أدخل في جوارك؟"، فقال: نعم. فدعا بنيه وقومه، وقال: البسوا السّلام، وكونوا عند أركان البيت، فإنّي قد أجرتُ محمّداً.
فدخل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم على راحلته، فنادى: يا معشر قريش إنّي قد أجرتُ محمّداً، فلا يهجه أحد منكم.
فانتهى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلى الرّكن، فاستلمه، وصلّى ركعتين، وانصرف إلى بيته ومطعم وولده محدقون به بالسّلاح حتّى دخل بيته.

ص -175-      فصل
ثم أسري برسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بجسده على الصّحيح من المسجد الحرام إلى البيت المقدس راكباً على البراق صحبةً جبرائيل، فنَزل هناك، وصلّى بالأنبياء إماماً، وربط البراق بحلقة باب المسجد. وقيل: إنّّه نزل بيت لحم، ولا يصحّ عنه ذلك البتّة.
ثم عُرِجَ به تلك اللّيلة من بيت المقدس إلى السّماء الدّنيا، فاستفتح له جبرائيل، ففتح لهما، فرأى هناك آدم أبا البشر ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فسلّم عليه، فردّ عليه السّلام، ورحّب به، وأقرّ بنبوّته، وأراه الله أرواح السّعداء من بنيه عن يمينه، وأرواح الأشقياء عن يساره.
ثم عُرِجَ به إلى السّماء الثّانية، فرأى فيها يحيى وعيسى، ثم عُرِجَ به إلى السّماء الثّالثة، فرأى فيها يوسف، ثم إلى الرّابعة، فرأى فيها إدريس، ثم إلى الخامسة، فلقي فيها هارون، ثم إلى السّادسة، فلقي فيها موسى، فلما جاوزه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: لأنّ غلاماً بُعِثَ بعدي يدخل الجنة من أمّته أكثر مِمَن يدخلها من أُمّتي، ثم إلى السّابعة، فلقي فيها إبراهيم، ثم رفعت له سدرة المنتهى، ثم رفع له البيت المعمور، ثم عُرِجَ به إلى الجبار ـ جلّ جلاله ـ، فدنا منه حتّى كان
{قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}، [النّجم الآيتان: 90-10].
وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مرّ على موسى فقال:

ص -176-      بِمَ أُمِرْتَ؟ قال: "بخمسين صلاة"، قال: إنّ أُمّتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربّك، فاسأله التّخفيف لأمّتك، فَالْتَفَتَ إلى جبريل كأنّه يستشيره، فأشار: أن نعم إن شئت. فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار ـ تبارك وتعالى ـ وهو مكانه. هذا لفظ البخاري في (صحيحه).
وفي بعض الطّرق: فوضع عنه عشراً، ثم نزل حتى مرّ بموسى، فأخبره، فقال: ارجع إلى ربّك فاسأله التّخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله ـ تبارك وتعالى ـ حتى جعلها خمساً فأمره موسى بالرّجوع وسؤال التّخفيف. قال:
"قد استحييت من ربّي، ولكني أرضى وأسلم". فلمّا نفذ، نادى منادٍ: "قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي".
واختلف الصّحابة: هل رأى ربّه تلك اللّيلة أم لا؟
فصحّ عن ابن عبّاس أنّه رآه، وصحّ عنه أنّه قال: رآه بفؤاده، وصحّ عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك، وقالا: إنّ قوله:
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}، [انّجم:13]، إنّما هو جبرائيل، وصحّ عن أبي ذرٍّ أنّه سأله: هل رأيتَ ربّك؟ قال: "نور أَنَّى أراه". حال بيني وبين رؤيته النّور، كما في اللّفظ الآخر: "رأيتُ نوراً".
وحكى الدّارمي اتّفاق الصّحابة أنّه لم يرَه.
قال شيخ الإسلام: وليس قول ابن عبّاس مناقضاً لهذا، ولا قوله: رآه بفؤاده. وقد صحّ عنه:
"رأيتُ ربّي تبارك وتعالى". لكن هذا في المدينة في منامه.
وعلى هذا بنى الإمام أحمد، فقال: نعم رآه، فإنّ رؤيا الأنبياء

ص -177-      حقٌّ ولا بدّ، ولم يقل: إنّه رآه في يقظته، لكن مرّة قال: رآه، ومرّة قال: رآه بفؤاده، وحكيت عنه رواية من تصرف بعض أصحابه أنّه رآه بعينِي رأسه، وهذه نصوصه موجودة ليس فيها ذلك، وأمّا قول ابن عبّاس: إنّه رآه بفؤاده مرّتين، فإن كان استناده إلى قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}، [النّجم: 11]، ثم قال: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}، [النّجم:13]، والظّاهر أنّه مستنده، فصّح عنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أنّ هذا المرئي جبرائيل رآه في صورته مرّتين، وقول ابن عبّاس هذا، هو مستند أحمد في قوله: رآه بفؤاده.
وأمّا قوله:
{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}، [النّجم: 8]، فهذا غير الدّنوّ والتّدلّي في قصة الإسراء، فالذي في القرآن جبرائيل كما قالت عائشة وابن مسعود، والسّياق يدلّ عليه، فإنّه قال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}، [النّجم: 5]، إلى آخره.
وأمّا (الدّنوّ) و(التّدلّي) في الحديث، فهو صريح أنّه دنوّ الرّبّ تبارك وتعالى وتدلّيه.
فلمّا أصبح ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في قومه، أخبرهم، فاشتدّ تكذيبهم له، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس، فجلاه الله حتى عاينه، وطفق يخبرهم عنه، ولا يستطيعون أن يردوا عليه، وأخبرهم عن عيرهم، في مسراه ورجوعه، وعن وقت قدومها، والبعير الذي يقدمها، فكان الأمر كما قال: فلم يزدهم ذلك إلاّ ثبوراً.
ونقل ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنّهما قالا: إنّ الإسراء بروحه، ولكن ينبغي أن يعلم الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناماً، وبين ذلك وبينهما فرقٌ عظيمٌ، وهما لم يقولا إنّ الإسراء كان مناماً فإنّ ما يراه النّائم قد يكون

ص -178-      أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصّور المحسوسة، فيرى كأنّه قد عُرِجَ به إلى السّماء، أو ذُهب به إلى مكّة، وروحه لم تصعد، ولم يذهب، وإنّما مَلك الرّؤيا ضرب له المثال، والذين قالوا: عُرِجَ بروحه، لم يريدوا أنّه كان مناماً، وإنّما أرادوا أنّ الرّوح عُرِجِ بها حقيقة، وباشرت منه جنس ما تباشر بعد المفارقة، لكن لما كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في مقام خرق العوائد حتى يشقّ بطنه وهو حي لا يتألم، عُرِجَ بذات روحه حقيقة من غير إماتة، ومَن سواه لا تنال روحه ذلك إلاّ بعد الموت، فإنّ الأنبياء إنّما استقرّت أرواحهم في الرّفيق الأعلى بعد موتهم، ومع هذا فلها إشراف على البدن بحيث يرد السّلام على مَن سلم عليه، وبهذا التّعلق رأى موسى يصلّي في قبره، ورآه في السّماء.
ومعلوم أنّه لم يعرج به من قبره، ثم ردّ عليه، بل ذلك مقام روحه واستقرارها، وقبره مقام بدنه واستقراره إلى معاد الأرواح إلى أجسادها، ومن كثف إدراكه عن هذا، فلينظر إلى الشّمس في علوّ محلّها وتأثيرها في الأرض وحياة النّبات والحيوان بها، وشأن الرّوح فوق هذا.
 فَقُلْ للعيونِ الرُّمدِ إِيَّاكِ أن تَري            سَنَا الشَّمْسِ فاسْتَغْشي ظلام اللّياليا
قال ابن عبد البرّ: كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران. انتهى.
وكان الإسراء مرّة، وقيل: مرّتين، مرّة يقظة، ومرّة مناماً، وأرباب هذا كأنّهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك وغيره؛ لقوله فيه:
"ثم استيقظت وأنا في المسجد". وقوله فيه: "وذلك قبل أن يوحى إليه".

ص -179-      ومنهم مَن قال: ثلاث مرّات. وكلّ هذا خبط. وهذه طريقة ضعفاء الظّاهرية من أرباب النّقل، والصّواب الذي عليه أئمة أهل النّقل أنّ الإسراء كان مرّةً واحدةً، ويا عجباً لهؤلاء كيف ساغ لهم أن يظنّوا أنّه في كلّ مرّة تُفرض عليه الصّلاة خمسين.
وقد غلّط الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه، ثم قال: فقدّم وأخّر وزاد ونقص. ولم يسرد الحديث، وأجاد رحمه الله.

ص -180-      فصل: في مبدأ الهجرة التي فرّق الله بها بين أوليائه وأعدائه
وجعلها مبدأ لإعزاز دينه ونصرة رسوله
قال الزّهري: حدّثني محمّد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، ويزيد بن رومان وغيرهما قالوا: أقام رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بمكّة ثلاث سنين من أوّل نبوّته مستخفياً، ثم أعلن في الرّابعة، فدعا النّاس إلى الإسلام عشر سنين يوافي الموسم كلّ عامٍ يتبع الحاج في منازلهم، وفي المواسم بعكاظ ومجنّة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربّه ولهم الجنّة، فلا يجد أحداً ينصره، ولا يجيبه حتى إنّه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة، فيقول:
"يا أيّها النّاس قولوا: لا إله إلاّ الله. تفحلوا وملكوا بها العرب، وتدين لكم بها العجم فإذا متم كنتم ملوكاً في الجنة".
وأبو لهبٍ وراءه يقول: لا تطيعوه، فإنّه صابئ كذّاب، فيردّون على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أقبح الرّدّ، ويؤذونه، ويقولون: عشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك، وهو يدعوهم إلى الله، ويقول:
"اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا"، قال: وكان مَن سُمي لنا من القبائل الذين عرض نفسه عليهم بنو عامر بن صعصعة، ومحارب بن خصفة، وفزارة، وغسان، ومرة، وحنيفة، وسُليم، وعبس، وبنو نضر،

 

ص -181-      وبنو البكاء1، وكندة، وكلب، والحارث بن كعب، وعُذرة، والحضارمة، فلم يستجب منهم أحد.
وكان مما صنع الله لرسوله أنّ الأوس والخزرج كانوا يسمعون من حلفائهم يهود المدينة أنّ نبيّاً سيخرج في هذا الزّمان فنتبعه، ونقلتكم معه قتل عادٍ وإرم، وكانت الأنصار يحجّون كما كانت العرب تحجّ دون اليهود، فلمّا رأوا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يدعو النّاس إلى الله، وتأمّلوا أحواله، قال بعضهم لبعضٍ: تعلمون والله يا قوم أنّ هذا الذي توعدكم به اليهود، فلا يسبقنكم إليه. وكان سويد بن الصّامت من الأوس قد قدم مكّة، فدعاه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فلم يبعد ثم قدمها أنس بن رافع في فتية من بني عبد الأشهل يطلبون الحلف، فدعاهم إلى الإسلام، فقال إياس بن معاذ وكان شاباً، يا قوم هذا والله خير مما جئنا له. فضربه أنس وانتهره، فسكت، فانصرفوا إلى المدينة.
ثم إنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لقي عند العقبة في الموسم ستة نفرٍ كلّهم من الخزرج: أسعد بن زرارة، وجابر بن عبد الله، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، فدعاهم إلى الإسلام، فأسلموا، ثم رجعوا إلى المدينة، فدعوا النّاس إلى الإسلام، ففشى فيها حتى لم يبق دار إلاّ وقد دخلها الإسلام، فلَمّا كان العام المقبل، جاء منهم اثنا عشر رجلاً السّتة الأول خلا جابر، ومعهم معاذ ابن الحارث أخو عوف، وذكوان بن عبد قيس، وأقام بمكّة حتى هاجر، فهو مهاجري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصلين، ونهاية الأرب وغيرها، وفي زاد المعاد: "النكا".

ص -182-      أنصاري، وعبادة بن الصّامت، ويزيد بن ثعلبة، وأبو الهيثم ابن التّيهان، وعويمر بن ساعدة.
قال أبو الزّبير عن جابر: إنّ النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لبث عشر سنين يتبع النّاس في منازلهم في الموسم ومجنّة عكاظ: "مَن يؤويني ومَن ينصرني حتى أبلّغ رسالات ربّي وله الجنّة؟". فلا يجد أحداً حتى إنّ الرّجل ليرحل من مصر أو اليمن إلى ذي رحمه، فيأتيه قومه، فيقولون: احذر غلام قريشٍ. ويمشي بين رجالهم يدعوهم إلى الله وهم يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثنا الله من يثرب، فيأتيه الرّجل منا، فيؤمن به، ويقرؤه القرآن، فينقلب إلى أهله، فيسلمون بإسلامه، فأجمعنا، وقلنا: حتى متى رسول الله يُطردُ في جبال مكّة؟ فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم، فواعدنا بيعة العقبة، فقال له العبّاس: ما أدري ما هؤلاء القوم إنّي ذو معرفة بأهل يثرب. فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين، فلما نظر العبّاس في وجوهنا قال: هؤلاء قوم لا نعرفهم، هؤلاء أحداث، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال:
"على السّمع والطّاعة في النّشاط والكسل، وعلى النّفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم فيه لومة لائمٍ، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنّة".
فقمنا نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زرارة فقال: رويداً يا أهل يثرب إنا لم نضرب إليه أكباد المطيّ إلاّ ونحن نعلم أنّه رسول الله، وأنّ إخراجه اليوم مفارقة العرب كافّة، وأنّ تعضَّكم السّيوف، فإمّا تصبرون على ذلك، فخذوه وأجركم على الله، وإمّا تخافون من أنفسكم خيفة، فذروه فهو أعذر لكم عند الله. فقالوا: أمط عنا يدك، فوالله لا نذر

ص -183-      هذه البيعة، ولا نستقيلها. فقمنا إليه رجلاً رجلاً فأخذ علينا يعطينا بذلك الجنّة.
ثم انصرفوا إلى المدينة، وبعث معهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ابن أمّ مكتوم، ومصعب بن عمير يعلّمان القرآن، ويدعوان إلى الله، فنَزلا على أسعد بن زرارة،، وكان مصعب بن عمير يؤمّهم، وجمّع بهم لَمّا بلغو أربعين، فأسلم على يديهما بشر كثير، منهم: أسيد بن حَضير، وسعد بن معاذ، وأسلم بإسلامهما يومئذٍ جميع بني عبد الأشهل إلاّ الأصيرم فتأخّر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم حينئذٍ، وقاتل حتى قتل ولم يسجد لله سجدةً، فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"عمل قليل وأجر كثير". وكثر الإسلام في المدينة وظهر.
ثم رجع مصعب إلى مكّة ووافى الموسم ذاك العام خلق كثير من الأنصار من المسلمين والمشركين، وزعيم القوم البراء بن معرور، فكانت بيعة العقبة، وكان أوّل من بايعه البراء بن معرور، وكانت له اليد البيضاء إذ أكّد العقد وبادر إليه، واختار رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ منهم تلك اللّيلة اثني عشر نقيباً، فلما تمت البيعة استأذنوه على أن يميلوا على أهل منى بأسيافهم فلم يأذن لهم، وصرخ الشّيطان على العقبة بأبعد صوتٍ سُمع: يا أهل الجباجب هل لكم في محمّدٍ والصَّبأَة معه قد اجتمعوا على حربكم. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"هذا أزب العقبة، أمّا والله يا عدوّ الله لأتفرَّغنَّ لك"، ثم أمرهم أن ينفضوا إلى رحالهم، فلمّا أصبحوا غدت عليهم أشراف قريشٍ فقالوا: بلغنا أنّكم لقيتم صاحبنا البارحة وواعدتموه أن تبايعوه على حربنا، وأيم الله ما حي من العرب أبغض

ص -184-      إلينا من أن تنشب بيننا وبينه الحرب منكم. فانبعث مَن هناك من المشركين يحلفون بالله: ما كان هذا. وجعل ابن أبي يقول: هذا باطل، وما كان قومي ليفتاتوا عليّ بمثل هذا، ولو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني. فرجعت قريش، ورحل البراء إلى بطن يأجج وتلاحق أصحابه من المسلمين وطلبتهم قريش، فأدركوا سعد بن عبادة، فجلعوا يضربونه حتى أدخلوه مكّة، فجاء مطعم بن عدي، والحارث بن حربٍ بن أمية، فخلصاه منهم، وتشاورت الأنصار حين فقدوه أن يكرّوا إليه، فإذا هو قد طلع عليهم فرحلوا جميعاً.
وأذن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ للمسلمين في الهجرة إلى المدينة، فبادر النّاس، فكان أوّل مَن خرج إليها أبو سلمة وامرأته، ولكنها حبست عنه سنة وحيل بينها وبين ولدها، ثم خرجت بعدُ بولدها إلى المدينة، وشيّعها عثمان بن أبي طلحة.
ثم خرج النّاس أرسالاً، ولم يبق بمكّة إلاّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وأبو بكرٍ وعليّ ـ أقاما بأمره لهما ـ وإلاّ مَن احتبَسه المشركون كرهاً، وأعدّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ جهازه ينتظر متى يؤمر، وأعدّ أبو بكر جهازه.
فلمّا رأى المشركون أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قد خرجوا وساقوا الذّراري والأموال إلى المدينة، وأنّها دار منعة وأهلها أهل بأس، خافوا خروج رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إليهم، فيشتدّ عليهم أمره، فاجتمعوا في دار النّدوة، وحضرهم إبليس في صورة شيخٍ من أهل نجد مشتمل الصّماء في كسائه، فأشار كلّ واحدٍ برأيٍ

ص -185-      والشّيخ لا يرضاه، حتى قال أبو جهل: أرى أن نأخذ من كلّ قبيلةٍ غلاماً جَلَداً، ثم نعطيه سيفاً صارماً، ثم يضربونه ضربةً رجلٍ واحدٍ، فلا تدري بنو عبد منافٍ ما تصنع بعد ذلك، ونسوق ديتَه.
قال الشّيخ: هذا والله الرّأي. فتفرّقوا عليه، فجاءه جبريل فأخبره؛ وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك اللّيلة.
وجاء رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلى أبي بكر نصف النّهار في ساعةٍ لم يكن يأتيه فيها متقنعاً، فقال له:
"اخرج من عندك"، فقال: إنّما هم أهلك يا رسول الله، فقال: "إنّ الله قد أذن لي في الخروج". فقال أبو بكر: الصّحبة يا رسول الله، فقال: "نعم". قال: فخذ بأبي وأمي إحدى راحلتي هاتين. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "بالثّمن"، وأمر عليّاً أن يبيتَ في مضجعه تلك اللّيلة، واجتمع أولئك النّفر يتطلعون من صير الباب يريدون بياته ويأتمرون أيّهم يكون أشقاها، فخرج رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذرّه على رؤوسهم وهو يتلو: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}، [يّـس:9]، ومضى إلى بيت أبي بكرٍ، فخرجا من خوخةٍ فيه ليلاً، وجاء رجل فرأى القوم ببابه. فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: محمّداً. قال: خبتم وخسرتم، قد والله مرَّ بكم، وذرّ على رؤوسكم التّراب. فقاموا ينفضون عن رؤوسهم، فلَمّا أصبحوا قام عليّ عن الفراش فسألوه عن النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فقال: لا علم لي به.
ثم مضى وأبو بكر إلى غار ثور فدخلاه، وضرب العنكبوت على بابه، وكانا قد استأجرا ابن أريقط اللّيثي، وكان ماهراً بالطّريق وهو على

ص -186-      دين قومه، وأمناه على ذلك، وسلما إليه واحلتيهما، وواعداه الغار بعد ثلاث، وجدّت قريش في طلبهما، وأخذوا معهم القافة حتى انتهوا إلى باب الغار، وكان عامر بن فهيرة يرعى عليهما غنماً لأبي بكر، ومكثا فيه ثلاثاً حتى خمدت عنهما نار الطّلب، ثم جاءهما ابن أرقيط بالرّاحلتين فارتحلا، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة، وسار الدّليل أمامهما وعين الله تصحبهما، وإسعاده ينْزلهما ويرحّلهما.
ولما أيس المشركون منهما جعلوا لِمَن جاء بهما دية كلّ واحدٍ منهما، فجد النّاس في الطّلب والله غالب على أمره، فلمّا مرّو بحي بني مدلج مصعدين من قديد بصر بهم رجلٌ من الحي، فقال لهم: لقد رأيت بالسّاحل أسودة ما أراها إلاّ محمّداً وأصحابه. ففطن سُراقة، فأراد أن يكون له الظّفر خاصّة، وقد سبق له من الظّفر ما لم يكن في حسابه، فقال: بل هما فلان وفلان، خرجا في طلب حاجّةٍ لهما.
ثم مكث قليلاً، ثم قام فدخل خباءه وقال لخادمه: اخرجي بالفرس من وراء الخباء وموعدُك وراء الأكمة، ثم أخذ رمحه وخفض عاليه يخط به الأرض حتى ركب فرسه، فلمّا قرب منهم؛ وسمع قراءة النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات، قال أبو بكر: يا رسول الله هذا سراقة قد رهقنا. فدعا عليه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فساخت يدا فرسه في الأرض، فقال: قد علمتُ أنّ الذي أصابني بدعائكما فادعوا الله لي، ولكما عليّ أن أردّ النّاس عنكما. فدعا له رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فأطلق فرسه، وسأله أن يكتب له كتاباً، فكتب له أبو بكر بأمره في أديم، وكان معه إلى يوم فتح مكّة، فجاء

ص -187-      بالكتاب فوفى له رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وقال: "اليوم يوم وفاء وبرّ"، وعرض عليهما الزّاد والحملان، فقالا: لا حاجة لنا به ولكن عَمِّ عنا الطّلب. فقال: قد كفيتم، ورجع فوجد النّاس في الطّلب، فجعل يقول: قد استبرأت لكم الخبر، فكان أوّل النّهار جاهداً عليهما، وآخره حارساً لهما.
ثم مرّا في مسيرهما ذلك بخيمتي أم معبد الخزاعية، وذكر القصّة، ثم قال: وأصبح صوت عالياً بمكّة يسمعونه ولا يرون القائل:
جزى الله ربّ النّاس خير جزائه            رفيقين حلاّ خيمتي أم معبدٍ
هما نزلا بالبرّ وارتحلا به        فأفلح مَن أمسى رفيق محمّدٍ
فيا لقُصَيّ ما زوى الله عنكم   به من فخار لا يجازى وسؤدد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها             فإنّكم إن تسألوا الشّاة تشهد
دعاها بشاةٍ حائل فتحلّبت    له بصريح ضرة الشّاة مزيد
نَبِيٌّ يرى ما لا يرى النّاس حوله            ويتلو كتاب الله في كلّ مشهد
وإن قال في يومٍ مقالة غائبٍ  فتصديقها في ضحوة اليوم أو غد
ترحّل عن قومٍ فزالت عقولهم  وحل على قومٍ بنورٍ مجدّدٍ
هداهم به بعد الضّلالة ربّهم   وأرشدهم مَن يتبع الحقّ يرشد
لِيَهْنِ أبا بكرٍ سعادة جدّه       بصحبته مَن يُسعد الله يسعد
ويهنَ بني كعبٍ مكان فتاتهم  ومقعدها للمؤمنين بمرصدٍ
قالت أسماء: ما درينا أين توجّه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذ أقبل رجلٌ من الجنّ من أسفل مكّة، فأنشد هذه الأبيات، والنّاس يتبعونه يسمعون صوته وما يرونه، حتى خرج من أعلاها. قالت: فلمّا سمعنا قوله عرفنا حيث توجّه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وأنّ وجهه إلى المدينة.

ص -188-      فصل
وبلغ الأنصار مخرج رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من مكّة، فكانوا يخرجون كلّ يومٍ إلى الحرة، فإذا اشتدّ حرّ الشمس رجعوا إلى منازلهم.
فلمّا كان يوم الاثنين الثّاني عشر من ربيع الأوّل على رأس ثلاثة عشر من نبوّته خرجوا على عادتهم، فلمّا حميت الشّمس رجعوا، وصعد رجل من اليهود على أُطُمٍ من آطام المدينة لبعض شأنه، فرأى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وأصحابه مبيضين يزول بهم السّراب، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قَيْلة هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدّكم الذي تنتظرون. فثار الأنصار إلى السّلاح ليتلقوه، وسمعت الوجبة والتّكبير في بني عمرو بن عوف، وكبّر المسلمون فرحاً بقدومه، وخرجوا للقائه، وتلقوه وحيّوه بتحيّة النّبوّة وأحدقوا به مطيفين حوله، والسّكينة تغشاه، والوحي ينْزل عليه، والله:
{هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}، [التحريم من الآية: 4].
فسار حتى نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، فنَزل على كلثوم بن الهدم، وقيل: على سعد بن خيثمة. فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، وأسّس مسجد قباء، وهو أوّل مسجدٍ أُسِّس بعد النّبوّة، فلمّا كان يوم الجمعة ركب بأمر الله، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، ثم ركب فأخذوا بخطام راحلته: هلم إلى العدد والعدّة والسّلاح والمنعة. فقال:
"خلوا سبيلها فإنّها مأمورة". فلم تزل سائرة به لا يمرّ بدارٍ من دور الأنصار إلاّ رغبوا إليه في النّزول عليهم

ص -189-      ويقول: "دعوها فإنّها مأمورة"، فسارت حتى وصلت موضع مسجده اليوم فبركت ولم ينْزل عنها حتى نهضت، وسارت قليلاً، ثم التفتت ورجعت في موضعها الأوّل فبركت، فنَزل عنها وذلك في بني النّجار أخواله. وكان من توفيق الله لها، فإنّه أحبّ أن ينْزل عليهم ليكرمهم بذلك، فجعلوا يكلّمونه في النّزول عليهم، وبادر أبو أيّوب إلى رحله فأدخله بيته، فجعل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يقول: "المرء مع رحله"، وجاء أسعد بن زرارة، فأخذ ناقته فكانت عنده، وأصبح كما قال قيس بن صرمة الأنصاري ـ وكان ابن عبّاس يَختلف إليه يتحفظها:
ثوى في قريشٍ بضع عشرة حجةٍ         يذكر لو يلقى حبيباً مواتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه         فلم يرَ مَن يؤوي ولم يرَ داعيا
فلمّا أتانا واستقرّت به النّوى   وأصبح مسروراً بطيبة راضيا
وأصبح لا يخشى ظلامة ظالمٍ بعيد ولا يخشى من النّاس باغيا
بذلنا له الأموال من حلّ مالنا  وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
نعادي الذي عادى من النّاس كلّهم      جميعاً وإن كان الحبيب المصافيا
ونعلم أنّ الله لا ربّ غيره       وأنّ كتاب الله أصبح هاديا
             
قال ابن عبّاس: كان النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بمكّة، فأمر بالهجرة، وأنزل عليه: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً}، [الإسراء:80]. قال قتادة: أخرجه

ص -190-      الله من مكّة إلى المدينة مخرج صدقٍ وبني الله يعلم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلاّ بسلطانٍ، فسأل الله سلطاناً نصيراً، وأراه الله دار الهجرة وهو بمكّة، فقال: "أريت دار هجرتكم بسبخة ذات نخلٍ بين لابتين".
قال البراء: أوّل مَن قدم علينا من أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ مصعب بن عمير، وابن أمّ مكتوم، فجعلا يقرئان النّاس القرآن، ثم جاء عمار بن ياسر، وبلال، وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين راكباً، ثم جاء رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فما رأيت النّاس فرحوا بشيء فرحهم به، حتى رأيت النّساء والصّبيان والإماء يقولون: هذا رسول الله قد جاء. فأقام في منْزل أبي أيّوب حتى بنى حجرته ومسجده، وبعث ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وهو في منْزل أبي أيّوب، زيد بن حارثة وأبا رافعٍ وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكّة، فقدما عليه بفاطمة، وأم كلثوم ابنتيه، وسودة زوجته، وأسامة بن زيد، وأمّه أم أيمن.
وأمّا زينب، فلم يمكنّها زوجها أبو العاص من الخروج، وخرج عبد الله بن أبي بكر معهم بعيال أبي بكرٍ وفيهم عائشة فنَزلوا في بيت حارثة بن النّعمان.

ص -191-      فصل في بناء المسجد
قال الزّهري: بركت ناقته ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عند موضع مسجده وهو يومئذٍ يصلّي فيه رجال من المسلمين، وكان مربداً ليتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فساومهما فيه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فقالا: بل نهبه لك. فأبى حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير، وكان جداراً ليس له سقف وقبلتُه إلى بيت المقدس، وكان يصلّي فيه ويجمّع أسعد بن زرارة قبل مقدم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وكان فيه شجر غرقد ونخل، وقبور للمشركين، فأمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بالقبور فنبشت، وبالنّخل والشّجر فقطع، وصفت في قبلة المسجد، وجعل طوله مما يلي القبلة مائة ذراع إلى المؤخّرة، وفي الجانبين مثل ذلك أو دونه، وجعل أساسه قريباً من ثلاثة أذرع، ثم بنوه باللّبن، ورسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يبني معهم، وينقل اللّبن والحجارة بنفسه، ويقول:
الهم لا عيش إلاّ عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
وكان يقول:
ذا الحِمال لا حِمال خيبر        هذا أبرُّ ربّنا وأطهر

ص -192-      وجعلوا يرتجزون وهم ينقلون اللّبن، وجعل بعضهم يقول في رجزه:
لئن قعدنا والرّسول يعملُ      لذاك منّا العمل المضلّل
وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: باباً في مؤخّره، وباباً يقال له: باب الرّحمة، والباب الذي يدخل منه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وجعل عُمُدَه الجذوع وسقفه الجريد، وقيل له: ألا تسقِّفه؟ فقال: "لا عريش كعريش موسى". وبنى بيوتاً إلى جانبه بيوت أزواجه باللّبن، وسقفها بالجذوع والجريد، فلمّا فرغ من البناء بنى بعائشة في البيت الذي بناه لها شرقي المسجد، وجعل لسودة بيتاً آخر.
ثم آخى بين المهاجرين والأنصار، وكانوا تسعين رجلاً، نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار على المواساة، ويتوارثون بعد الموت إلى وقعة بدرٍ، فلمّا نزلت:
{وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} الآية، [الأحزاب من الآية: 6]، ردّ التّوارث إلى الرّحم. وقيل: إنّه آخى بين المهاجرين ثانية، واتّخذ عليّاً أخاً، والأوّل أثبت. ولو كان ذلك، لكان أحقّ النّاس بأخوّته الصّدِّيق الذي قال فيه: "لو كنتُ متّخذاً من أمّتي خليلاً لاتّخذتُ أبا بكرٍ خليلاً، ولكن أخي وصاحبي".
وهذه الأخوّة وإن كانت عامّة كما قال:
"وددت أنا قد رأينا إخواننا"، قالوا: ألسنا إخوتنك؟ قال: "أنتم أصحابي، وإخواني قوم يأتون من بعدي، يؤمنون بي ولم يروني". فللصِّدِّيق من هذه الأخوة أعلى مراتبها كما له من الصّحبة أعلى مراتبها، ووادعَ مَن بالمدينة من اليهود، وكتب بينه وبينهم كتاباً، وبادر

ص -193-      حبرهم عبد الله بن سلام، فدخل في الإسلام، وأبى عامّتهم إلاّ الكفر، وكانوا ثلاث قبائل: قينقاع، والنّضير، وقريظة، وحاربه الثّلاثة، فمَنَّ على قينقاع، وأجلى النّضير، وقتل قريظة، وسبى ذرّيّتهم، ونزلت سورة الحشر في النّضير، والأحزاب في قريظة.
وكان يصلّي إلى بيت المقدس، وقال لجبريل:
"ودت أنّ الله صرف وجهي عن قبلة اليهود". فقال: "إنّما أنا عبد فادع ربَّك واسأله". فجعل يقلّب وجهه في السّماء يرجو ذلك، فأنزل الله عليه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية، [البقرة من الآية: 144]، وذلك بعد ستة عشر شهراً من مَقْدَمه المدينة قبل بدرٍ بشهرين، وكان في ذلك حِكَمٌ عظيمةٌ، ومحنة للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين.
فأمّا المسلمون فقالوا:
{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران من الآية: 7]، وهم الذين هدى الله، ولم تكن كبيرة عليهم.
وأمّا المشركون، فقالوا: كما رجع إلى قبلتنا يُوشك أن يرجع إلى ديننا، وما رجع إليها إلاّ أنّها الحقّ.
وأمّا اليهود، فقالوا: خالف قبلة الأنبياء قبله.
وأمّا المنافقون، فقالوا: ما يدري أين يتوجّه إن كانت الأولى حقّاً فقد تركها، وإن كانت الثّانية هي الحقّ، فقد كان على باطلٍ.
وكثرت أقاويل السّفهاء من النّاس، وكانت كما قال الله تعالى:
{وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} الآية [البقرة من الآية: 143]، وكانت محنةً من الله ليرى مَن يتّبع الرّسول مِمَن ينقلب على عقبيه، ولما كان شأن القبلة عظيماً وطّأ سبحانه قبلها أمر النّسخ وقدرته عليه، وأنّه يأتي بخيرٍ من المنسوخ أو مثله، ثم عقّبه بالتّوبيخ لِمَن تعنّت على رسوله، ولم يَنْقَد له.
ثم ذكر اختلاف اليهود والنّصارى وشهادة بعضهم على بعضٍ بأنّهم

ص -194-      ليسوا على شيءٍ، وحذّر عباده من موافقتهم واتّباع أهوائهم، ثم ذكر كفرهم به وقولهم: أنّ له ولداً سبحانه وتعالى.
ثم أخبر أنّه له المشرق والمغرب، فأينما ولّى عباده وجوههم فَثَمَّ وجههُ وهو الواسع العليم، فلعظمته وسَعته وإحاطته أينما توجه العبد، فثم وجه الله، ثم أخبر أنّه لا يُسأل رسولُهُ عن أصحاب الجحيم الذين لا يتابعونه.
ثم أخبره أنّ أهل الكتاب لن يرضوا عته حتى يتّبع ملّتهم، ثم ذكّر أهل الكتاب نعمته عليهم، وخوفهم بأسه.
ثم ذكر خليله باني بيته، وأثنَى عليه، وأخبر أنّه جعله إماماً للنّاس.
ثم ذكر بيته الحرام وبناء خليله له، وفي ضمن هذا أنّ بانيه كما هو إمام للنّاس، فكذلك البيت الذي بناه إمام لهم.
ثم أخبر أنّه لا يرغب عن ملّة هذا الإمام إلاّ أسفه النّاس، ثم أمر عباده أن يأتمّوا به، ويؤمنوا بما أنزل إليه وإلى النّبيّين، ثم ردّ على مَن قال: إنّ إبراهيم وأهله كانوا هوداً أو نصارى، وجعل هذا كلّه توطئة بين يدي تحويل القبلة، وأكّد سبحانه الأمر مرّة بعد مرّةٍ، وأمر به حيث كان رسوله ومن حيث خرج.
وأخبر سبحانه أنّ الذي يهدي مَن يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ الذي هداهم لهذه القبلة، وأنّها لهم وأنّهم أهلها؛ لأنّها أفضل القبل، وهم أفضل الأمم، كما اختار لهم أفضل الرّسل، وأفضل الكتب وأخرجهم من خير القرون وخصّهم بأفضل الشّرائع، ومنحهم خير الأخلاق، وأسكنهم خير الأرض

ص -195-       وجعل منازلهم في الجنّة خير المنازل، وموقفهم في القيامة خير المواقف، فهم على تلٍ عالٍ والنّاس تحتهم، فسبحان مَن يختصّ برحمته مَن يشاء، وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم، وأخبر سبحانه أنّه فعل ذلك، لئلا يكون للنّاس عليهم حجّة، ولكن الظّالمين يحتجّون عليهم بتلك الحجج التي ذكرت، ولا تعارض الرّسل إلاّ بها وأمثالها. وكلّ مَن قدّم على أقوال الرّسول سواها، فحجّته من جنس حجج هؤلاء، وأخبر سبحانه أنّه فعل ذلك ليتمّ نعمته عليهم، وليهديهم، ثم ذكر نعمته عليهم بإرسال رسوله، وإنزال كتابه، ليزكّيهم به، ويعلّمهم الكتاب والحكمة، ويعلّمهم ما لم يكونوا يعلمون.
ثم أمرهم بذكره وشكره إذ بهما يستوجبون تمام النّعمة والمزيد، ويستجلبون ذكره ومحبته لهم، ثم أمرهم بما لا يتم ذلك لهم إلاّ بالاستعانة به، وهو الصّبر والصّلاة، وأخبر أنّه مع الصّابرين، وأتمّ نعمته عليهم مع القبلة بأن شرع لهم الأذان في اليوم واللّيلة خمس مرّاتٍ، وزادهم في الظّهر والعصر والعشاء ركعتين أخريين بعد أن كانت ثنائية، وكلّ هذا بعد مَقْدَمِه المدينة.

ص -196-      فصل
فلَمّا استقرّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بالمدينة، وأيّده الله بنصره وبالمؤمنين، وألّف بين قلوبهم بعد العداوة، فمنعته أنصار الله، وكتيبة الإسلام من الأسود والأحمر، وبذلوا أنفسهم دونه، وقدّموا محبّته على محبّة الآباء والأبناء والأزواج، وكان أولى بهم من أنفسهم، رمتهم العرب واليهود عن قوسٍ واحدةٍ، وشَمّروا لهم عن ساق العداوة، وصاحوا بهم من كلّ جانبٍ، والله تعالى يأمرهم بالصّبر والعفو والصّفح حتى قويت الشّوكة، واشتدّ الجناح، فأذن لهم حينئذٍ في القتال، ولم يفرضه عليهم، فقال تعالى:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}، [الحج: 39]، وقيل: إنّ هذا بمكّة؛ لأنّ السّورة مكيّة. وهذا غلط لوجوه:
أحدها: أنّ الله لم يأذن في القتال بمكّة.
الثّاني: أنّ السّياق يدلّ على أنّ الإذن بعد إخراجهم من ديارهم بغير حقٍّ.
الثّالث: أن قوله:
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} الآية، [الحج من الآية: 19] نزلت في الذين تبارزوا يوم بدرٍ.
الرّابع: أنّه خاطبهم فيها بـ:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، [البقرة من الآية: 104 وغيرها]، والخطاب بذلك كلّه مدني.

 

ص -197-      الخامس: أنّه أمر فيها بالجهاد الذي يعمّ اليد وغيره، ولا ريبَ أنّ الأمر المطلق بالجهاد بعد الهجرة.
السّادس: أنّ الحاكم روى في (مستدركه) عن ابن عبّاس بإسنادٍ على شرطهما، قال: لما خرج رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من مكّة قال أبو بكر: أخرجوا نبيّهم إنّا لله وإنا إليه راجعون ليهلكَنّ، فأنزل الله ـ عزّ وجلّ ـ:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} الآية، [الحج من الآية: 39]، وهي أوّل آية نزلت في القتال. انتهى.
وسياق السّورة يدلّ على أنّ فيها المكي والمدني، فإنّ قصة إلقاء الشّيطان في أمنيّته مكيّة، والله أعلم.
ثم فرض عليهم القتال لِمَن قاتلهم، فقال تعالى:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}، [البقرة من الآية:190]، ثم فرض عليهم قتال المشركين كافّة وكان محرماً، ثم مأذوناً به، ثم مأموراً به لِمَن بدأهم بالقتال، ثم مأموراً به لجميع المشركين، إما فرض عينٍ على أحد القولين، أو كفاية على المشهور.
والتّحقيق أنّ جنس الجهاد فرض عينٍ، إمّا بالقلب، وإمّا باللّسان، وإمّا باليد، وإمّا بالمال، فعلى كلّ مسلمٍ أن يجاهد بنوعٍ من هذه الأنواع، وأمّا الجهاد بالنّفس، ففرض كفاية، وأمّا بالمال ففي وجوبه قولان، والصّحيح وجوبه، لأنّ الأمر بالجهاد به وبالنّفس في القرآن سواء، وعلّق النّجاة من النّار والمغفرة ودخول الجنة به، فقال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} الآيات، [الصف: 10]. وأخبر سبحانه أنّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم

ص -198-      وأعاضهم عليها الجنة، وأنّ هذا العقد والوعد قد أودعه أفضل كتبه، ثم أكّده بإعلامهم أنّه لا أحد أوفى بعهده منه تبارك وتعالى، ثم أكّد بأن أمرهم أن يستبشروا بذلك، ثم أعلمهم بأنّه هو الفوز العظيم، فليتأمّل العاقل مع ربّه ما أجلَّ هذا العقد، فإنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ هو المشتري، والثّمن الجنة، والذي جرى على يديه هذا العقد أشرف رسله، من الملائكة ومن البشر، وإنّ سلعة هذا شأنها لقد هُيِّئت لأمرٍ عظيمٍ.
قد هيّؤوك لأمرٍ لو فطنتَ له    فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
مهر الجنة والمحبّة بذل النّفس والمال لمالكهما، فما للجَبَان المعرض المفلس وَسَوْمَ هذه السّلعة، بالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فينفقها بالنّسيئة المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق مَن يزيد، فلم يرض ربّها لها بثمنٍ دون بذل النّفوس، فتأخّر البطالون، وقام المحبّون ينتظرون أيّهم يصلح أن تكون نفسه الثّمن، فدارت السّلعة بينهم، ووقعت في يد: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، [المائدة من الآية: 54].
لَمّا كثر المدّعون للمحبّة طولبوا بإقامة البيّنة، فلو يعطى النّاس بدعواهم، لادّعى الخلي حُرقة الشّجي، فتنوع المدّعون في الشّهود، فقيل: لا تثبت هذه الدّعوة إلاّ ببيّنةٍ
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}، [آل عمران من الآية: 31]، فتأخّر الخلق كلّهم، وثبت أتباع الرّسول في أفعاله وأقواله، وهديه وأخلاقه، وطولبوا بعدالة البيّنة، فقيل: لا تقبل العدالة إلاّ بتزكيةٍ: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}، [المائدة من الآية: 54]، فتأخّر أكثر المدّعين للمحبّة، وقام المجاهدون، فقيل لهم: إنّ
ص -199-      نفوس المحبّين وأموالهم ليست لهم، فسلموا ما وقع عليه العقد، وعقد التّبايع يوجب التّسليم من الجانبين.
فلمّا رأى التّجار عظمة المشتري، وقدر الثّمن، وجلالة مَن جرى العَقد على يديه، ومقدار الكتاب الذي أثبت فيه، عرفوا أنّ للسّلعة شأناً ليس لغيرها، فرأوا من الغَبن الفاحش أن يبيعوها بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودة، تذهب لذّتها، وتبقى تبعتها، فعقدوا مع المشتري بيعةَ الرّضوان من غير خيارٍ، فلَمّا تَمَّ العقد وسلموا المبيع،قيل: قد صارت نفوسكم وأموالكم لنا، والآن قد رددناها عليكم أوفر ما كانت، وأضعاف أموالكم معها:
{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} الآية، [آل عمران من الآية: 169]، لم نبتع منكم نفوسكم وأموالكم إلاّ ليظهَر الجود والكرم في قبول البيع والإعطاء عليه أجل الأثمان،ثم جمعنا لكم بين الثّمن والمثمن.
وتأمّل قصّة جابر وجمله كيف وفّاه الثّمن، وزاده، وردّ عليه البعير، فذكّره بهذا حال الله مع أبيه، وأخبره أنّ الله أحياه وكلّمه كفاحاً، وقال:
"يا عبدي تمن عليَّ أعطك". فسبحان مَن عظمَ جودُهُ وكرمُه أن يحيط به الخلائق لقد أعطى السّلعة وأعطى الثّمن ووفق لتكميل العقد، وقَبِلَ المبيع على عيبه، وأعطى عليه أجلَّ الأثمان، واشترى عبده من نفسه بماله، وجمع له بين الثّمن والمثمن، وأثنى عليه، ومدحه بهذا العقد، وهو الذي وفقه له وشاءه منه:
فحي هلاً إن كنت ذا همةٍ فقد           حدى بك حادي الشّوق فاطو المراحلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهم    إذا ما دعى لبّيك ألفاً كواملا

ص -200-      ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن           نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا
وخذ منهم زاداً إليهم وسر على          طريق الهدى والحبّ تصبح واصلا
ولا تنتظر بالسّير رفقة قاعدٍ    ودعه فإنّ الشّوق يكفيك حاملا
وأحي بذكراهم سراك إذا ونت            ركابك فالذكرى تعيدك عاملا
وإمّا تخافن الكلال فقل لها     أمامكِ ورد الوصل فابغي المناهلا
وخذ قبساً من نورهم ثم سر به          فنورهم يهديك ليس المشاعلا
وحيّ على واد الأراك فقل به  عساك تراهم ثم إن كنت قائلا
وإلاّ ففي نعمان عند معرف الأحـ          ـبة فاطلبهم إذا كنت سائلا
وإلاّ ففي جمع بليلته فإن      تفت فمنى يا ويح مَن كان غافلا
 وحيَّ على جنات عدن فإنّها منازلك الأولى بها كنت نازلا
ولكن سباك الكاشحون لأجل ذا           وقفت على الأطلال تبكي المنازلا
وحيّ على يوم المزيد بجنة الخلو         د فجد بالنّفس إن كنت باذلا
فدعها رسوماً دارساتٍ فما بها            مقيل وجاوزها فليست منازلا
وخذ يمنةً عنها على المنهج الذي        عليه سرى وفد المحبّة آهلا
وقل ساعدي يا نفس بالصّبر ساعة      فعند اللّقا ذا الكد يُصبح زائلا
فما هي إلاّ ساعة ثم تنقضي ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا
لقد حرك الداعي إلى الله وإلى دار السّلام النّفوس الأبية، والهمم

ص -201-      العالية، وأسمع منادي الإيمان مَن كانت له أذن واعية وأسمع والله مَن كان حيّاً، فهزّه السّماع إلى منازل الأبرار وحدا به في طريق سيره، فما حطت به رحاله إلاّ بدار القرار.
فقال
: "انتدب الله لِمَن خرج في سبيله، لا يخرجه إلاّ إيمان بي، وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجرٍ أو غنيمةٍ أو أدخله الجنة، ولولا أن أشقّ على أمّتي، ما قعدت خلف سرية، ولوددت أنّي أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل".
وقال:
"مثل المجاهد في سبيل الله، كمثل الصّائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر عن صيامٍ ولا صلاةٍ حتى يرجع".
وقال:
"غدوة في سبيل الله، أو روحة، خير من الدّنيا وما فيها".
وقال:
"الجهاد في سبيل الله باب من أبواب الجنة ينجي الله به من الهمّ والغم".
وقال:
"أنا زعيم ـ أي: كفيل ـ لِمَن آمن بي وأسلم، وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة، وبيت في وسط الجنة، وبيت في أعلى الجنة، مَن فعل ذلك لم يدع للخير مطلباً، ولا من الشّرّ مهرباً، يموت حيث شاء أن يموت".
وقال:
"مَن قاتل في سبيل الله ـ من رجلٍ مسلمٍ ـ فواق ناقة، وجبت له الجنة".
وقال:
"إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله بين كلّ درجتين، كما بين السّماء والأرض، فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس، فإنّه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرّحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة".

ص -202-      وقال: "مَن عان مجاهداً في سبيل الله، أو غارماً في غرمه، أو مكاتباً في رقبته، أظلّه الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّ".
وقال: "مَن اغبرت قدماه في سبيل الله، حرّمها الله على النّار".
وقال:
"لا يجتمع شحّ وإيمان في قلب رجلٍ، ولا يجتمع غبار في سبيل الله، ودخان جهنم في وجه عبدٍ".
وقال:
"رباط يومٍ وليلةٍ خير من صيام شهرٍ وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأُجري عليه رزقه، وأُمِنَ الفتّان".
وقال لرجلٍ حرس المسلمين ليلةً على ظهر فرسه من أوّلها إلى الصّباح لم ينْزل إلاّ لصلاةٍ أو قضاء حاجّةٍ:
"قد أوجبت، فلا عليك ألاّ تعمل بعدها".
وذكر أبو داود عنه:
"مَن لم يغز، ولم يجهّز غازياً، أو يخلف غازياً في أهله بخيرٍ، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة".
وفسر أبو أيّوب الأنصاري الإلقاء باليد إلى التّهلكة بترك الجهاد.
وصحّ عنه: أنّ النّار أوّل ما تُسعر بالعالم والمنفق والمقتول في الجهاد إذا فعلوا ذلك ليقال.

ص -203-      فصل
وكان يستحبّ القتال أوّل النّهار، كما يستحبّ الخروج للسّفر أوّله.
فإذا لم يقاتل أوّل النّهار، أخّر القتال حتى تزول الشّمس، وتهب الرّياح، وينْزل النّصر.
وكان يبايع أصحابه في الحرب على أن لا يفرّوا، وربّما بايعهم على الموت، وبايعهم على الجهاد، كما بايعهم على الإسلام، وبايعهم على الهجرة، وبايعهم على التّوحيد، والتزام طاعة الله ورسوله، وبايع نفراً من أصحابه على أن لا يسألوا النّاس شيئاً، وكان السّوط يسقط من يد أحدهم، فينْزل فيأخذه، ولا يقول لأحدٍ: ناولني إيّاه.
وكان يشاور أصحابه في الجهاد، ولقاء العدوّ، وتخيّر المنازل، وكان يتخلف في ساقتهم في المسير، فيزجي الضّعيف، ويردف المنقطع، وكان أرفق النّاس بهم في السّير. وإذا أراد غزوةً، ورّى بغيرها ويقول: "الحرب خدعة"، وكان يبعث العيون يأتونه بخبر عدوّه، ويطلّع الطّلائع، ويبثّ الحرس، وإذا لقي عدوَّه، وقف ودعا واستنصر الله، وأكثر هو وأصحابه من ذكر الله، وخفضوا أصواتهم.
وكان يرتّب الجيش والمقاتلة، ويجعل في كلّ جنبة كفؤاً لها، وكان يُبارز بين يديه بأمره، وكان يلبَس للحرب عدته، وربّما ظاهر بين درعين، وكان له ألوية، وكان إذا ظهر على قومٍ، نزل بعرصتهم ثلاثاً، ثم قفل.

ص -204-      وإذا أراد أن يغير، انتظر، فإن سمع في الحيّ أذاناً، لم يغر وإلاّ أغار، وكان ربّما يبيّت عدوّه، وربّما فاجأهم نهاراً، وكان يحبّ الخروج يوم الخميس بكرة النّهار، وكان العسكر إذا نزل انضم بعضهم إلى بعضٍ، حتى لو بُسط عليهم كساء لعمهم.
وكان يرتّب الصّفوف، ويُعبئهُم للقتال بيده ويقول:
"تقدم يا فلان، تأخّر يا فلان"، وكان يستحبّ للرّجل أن يقاتل تحت راية قومه.
وكان إذا لقي العدوّ يقول:
"اللهم منْزل الكتاب، ومجرى السّحاب، وهازم الأحزاب اهزمهم، وانصرنا عليهم".
وربّما قال:
{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ  بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}، [القمر الآيتان: 45-46].
وكان يقول:
"اللهم أنْزل نصرك".
ويقول:
"اللهم أنت عضدي وأنت نصيري، بك أقاتل".
وكان إذا اشتدّ البأس وقصده العدوّ يعلم بنفسه، ويقول:
"أنا النَّبِيّ لا كذب، أنا ابن عبد المطلب". وإذا اشتدّ اتّقوا به.
وكان أقربهم إلى العدّو، وكان يجعل لأصحابه شعاراً في الحرب يُعرفون به، وكان شعارهم مرّة: أمت أمت، ومرّة: يا منصور، ومرّة: حم لا يُنصرون.
وكان يلبس الدّرع والخوذة، ويتقلّد السّيف، ويحمل الرّمح والقوس العربية ويتترس بالتّرس، ويحبّ الخيلاء في الحرب، وقال:
"إنّ منها ما يحبّ الله، ومنها ما يبغض الله، فأمّا التي يحب الله، فاختيال الرّجل بنفسه عند اللّقاء، واختياله عند الصّدقة، وأمّا التي يبغض الله ـ عزّ وجلّ ـ، فاختياله في البغي والفجور".
وقاتل مرّة بالمنجنيق، نصبه على أهل الطّائف،

ص -205-      وكان ينهى عن قتل النّساء والولدان، وينظر في المقاتلة، فمَن رآه أنبت، قتله، وإلاّ استحياه.
وكان إذا بعث سرية يوصيهم بتقوى الله، ويقول: "سيروا بسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا مَن كفر بالله، ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليداً".
وكان ينهى عن السّفر بالقرآن إلى أرض العدوّ، ويأمر أمير سريته أن يدعو عدوّه قبل القتال، إمّا إلى الإسلام والهجرة، أو الإسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين ليس لهم نصيب في الفيء، أو بذل الجزية، فإن هم أجابوا إليه، قبل منهم، وإلاّ استعان بالله وقاتلهم.
وكان إذا ظفر بعدوّه أمر منادياً، فجمع الغنائم كلّها، فبدأ بالأسلاب فأعطاها لأهلها، ثم أخرج خمس الباقي، فوضعه حيث أراه الله وأمر به، من مصالح المسلمين، ثم يرضخ من الباقي لِمَن لا سهم له من النّساء والصّبيان والعبيد، ثم قسم الباقي بالسّوية بين الجيش للفارس ثلاثة أسهم، وللرّاجل سهم، هذا هو الصّحيح.
وكان ينفّل من صلب الغنيمة بحسب ما يراه من المصلحة، وجمع لسلمة بن الأكوع في بعض مغازيه يبن سهم الرّاجل والفارس فأعطاه خمسة لعظم غنائه، وكان يسوّي بين الضّعيف والقوي في القسمة ما عدا النّفل، وكان إذا أغار في أرض العدوّ، بعث سرية بين يديه، فما غنمت أخرج خمسه، ونفّلها ربع الباقي، وقسم الباقي بينها وبين سائر الجيش، وإذا رجع فعل ذلك، ونفّلها الثّلث، ومع ذلك كان يكره النّفل ويقول:

ص -206-      "ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم".
وكان له سهم من الغنيمة يدعى الصّفي إن شاء عبداً، وإن شاء فرساً يختاره قبل القسم.
قالت عائشة: كانت صفية من الصّفي. رواه أبو داود.
وكان سيفه ذو الفقار من الصّفي، وكان يسهم لِمَن غاب لِمَصلحة المسلمين، كما أسهم لعثمان من بدر لتمريض ابنته، فقال:
"إنّ عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله". فضرب له بسهمه وأجره.
وكانوا يشترون معه في الغزوِ ويبيعون وهو يراهم ولا ينهاهم.
وكانوا يستأجرون الأجراء للغزو، وذلك على نوعين:
أحدهما: أن يخرج الرّجل، ويستأجر مَن يخدمه.
الثّاني: أن يستأجر مَن يخرج للجهاد. ويسَمُّون ذلك الجعائل.
وفيها قال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"للغازي أجره، وللجاعل أجره، وأجر الغازي".
وكانوا يتشاركون في الغنيمة، على نوعين أيضاً:
أحدهما: شركة الأبدان.
والثّاني: أن يدفع الرّجل بعيره، أو فرسه يغزو عليه على النّصف مما يغنم حتى ربّما اقتسما السّهم فأصاب أحدهما قدحه، والآخر نصله وريشه.
قال ابن مسعود: اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر، فجاء سعد بأسيرين ولم أجيء أنا وعمار بشيء.
وكان يبعث السّرية فرساناً تارّة، ورجالاً أخرى، ولا يسهم لِمَن قدم بعد الفتح، وكان يعطي سهم ذوي القربى في بني هاشم وبني المطلب دون إخوتهم من عبد شمس ونوفل. وقال:
"إنّما بنو المطلب، وبنو هاشم شيء واحد".
وشبّك بين أصابعه، وقال:
"إنّهم لم يفارقونا في جاهلية

ص -207-      ولا إسلام".
وكان المسلمون يصيبون معه في مغازيهم العسل والعنب والطّعام فيأكلونه ولا يرفعونه في المغانم.
وقيل لابن أبي أوفى: هل كنتم تخمسون الطعام؟
فقال: أصبنا طعاماً يوم خيبر، وكان الرّجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه، ثم ينصرف.
وقال بعض الصّحابة: كنّا نأخذ الجوز في الغزو، ولا نقسمه، حتى إن كنّا لنرجع إلى رحالنا، وأجربنا منه مملوءة.
وكان ينهى عن النّهب والمثلة، وقال:
"مَن انتهب نبهة فليس منّا".
وكان ينهى أن يركب الرّجل دابة من الفيء، فإذا أعجفها ردّها فيه وأن يلبس ثوباً من الفيء فإذا أخلقه ردّه فيه، ولم يمنع من الانتفاع به حال الحرب.
وكان يشدّد في الغلول جدّاً، ويقول:
"عارٌ ونارٌ وشنارٌ على أهله يوم القيامة". ولما أصيب غلامه مِدعَم، قال بعض الصّحابة: هنيئاً له الجنة. فقال: "كلا والذي نفسي بيده إنّ الشّملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً"، فجاء رجل بشراك أو شراكين لما سمع ذلك فقال: "شراك أو شراكان من نارٍ".
وقال لِمَن كان على ثقله وقد مات:
"هو في النّار"، فذهبوا ينظرون، فوجدوا عباءة قد غلّها، وقالوا في بعض غزواتهم: فلان شهيد، وفلان شهيد. حتى مرّوا على رجلٍ، فقالوا: وفلان شهيد، فقال: "كلا إنّي رأيته في النّار في بردةٍ غلّها أو عباءة". ثم قال: "يا ابن الخطاب اذهب فناد في النّاس إنّه لا يدخل الجنّة إلاّ المؤمنون".
وكان إذا أصاب غنيمة أمر بلالاً، فنادى في النّاس فيجيؤون بغنائهم، فيخمّسها ويقسمها، فجاء رجل بعد ذلك بزمامِ من شعرٍ فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ

ص -208-      : "أسمعت بلالاً ينادي؟"، فقال: نعم. قال: "فما منعك أن تجيء به؟"، فاعتذر فقال: "كن أنتَ تجيء به يوم القيامة فلن أقبله عنك". وأمر بتحريق متاع الغالّ، وضربه وحرّقه الخليفتان بعده، فقيل: منسوخ للأحاديث التي ذكرت، ولم يجيء التّحريق فيها، وقيل ـ وهو الصّواب ـ: إنّه من باب التّعزير والعقوبات المالية الرّاجعة إلى اجتهاد الأئمة كقتل شارب الخمر في الثالثة والرّابعة.

ص -209-      فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الأسارى
كان يَمُنّ على بعضهم، ويقتل بعضهم، ويفادي بعضهم بالمال، وبعضهم بأسارى المسلمين، فعل ذلك كلّه بحسب المصلحة، واستأذنه الأنصار أن يتركوا لعمه العبّاس فداءه فقال:
"لا تدعوا منه درهما". وردَّ سبي هوازن عليهم بعد القسمة، واستطاب قلوب الغانمين وعوّض مَن لم يطب من ذلك بكلّ إنسانٍ ستّ فرائض.
وذكر أحمد عن ابن عبّاس أنّ بعضهم لم يكن له مال، فجعل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فِدَاءَهُمْ أن يعلمّوا أولاد الأنصار الكتابة، فدلّ على جواز الفداء بالعمل.
والصّواب الذي عليه هديه وهدي أصحابه استرقاق العرب، ووطء إمائهن بملك اليمين من غير اشتراط الإسلام، وكان يمنع التّفريق في السّبي بين الوالدة وولدها، ويعطي أهل البيت جميعاً كراهةً أن يفرّق بينهم.
وثبت عنه أنّه قتل جاسوساً من المشركين، ولم يقتل حاطباً لما جسّ، وذكر شهوده بدراً، فاستدل به مَن لا يرى قتل الجاسوس، واستدلّ به مَن يرى قتله، كمالك، لتعليله بعلةٍ مانعةٍ من القتل ولو منع الإسلام لم يعلّل بها، والحكم إذا علّل بالأعمّ كان الأخصّ عديم التّأثير.

ص -210-      وكان هديه عتق عبيد المشركين إذا خرجوا إلى المسلمين فأسلموا.
وكان من هديه أنّ مَن أسلم على شيء في يده فهو له، ولم يكن يُردّ على المسلمين أعيان أموالهم التي أخذها الكفّار بعد إسلامهم.
وثبت عنه أنّه قسم أرض قريظة والنّضير، ونَصَّفَ خيبر بين الغانمين، وعزل نصف خيبر لِمَن نزل به، من الوفود والأمور ونوائب المسلمين، ولم يقسم مكّة، فقالت طائفة: لأنّها دار النّسك، فهي وقف من الله على عباده.
وقالت طائفة: الإمام مخيّر في الأرض بين قسمتها، وبين وقفها لفعله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، قالوا: والأرض لا تدخل في الغنائم المأمور بقسمتها؛ لأنّ الله لم يحلّها لغير هذه الأمّة، وأحلّ لهم ديار الكفّار وأرضهم، كقوله تعالى:
{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ}، [الشعراء: 59].
والنَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قسم وترك، وعمرُ لم يقسم، بل ضرب عليها خراجاً مستمرّاً للمقاتلة، فهذا معنى وقفها ليس الوقف الذي يمنع من نقل الملك، بل يجوز بيعها كما هو عمل الأمة، وقد أجمعوا على أنّها تورث، ونصّ أحمد على جواز جعلها صداقاً، والوقف إنّما امتنع بيعه لإبطال حقّ البطون الموقوف عليهم، والمقاتلة حقّهم في خراج الأرض، فلا يبطل بالبيع، ونظيره بيع رقبة المكاتب، وقد انعقد فيه سبب الحريّة بالكتابة، فإنّه ينتقل إلى المشتري مكاتباً كما كان عند البائع.
ومنع ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من إقامة المسلم بين المشركين إذا قدر على الهجرة، وقال:
"أنا بريء من كلّ مسلمٍ يقيم بين أظهر المشركين". قيل:

ص -211-      يا رسول الله ولِمَ؟ قال: "لا ترآى ناراهما".
وقال:
"مَن جامع المشرك، وسكن معه فهو مثله".
وقال:
"لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التّوبة، ولا تنقطع التّوبة، حتى تطلع الشّمس من مغربها".
وقال:
"ستكون هجرة بعد هجرةٍ، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ـ عليه السّلام ـ، ويبقي في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم تقذرهم نفس الله ويحشرهم الله مع القردة والخنازير".

ص -212-      فصل:في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الأمان والصّلح ومعاملة رسل الكفّار وأخذ الجزية ومعاملة أهل الكتاب والمنافقين ووفائه بالعهد
ثبت عنه أنّه قال:
"ذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمَن أخفر مسلماً، فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً".
وثبت عنه أنّه قال:
"مَن كان يبنه وبين قومٍ عهدٌ، فلا يحلن عقدة، ولا يشهدها حتى يمضي أمده، أو ينبذ إليهم على سواء".
وقال:
"مَن أمّن رجلاً على نفسه فقتله، فأنا بريء من القاتل".
ويذكر عنه
: "ما نَقَضَ قومٌ العهدَ إلاّ أديل عليهم العدوّ".
ولَمّا قدم المدينة، صار الكفّار معه ثلاثة أصناف: قسم صالحهم على أن لا يحاربوه ولا يمالوا عليه، وقسم حاربوه، وقسم لم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره. ثم من هؤلاء مَن كان يحبّ ظهوره، وانتصاره في الباطن، ومنهم مَن يحبّ ظهور عدوّه عليه، ومنهم مَن دخل معه في الظّاهر وهو عدوّه في الباطن، فعامل كلّ طائفة بما أمره به ربّه تعالى.
فصالح يهود المدينة، فحاربته قينقاع بعد بدرٍ، وشرقوا بوقعتها

ص -213-      وأظهروا البغي والحسد، ثم نقض بنو النّضير، فغزاهم وحصرهم، وقطع نخلهم وحرّقه، ثم نزلوا على أن يخرجوا من المدينة، ولهم ما حملت الإبل إلاّ السّلاح، وذكر الله قصّتهم في سورة الحشر، ثم نقضت قريظة، وهم أغلظ اليهود كفراً، ولذلك جرى عليهم ما لم يجر على إخوانهم، فهذا حكمه في يهود المدينة.
وكانت غزوة كلّ طائفةٍ منهم عقب غزوة من الكبار، فبنو قينقاع عقب بدرٍ، وبنو النّضير عقب أحدٍ، وقريظة عقب الخندق.
وأمّا أهل خيبر فيسأتي ذكرهم.
وكان هديه إذا صالح قوماً، فنقض بعضهم، وأقرّهم الباقون، وروضوا به، غزا الجميع، كما فعل بقريظة والنّضير وأهل مكّة، فهذه سنته في أهل العهد.
وعلى هذا ينبغي أن يجرى أهل الذّمة كما صرح به أصحاب أحمد وغيرهم، وخالف أصحاب الشّافعي، فخصّوا نقض العهد بِمَن نقضه وفرّقوا بينهما بأنّ عقد الذّمة آكد، والأوّل أصوب، وبهذا أفتينا ولي الأمر لما أحرق النّصارى أموال المسلمين بالشّام، وعلم بذلك مَن علم منهم، وواطؤوا عليه، ولم يعلموا به ولي الأمر، وأنّ حده القتل حتماً، ولا يخيّر الإمام فيه، كالأسير بل صار القتل له حدّاً.
والإسلام لا يسقط القتل إذا كان حدّا مِمَن هو تحت الذّمّة ملتزماً أحكام الملّة، بخلاف الحربيّ إذا أسلم فهذا له حكم، والذّمّيّ النّاقض له حكم آخر، وهذا الذي تقتضيه نصوص أحمد. وأفتى به شيخنا في غير موضع.

ص -214-      وكان هديه إذا صالح قوماً، فانضاف إليهم عدوّ له، فدخلوا معهم، وانضاف إليه آخرون، صار حكم مَن حارب مَن دخل معه من الكفّار حكم مَن حاربه، وبهذا السّبب غزا أهل مكّة، وبهذا أفتى شيخ الإسلام بغزو نصارى المشرق لما أعانوا عدوّ المسلمين على قتالهم، وأمدّوهم بالمال والسّلاح ورآهم بذلك ناقضين للعهد؛ فكيف إذا أعان أهل الذّمّة المشركين على حرب المسلمين.
وكان تقدم عليه رسل أعدائه، وهم على عداوتهم، فلا يهيجهم، ولما قدم عليه رسولا مسيلمة، فتكلّما بما قالا: قال:
"لولا أنّ الرّسل لا تقتل لضربت أعناقكما"، فجرت سنته أن لا يقتل رسول.
وكان هديه أيضاً أن لا يحبس الرّسول عنده إذا اختار دينه، بل يردّه، كما قال أبو رافع: بعثتْنِي قريش إليه، فوقع في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله لا أرجع. فقال:
"إنّي لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ارجع إليهم، فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع".
قال أبو داود: وكان هذا في المدّة التي شرط أن يردّ إليهم مَن جاءه منهم، وأمّا اليوم فلا يصلح هذا.
وفي قوله:
"لا أحبس البرد" إشعار بأنّ هذا يختص بالرّسل مطلقاً، وأمّا ردّه مَن جاء مسلماً، فهذا إنّما يكون مع الشّرط. وأمّا الرّسل فلهم حكم آخر.
ومن هديه أنّ أعدءه إذا عاهدوا واحداً من أصحابه على عهدٍ لا يضرّ بالمسلمين بغير رضاه أمضاه، كما عاهدوا حذيفة وأباه أن لا يقاتلاهم معه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فقال:
"انصرفا نَفِي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم".

ص -215-      وصالح قريشاً عشر سنين على أنّ مَن جاءه من مسلماً ردّه، ومَن جاءهم من عنده لا يردّونه، واللّفظ عام في الرّجل والنّساء، فنسخ الله ذلك في النّساء، وأمر بامتحانهن، فإن علموها مؤمنة لم تردّ، ويردّ مهرها.
وأمر المسلمين أن يردّوا على مَن ارتدّت امرأته إليهم مهراً إذا عاقبوا بأن يجب عليهم ردّ مهر المهاجرة ليردّوه إلى مَن ارتدّت امرأته ولا يردّونها إلى زوجها، فهذا هو العقاب، وليس من العذاب في شيء.
ففيه أنّ خروج البضع من ملك الزّوج متقوم، وأنّه بالمسمّى لا بمهر المثل، وأنّ أنكحة الكفّار صحيحة، وأنّه لا يجوز ردّ المسلمة المهاجرة، ولو شُرِط، وأنّ المسلمة لا يحلّ لها نكاح الكافر، وأنّ المسلم له أن يتزوّج المهاجرة إذا اعتدت، وآتاها مهرها.
ففيه أبين دلالة على خروج البضع من ملك الزّوج، وانفساخ النّكاح بالهجرة.
وفيه تحريم نكاح المشركة.
هذه أحكام استفيدت من الآية بعضها مجمع عليه، وبعضها مختلف فيه. وليس لِمَن ادّعى نسخها حجّة، فإنّ الشّرط إن اختصّ بالرّجال لم يدخلن، فنهى عن ردّهن.
وأمر بردّ المهر، وأن يردّ منه على مَن ارتدّت امرأته إليهم المهر الذي أعطاها، ثم أخبر أنّ ذلك حكمه الذي يحكم به بين عباده، وأنّه صادر عن علمه وحكمته، ولم يأتِ عنه ما ينافيه بعده، ولما صالحهم على ردّ الرّجال كان ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يمكنهم أن يأخذوا مَن أتى إليه منهم، ولا يكرهه على العود، ولا يأمره به، وكان إذا قتل منهم، أو أخذ مالاً وقد فصل عن يده، ولما يلحق بهم لم ينكر عليه ذلك، ولم يضمنه لهم؛ لأنّه ليس تحت قهره ولا أمره بذلك ولم يقتض عقد الصّلح الأمان على النّفوس

ص -216-      والأموال إلاّ مِمَن هو تحت قَهْره كما ضمن لبني جذيمة ما أتلف خالد، وأنكره وتبرأ منه.
ولما كان خالد متأوِّلاً وكان غزاهم بأمره ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ضمنهم بنصف دياتهم لأجل التّأويل والشّبهة. وأجراهم في ذلك مجرى أهل الكتاب الذين عصموا بالذّمّة لا بالإسلام، ولم يقتض عقد الصّلح أن ينصرهم على مَن حاربهم مِمَن ليس في قبضته.
ففيه أنّ المعاهدين إذا غزاهم مَن ليس تحت يد الإمام، وإن كان مسلماً أنّه لا يجب على الإمام ردّه، ولا ضمان ما أتلف.
وأخذ الأحكام المتعلّقة بالحرب والمصالح والسّياسات من هديه أولى من الآراء، وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين، وبعض أهل الذّمّة عهد، جاز لملك آخر لا عهد بينه ونبينهم أن يغزوهم، كما أفتى به شيخ الإسلام في نصارى ملطية، مستدلاً بقصّة أبي بصير، وكذلك صالح أهل خيبر لما ظهر عليهم على أن يجليهم منها، ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ الصّفراء والبيضاء والسّلاح، واشترط أن لا يكتموا، فإن فعلوا فلا ذمّة لهم، فغيّبوا مسكاً، فيه مال لحيّي بن أخطب احتمله معه حين أجليت النّضير، فسأل عمّ حيّي عنه، فقال: أَذْهَبَتْه النّفقاتُ والحروب، فقال:
"العهد قريب، والمال أكثر من ذلك"، فدفعه إلى الزّبير، فمسّه بعذابٍ، فقال: رأيت حُيَيّاً يطوف في خربة ها هنا، فوجدوه فيها، فقتل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ابني أبي الحقيق، أحدهما زوج صفية بنت حيّي، وسبى نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بالنّكث وأراد أن يجليهم، فقالوا: دعنا نكون فيها نصلحها، فنحن أعلم بها، ولم يكن له ولا لأصحابه غلمان يكفونهم، فدفعها إليهم على الشّطر من

ص -217-      كلّ ما يخرج منها من تمرٍ و زرعٍ ولهم الشّطر، وعلى أن يقرّهم ما شاء ولم يعمَّهم بالقتل، كما عمَّ قريظة لاشتراك أولئك في نقض العهد.
وأمّا هؤلاء، فالذين علموا بالمسك وغيّبوه، وشرطوا له أنّه إن ظهر فلا ذمّة لهم، قتلهم بشرطهم، ولم يعمّ أهل خيبر، فإنّه من المعلوم أنّ جميعهم لم يعلموا بالمسك، فهذا نظير الذّمي والمعاهد إذا نقض، ولم يماله عليه غيره.
ودفعه الأرض على النّصف دليل ظاهر على جواز المساقاة والمزارعة، وكون الشّجر نخلاً لا أثر له البتّة، فحكم الشّيء حكم نظيره، فبلد الأعناب وغيرها حكم شجرها حكم النّخل سواء.
وفيه: أنّه لا يشترط كون البذر من ربّ الأرض، فإنّه لم يعطهم بذراً البتّة. وهذا مقطوع به، حتى قال بعض أهل العلم: لو قيل: باشتراط كونه من العامل لكان أقوى. والذين اشترطوه من ربّ الأرض ليس معهم حجّة أصلاً أكثر من القياس على المضاربة، وهذا إلى أن يكون حجّة عليهم أقرب، فإنّ في المضاربة يعود رأس المال إلى المالك، ولو شرط في المزارعة فسدت عندهم، فأجروا البذر مجرى سائر المغلّ وأيضاً فإنّ البذر جارٍ مجرى المال والمنافع، فإنّ الزّرع لا يتكون به وحده، بل لا بدّ من السّقي والعمل، والبذر يموت وينشئ الله الزّرع من أجزاء أخر تكون معه من الماء والرّيح والشّمس والتّراب والعمل، فحكمه حكم هذه الأجزاء، وأيضاً فإنّ الأرض نظير رأس المال، وهذا يقتضي أن يكون المزارع أولى بالبذر فالذي جاءت به السّنة هو الموافق للقياس.
وفيها عقد الهدنة من غير توقيت، بل ما شاء الإمام، ولم يجئ بعده

ص -218-      ما ينسخه البتّة، لكن لا يحاربهم حتى يعلّمهم على سواء، ليستووا هو وهم في العلم بنقض العهد.
وفيه جواز تعزير المتّهم بالعقوبة، فإنّ الله ـ سبحانه ـ قادر أن يدلّ رسوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ على الكنْز، ولكن أراد أن يسنّ للأمة عقوبة المتّهمين، ويوسع لهم طرق الأحكام رحمةً بهم وتيسيراً عليهم.
وفيه: الأخذ بالقرائن لقوله:
"العهد قريب والمال أكثر من ذلك". وكذلك فعل نبي الله سليمان في تعيين أمّ الطفل، وهوـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لم يقصّها علينا ـ أي: قصّة سليمان ـ لنتّخذها سمراً، بل لنعتبر بها في الأحكام، بل الحكم بالقسامة، وتقديم أيمان مدّعى القتل هو من هذا استناداً إلى القرائن الظّاهرة، بل ومنه رجم الملاعنة استناداً إلى اللّوث الظّاهر الذي حصل بالتعانِهِ ونكولها.
ومنه: قبول شهادة أهل الكتاب على المسلمين في الوصية في السّفر، وأنّ وليّي الميت إذا اطّلعا على خيانةٍ من الوصيّين، جاز لهما أن يحلفا، ويستحقا ما حلفا عليه، واللّوث في الأموال نظير اللّوث في الدّماء. وأولى بالجواز منه، وعلى هذا إذا اطّلع الرّجل المسروق ماله على بعضه في يد خائنٍ معروفٍ ولم يبيّن أنّه اشتراه من غيره، جاز له أن يحلف أن بقية ماله عنده، وأنّه صاحب السّرقة استناداً إلى اللّوث الظّاهر نظير حلف أولياء المقتول في القسامة، بل أمر الأموال أخفّ.
ولذلك ثبتت بشاهدٍ ويمينٍ، وشاهدٍ وامرأتين بخلاف الدّماء، والقرآن والسّنة يدلاّن على هذا وهذا، وليس مع مَن ادَعى النّسخ حجّة أصلاً، فإنّه في سورة المائدة وهي من آخر ما نزل، وحكم بموجبها الصّحابة بعده.

ص -219-      ومن هذا استدلال شاهد يوسف بالقميص، وحكاه الله مقرّراً له، والتّأسي بهذا وأمثاله في إقرار الله له لا في مجرّد حكايته.
ولما أقرّهم ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كان يبعث كلّ عامٍ من يخرص عليهم الثّمار، فينظر كم يجيء منها، فيضمّنهم نصيب المسلمين، ويتصرّفون فيها، وكان يكتفي بخارصٍ واحدٍ، ففيه خرص الثّمر وقسمته، خرصاً على رؤوس النّخل، ويصير نصيب أحدهما معلوماً وإن لم يتميّز بعد، لمصلحة الثّمار.
وعلى أنّ القسمة إفراز لا بيع، وعلى جواز الاكتفاء بخارصٍ واحدٍ، وقاسمٍ واحدٍ، وعلى أنّ لِمَن الثّمار في يده أن يتصرف فيها بعد الخرص، ويضمن نصيب شريكه.
فَلَمّا كمان زمن عمر ذهب ابنه عبد الله إلى ماله بخيبر، فعدوا عليه، وألقوه من فوق بيتٍ، وفكّوا يده، فأجلاهم عمر إلى الشّام، وقسمها بين أهلها.

ص -220-      فصل
وأمّا هديه في عقد الذّمة، وأخذ الجزية، فلم يأخذ جزية إلاّ بعد نزول (براءة) في السّنة الثّامنة، فلمّا نزلت آية الجزية أخذها من المجوس وأهل الكتاب، ولم يأخذها من يهود خيبر، فظنّ مَن غلط أنّه مختصّ بأهل خيبر، وهذا من عدم فقهه، فإنّه صالحهم قبل نزول الآية، ثم أمره الله أن يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، فلم يدخلوا في ذلك؛ لأنّ العقد تم قبلها على ما بينهم وبينه، فلم يطالبهم بغيره، وطالب سواهم مِمَن لم يكن له عهدٌ، فلما أجلاهم عمر، تغيّر ذلك العهد، وصار لهم حكم غيرهم من أهل الكتاب، ولما كان في بعض الدّول التي خفيت فيها السّنة، أظهر طائفة منهم كتاباً قد عتقوه وزوَّروه.
فيه: أنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أسقط عن أهل خيبر الجزية.
وفيه شهادة عليّ بن أبي طالب، وسعد بن معاذ، وجماعة من الصّحابة فراج على مَن جهل السّنة، وظنّوا صحّته، فأجروا حكمه حتى ألقي إلى شيخ الإسلام، وطلب منه أن يعين على تنفيذه، فبصق عليه، واستدلّ على كذبه بعشرة أوجه:
منها: أنّ سعداً توفي قبل خيبر.
ومنها: أنّ الجزية لم تكن نزلت بعد.
ومنها: أنّه أسقط عنهم الكلف والسّخر، ولم يكونا في زمنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وإنّما هي من وضع الملوك الظّلمة، واستمرّ الأمر عليها.

ص -221-      ومنها: أنّ هذا الكتاب لم يذكره أحد من أهل العلم، لا من أهل السّير ولا من أهل الحديث، ولا غيرهم، ولا أظهروه في زمان السّلف لعلمهم أنّهم يعرفون كذبه، فلَمّا خفيت السّنة زوّروا ذلك، وساعدهم بعض الخائنين لله ولرسوله، ولم يستمرّ، حتى كشف الله أمره، وبيّن خلفاء الرّسل بطلانه، ولم يأخذ الجزية من عبّاد الأصنام، فقيل: لا تؤخذ من كافرٍ غير هؤلاء، ومَن دان دينهم اقتداء بأخذه وتركه، وقيل: تؤخذ من عبدة الأصنام من العجم دون العرب، والأوّل قول الشّافعي، وأحمد في روايةٍ.
والثّاني: قول أبي حنيفة وأحمد في رواية، ويقولون: لم يأخذها من العرب، لأنّها فرضت بعد إسلامهم، ولم يبق بأرض العرب مشرك، ولهذا غزا بعد الفتح تبوك، ولو كان بأرض العرب مشركون لكانوا يلونه، وكانوا أولى بالغزوة من الأبعدين، ومَن تأمّله علم أنّ الأمر كذلك، قالوا: وقد أخذها من المجوس، ولا يصحّ أنّ لهم كتاباً ورفع، ولا فرق بين عباد الأصنام، وعباد النّار بل أهل الأوثان فيهم من التّمسّك بدين إبراهيم ما لم يكن في عباد النّار، بل عباد النّار أعداء إبراهيم، وعلى هذا تدلّ السّنة كما في (صحيح مسلم):
"إذا لقيت عدوّك من المشركين، فادعهم إلى إحدى ثلاث..." إلى آخره.
وقال المغيرة لعامل كسرى: أمرنا نبيّنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله. أو تؤدّوا الجزية.
وقالـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لقريشٍ:
"هل لكم في كلمةٍ تدين لكم بها العرب، وتؤدّي العجم إليكم الجزية؟". قالوا: ما هي؟ قال: "لا إله إلاّ الله".

ص -222-      وصالح أهل نجران على ألفي حلة، وعارية ثلاثين درعاً وثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً، وثلاثين من كلّ صنفٍ من كلّ أصناف السّلاح يغزون بها والمسلمون ضامنون لهم حتى يردّوها عليهم إن كان باليمن كيد أو غدوة، على أن لا يهدم لهم بيعة، ولا يخرج لهم قس ولا يفتنون عن دينهم ما لم يحدثوا حدثاً أو يأكلوا الرّبا.
ففيه: انتقاض عهد أهل الذّمّة بإحداث الحدث، أو أكل الرّبا إذا شرط عليهم.
ولما وجّه معاذاً إلى اليمن أمره أن يأخذ من كلّ محتملٍ ديناراً أو قيمته من المعافري وهي ثياب باليمن، ففيه أنّها غير مقدرة الجنس ولا القدر، بل بحسب حاجة المسلمين، وحال من تؤخذ منه، ولم يفرّق ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ولا خلفاؤه بين العرب وغيرهم، أخذها من مجوس هجر وهم عرب، فإنّ العرب كلّ طائفةٍ منهم تدين بدين مَن جاورها من الأمم، فكانت عرب البحرين مجوساً، وتنوخ وبهرة وبنو تغلب نصارى، فلم يعتبر آباءهم ولا متى دخلوا في دين أهل الكتاب، وثبت عنه أنّ من الأنصار من تَهَوَّدَ أبناؤهم بعد نسخ شريعة موسى فأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام، فأنزل الله:
{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، [البقرة من الآية: 256]، وقوله: "خذ من كلّ حالمٍ ديناراً"، دليل على أنّها لا تؤخذ من صبيٍ ولا امرأةٍ، واللّفظ الذي روي: "من كلّ حالمٍ أو حالمة" لا يصحّ وصله، وهو منقطع، وهذا الزّيادة لم يذكرها سائر الرّواة، ولعلّها من تفسير بعضهم.

ص -223-      فصل: في ترتيب هديه مع الكفّار والمنافقين من حين بُعِث إلى أن لقي الله ـ عزّ وجلّ
أوّل ما أوحى إليه ربّه ـ تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربّه الذي خلقه، وذلك أوّل نبوّته، ثم أنْزل عليه:
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ}، [المدثر الآيتان:1-2]. فأرسله بها، ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، فأنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشرة سنة ينذر بغير قتال، ويؤمر بالصّبر، ثم أَذِنَ له في الهجرة، ثم أذن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل من قاتلة، ثم أمره أن يقاتل المشركين حتى يكون الدّين كلّه لله.
ثم كان الكفّار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة: أهل هِدنة، وأهل حربٍ، وأهل ذمّة، فأمره أن يفي لأهل الهدنة، ما استقاموا، فإن خاف نبذ إليهم، وأمره أن يقاتل من نقض عهده، ونزلت (براءة) بيان الأقسام الثّلاثة، فأمره بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، وأمره بجهاد الكفّار والمنافقين، فجاهد الكفّار بالسّيف، والمنافقين بالحجّة، وأمره بالبراءة من عهود الكفّار، وجعلهم ثلاثة أقسامٍ: قسم أمره الله بقتالهم وهم النّاقضون، وقسم لهم عهد مؤّقت لم نقضوه، فأمره بإتمامه

ص -224-      إلى مدته، وقسم لهم عهد مطلق أو لا عهد لهم، ولم يحاربوه، فأمره أن يؤجلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت قاتلهم وهي المذكورة في قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ}، [التوبة من الآية: 5]، وأوّلها: العاشر من ذي الحجة يوم الأذان، وآخرها العاشر من ربيع الآخر، وليست الأربعة المذكورة في قوله: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}، [التّوبة من الآية: 36] ولم يسيّر المشركين فيها، فإنّه لا يمكن لأنّها غير متواليةٍ، وقد أمر بعد انسلاخ الأربعة بقتالهم، فقاتل النّاقض، وأجّل مَن لا عهد له، أو له عهد مطلق أربعة أشهر، وأمره أن يتمّ للموفي عهده إلى مدته، فأسلموا كلّهم، ولم يقيموا كفاراً إلى مدتهم، وضرب على أهل الذّمّة الجزية، فاستقرّ أمرهم معه ثلاثة أقسام: محاربين، وأهل عهدٍ، وأهل ذمّة، ثم صار أهل العهد إلى الإسلام، فصاروا قسمين: محاربين، وأهل ذمّةٍ، فصار أهل الأرض ثلاثة أقسام: مسلم، ومسالم، وخائف محارب.
وأمّا سيرته في المنافقين، فأمر أن يقبل علانيتهم، ويجاهدهم بالحجّة، ويعرض عنهم، ويغلظ ويبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهي أن يصلي عليهم، وأن يقوم على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم أو لم يستغفر لهم، فلن يغفر الله لهم.

ص -225-      فصل
وأمّا سيرته مع أوليائه، فأمر أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وأن لا تعدو عيناه عنهم، وأن يعفو عنهم، ويستغفر لهم، ويشاورهم، ويصليّ عليهم، وأمر بهجر مَن عصاه وتخلف عنه حتى يتوب كما هجر الثّلاثة، وأمر أن يقيم الحدود فيهم على الشّريف والوضيع.
وأمر في دفع عدوّه من شياطين الإنس أن يدفع بالتي هي أحسن، فيقابل الإساءة بالإحسان، والجهل بالحلم، والظّلم بالعفو، والقطيعة بالصّلة، وأخبر أنّه إن فعل عاد العدوّ كأنّه ولي حميم.
وأمر في دفع عدوّه من شياطين الجن بالاستعاذة، وجمع له هذين الأمرين في ثلاثة مواضع في: (الأعراف)، و(المؤمنون)، و(حم السّجدة)، وجمع له في آية (الأعراف) مكارم الأخلاق كلّها، فإن ولي الأمر له مع الرّعية ثلاثة أحوال: فعليهم حقّ يلزمهم له، وأمر عليه أن يأمرهم به، ولا بدّ من تفريطٍ منهم في حقّه، فأمر بأن يأخذ مما عليهم مما سمحت به أنفسهم وهو العفو، وأمر أن يأمرهم بالعُرف، وهو ما تعرفه العقول السّليمة، والفطر المستقيمة، وأيضاً يأمرهم بالعرف لا العنف، وأمر بأن يقابل جهلهم بالإعراض، فهذه سيرته مع أهل الأرض جنّهم وإنسهم، مؤمنهم وكافرهم.

ص -226-      فصل في سياق مغازيه
أوّل لواءٍ عقده لحمزة في رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة وبعثه في ثلاثين من المهاجرين خاصّة، يعترض عيراً لقريشٍ، جاءت من الشّام، فيها أبو جهل في ثلاثمائة، فلمّا التقوا حجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، وكان حليفاً للفريقين.
ثم بعث عبيدة بن الحارث في سريةٍ إلى بطن رابغ في شوال في ستّين من المهاجرين، فلقي أبا سفيان في مائتين، فكان بينهم رمي، ولم يسلّوا السّيوف، وكان سعد أوّل مَن رمى بسهمٍ في سبيل الله، وقدّمها ابن إسحاق على سرية حمزة.
ثم بعث سعداً إلى الحرار على رأس تسعة أشهر في عشرين راكباً، يعترضون عيراً لقريشٍ، فلما بلغوه، وجدوها مرّت بالأمس، ثم غزا بنفسه غزوة الأبواء وهي أوّل غزوةٍ غزاها بنفسه، خرج في المهاجرين خاصّة يعترض عيراً لقريشٍ، فلم يلق كيداً.
ثم غزا أبواط في شهر ربيع في مائتين من أصحابه يعترض عيراً لقريشٍ، حتى بلغ أبواط فلم يلق كيداً فرجع.

ص -227-      ثم خرج على رأس ثلاثة عشر شهراً لطلب كرز بن جابر لما أغار على سرح المدينة، حتى بلغ سفوان من ناحية بدرٍ، ففاته كرز.
ثم خرج على رأس ستّة عشر شهراً في مائة وخمسين من المهاجرين، يعترض عيراً لقريشٍ ذاهبة إلى الشّام، فبلغ ذا العشيرة، فوجدها قد فاتته وهي التي خرج في طلبها لما رجعت، فكانت وقعة بدر.
ثم بعث عبد الله بن جَحْشٍ إلى نخلة في اثني عشر رجلاً من المهاجرين، كلّ اثنين يعتقبان على بعيرٍ، فوصلوا إلى بطن نخلةٍ يرصدون عيراً لقريشٍ، وأضل سعد وعتبة بن غزوان بعيراً لهما، فتخلفا في طلبه، ونفذوا إلى بطن نخلة، فمرّت بهم عير لقريشٍ، فقالوا: نحن في آخر يوم من رجب، وإن تركناهم اللّيلة دخلوا الحرم.
ثم أجمعوا على ملاقاتهم، فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي، فقتله وأسروا عثمان والحكم، وأفلت نوفل، وعزلوا الخمس، فكان أوّل خمس في الإسلام، فأنكر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عليهم واشتدّ إنكار قريشٍ، وزعموا أنّهم وجدوا مقالاً، واشتدّ على المسلمين ذلك، فأنزل الله ـ عزّ وجلّ ـ:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ}، [البقرة من الآية: 217]، يقول سبحانه: هذا وإن كان كبيراً، فما ارتكبتموه أنتم من الكفر، والصّدّ عن سبيل الله وبيته، وإخراج المسلمين الذين هم أهله منه، والشّرك الذي أنتم عليه، والفتنة التي حصلت منكم أكبر عند الله، والأكثر فسّروا (الفتنة) هنا بالشّرك، وحقيقتها: أنّها الشّرك الذي يدعو صاحبه إليه، ويعاقب مَن لم يفتتن به.

ص -228-      ولهذا يقال لهم في النّار: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ}، [الذّاريات من الآية: 14]، قال ابن عبّاس: تكذيبكم، وحقيقته: ذوقوا نهاية فتنتكم، كقوله: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}، [الزّمر من الآية: 24].
ومنه قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، [البروج من الآية: 10]، فسّرت بإحراق المؤمنين بالنّار، واللّفظ أعمّ، وحقيقته: عذبوا المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم.
وأمّا الفتنة المضافة إلى الله كقوله:
{فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}، [الأنعام من الآية: 53]، {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ}، [الأعراف من الآية: 155]، فهي الامتحان بالنّعم والمصائب، فهذه لون وفتنة المشركين لون، وفتنة المؤمن في ولده وماله وجاره لون آخر.
والفتنة بين أهل الإسلام، كأهل الجمل وصفّين لون آخر، وهي التي أمر فيها ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ باعتزال الطّائفتين.
وقد تأتي مُراداً بها المعصية، كقوله تعالى:
{أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا}، [التّوبة من الآية: 49]، أي: وقعوا في فتنة النّفاق، وفرّوا إليها من فتنة بنات بني الأصفر.
والمقصود أنّه ـ سبحانه ـ حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل، ولم يؤيس أولياءه إذا كانوا متأوّلين أو مقصّرين تقصيراً يُغفر لهم في جنب ما فعلوه من التّوحيد والطّاعات والهجرة.

ص -229-      فصل
فلمّا كان في رمضان من هذه السّنة بلغه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ خبر العير المقبلة من الشّام، فندب للخروج إليها ولم يحتفل لها؛ لأنّه خرج مسرعاً في ثلاثمئة وبضعة عشر رجلاً معهم فرسان على سبعين بعير، يعتقبونها، وبلغ الصّريخ مكّة، فخرجوا كما قال تعالى: {بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، [الأنفال من الآية: 47]، فجمعهم الله على غير ميعادٍ، كما قال تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ}، [الأنفال من الآية: 42]، فلما بلغ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ خروجهم استشار أصحابه.
فتكلّم المهاجرون، فأحسنوا، ثم استشارهم ثانياً، فتكلّم المهاجرون، ثم استشارهم ثالثاً، ففهمت الأنصار أنّه يعنيهم، فبادر سعد بن معاذ، فتكلّم بكلامه المشهور، وقال المقداد كلامه المشهور، فسُرَّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بما سمع من أصحابه وقال:
"سيروا، وأبشروا، فإنّ الله وعدني إحدى الطّائفتين، وإنّي قد رأيت مصارع القوم".
فسار إلى بدرٍ، فلما طلع المشركون وتراءى الجمعان، قام ورفع يديه، واستنصر ربّه، واستنصر المسلمون الله، واستغاثوه، فأوحى الله إليه:
{أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ}، [الأنفال من الآية: 9]، قرئ بكسر الدّال وفتحها، فقيل: المعنى أنّهم ردف لكم، وقيل: يردف بعضهم بعضاً لم يأتوا دفعةً واحدةً.
فإن قيل: هنا ذكر ألفاً، وفي (آل عمران) ثلاثة آلاف وخمسة؟
قيل: فيه قولان:
ص -230-      أحدهما: أنّه يوم أُحدٍ، هو معلّق على شرطٍ، ففات وفات الإمداد.
والثّاني: يوم بدرٍ، وحجّته أنّ السّياق يدلّ عليه، كقوله تعالى:
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} الآية إلى قوله: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ}، [آل عمران الآيات: 123-126].
فلما استغاثوه أمدّهم بألفٍ، ثم بثلاثة، ثم بخمسةٍ، وكان متابعة الإمداد أحسن موقعاً وأقوى لنفوسهم، وأسرّ لها.
وقال أهل القول الأوّل: القصّة في سياق أُحدٍ، ودخول بدرٍ اعتراض، فذكرهم نعمته ببدرٍ، ثم عاد إلى قصة أُحدٍ، وأخبر عن قول رسوله لهم:
{أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} الآية، ثم وعدهم أنّهم إن صبروا واتّقوا أمدّهم بخمسة آلاف، فهذا من قول رسوله، والذي ببدرٍ من قوله تعالى، وهو مطلق، وذاك معلّق، والكلام في قصّة أُحدٍ مستوفاة مطوّلة، وفي (الأنفال) قصّة بدرٍ مستوفاة مطوّلة، يوضّحه قوله: {وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا}، [آل عمران من الآية: 125]، قال مجاهد: يوم أُحدٍ، وهذا يستلزم أن يكون الإمداد فيه، فلا يصحّ قوله: إنّ الإمداد يوم بدرٍ، والإتيان من فورهم يوم أُحدٍ.
ولما عزموا على الخروج، ذكروا ما بينهم وبين بني كنانة من الحرب، فتبدى لهم إبليس في صورة سُراقة بن مالك، وقال:
{لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}، [الأنفال من الآية: 49]، من أن تأتيكم كنانة بشيءٍ تكرهونه، فلمّا تعبّوا للقتال ورأى جند الله قد نزلت من السّماء، فرَّ، ونكص على عقبيه، فقالوا: إلى أين يا سُراقة، ألم تكن قلت: إنّك جار لنا؟ فقال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، [الأنفال من الآية: 48]، وصدق

ص -231-      في قوله: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ}، وكذب في قوله:{إِنِّي أَخَافُ اللَّهَْ}.
وقيل: خاف أن يهلك معهم وهو أظهر.
ولَمّا رأى المنافقون ومَن في قلبه مرض قلة حزب الله، وكثرة أعدائه، ظنّوا أنّ الغلبة بالكثرة، فقالوا:
{غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ}، [الأنفال من الآية: 49]، فأخبر سبحانه أنّ النّصر بالتّوكلّ لا بالكثرة ولا بالعدد، وأنّه عزيز لا يغالب حكيم ينصر المستحقّ وإن كان ضعيفاً.
وفرغ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من شأن بدرٍ والأسرى في شوّالٍ، ثم نهض ـ صلوات الله عليه ـ بعد ذلك بسبعة أيامٍ إلى بني سليم، فبلغ ماء يقال له: الكُدر، فأقام عليه ثلاثاً، ثم انصرف.
ولَمّا رجع فل المشركين إلى مكّة نذر أبو سفيان ألا يمسّ رأسه ماء حتى يغزو رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فخرج في مائتي راكبٍ حتى بلغ طرف المدينة، وبات ليلة عند سلام بن مشكم، فبطن له خبر النّاس، فلمّا أصبح قطع أصواراً من النّخل، وقتل رجلاً من الأنصار وحليفاً له، فخرج رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في طلبه ففاته، وطرح الكفّار سويقاً كثيراً يتخفّفون به، فسُمِّيت غزوة السّويق.
ثم غزا نجداً يريد غطفان، فأقام هناك صفراً كلّه من السّنة الثّالثة ثم انصرف ولم يلق حرباً، ثم خرج يريد قريشاً، فبلغ بحران، معدناً بالحجاز، فلم يلق حرباً، فأقام هناك ربيع الآخر وجمادى الأولى، ثم انصرف.
ثم غزا بني قينقاع، ثم قتل كعب بن الأشرف، وأذن في قتل مَن وُجد من اليهود لنقضهم العهد، ومحاربتهم الله ورسوله.
ولما قتل الله أشراف قريش ببدرٍ ورأس فيهم أبو سفيان، جمّع

ص -232-      الجموع، وأقبل بهم إلى المدينة، فنَزل قريباً من أُحدٍ. وكانت وقعة أُحدٍ المشهورة، واستعرض الشّباب يومئذٍ، فردّ من استصغره عن القتال، منهم: ابن عمر، وأُسامة، وزيد بن ثابث، وعرابة بن أوس، وأجاز مَن رآه مطيقاً، منهم: سمرة بن جندب، ورافع بن خديج، ولهما خمس عشرة سنة، فقيل: أجاز مَن أجاز لبلوغه، وجعلوا حدّ البلوغ بالسّن خمس عشرة سنة، وقالت طائفة: أجازهم لإطاقتهم، ولا تأثير للبلوغ وعدمه في ذلك، قالوا: وفي بعض ألفاظٍ حديث ابن عمر: فلمّا رآني مطيقاً أجازني.
ثم ذكر قصة الأصيرم، وكلام أبي سفيان على الجبل، وهي ما روى البخاري في (صحيحه) عن البراء بن عازب ـ رضي الله عنهما ـ، قال: أشرف أبو سفيان، قال: أفي القوم محمّدٌ؟ فقال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"لا تجيبوه"، قال: أفي القوم ابن أبي قحاقة؟، فقال: "لا تجيبوه"، فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟، فقال: "لا تجيبوه"، فقال: إنّ هؤلاء قد قُتِلُوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه، فقال: كذبت يا عدوّ الله أبقى الله تعالى لك ما يخزيك ويسوؤك.
قال أبو سفيان: أعلُ هُبَل، أعلُ هُبَل، فقال النَّبِي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"أجيبوه"، قالوا: ما نقول؟ قال: "قولوا: الله أعلى وأجلّ"، قال أبو سفيان: لنا العُزّى ولا عُزى لكم. فقال النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "أجيبوه"، قالوا: ما نقول؟ قال: "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم". قال أبو سفيان: يوم بيوم بدرٍ، والحرب سجالٌ، فأجابه عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النّار. ثم قال أبو سفيان: وستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. فأمر بجوابه عند افتخاره بآلهته وشركه،

ص -233-      تعظيماً للتّوحيد، وإعلاماً بعزّة إله المسلمين، ولم يأمرهم بإجابته أو نهاهم حين قال: أفيكم محمّدٌ؟...الخ؛ لأنّ كَلْمهم لَم يبرد بعد في طلب القوم، ونار غيظهم متوقدة، فلما قال: كفيتموهم. حمي عمر، وقال: كذبت، يا عدوّ الله.
ففيه من الشّجاعة، والتّعرّف إلى العدوّ في تلك الحال، ما يؤذن بالبسالة، وأنّه وقومه جديرون بعدم الخوف، فكان في جوابه من الغيظ للعدوّ، والفت في عضه ما ليس في جوابه حين سأل عنهم، فترك الجواب الأوّل أحسن، وذكره ثانياً أحسن.
وأيضاً ففي ترك إجابته إهانة له، فلمّا منّته نفسه موتهم، وحصل له من الكبر والإعجاب ما حصل، كان في جوابه إهانة وإذلال، فلم يكن مخالفاً لقوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"لا تجيبوه".

ص -234-      فصل: في ما اشتملت عليه هذه الغزوة من الأحكام
منها: أنّ الجهاد يلزم بالشّروع فيه، فمَن لبس لامته، ليس له أن يرجع.
ومنها: أنّه لا يجب الخروج إذا طرق العدوّ في الدّيار.
ومنها: أنّه لا يأذن لِمَن لا يطيق القتال من الصّبيان.
ومنها: جواز الغزو بالنّساء، والاستعانة بهن في الجهاد، وجواز الانغماس في العدوّ، كما فعل أنس بن النّضر وغيره، وأنّ الإمام إذا جرح صلّى بهم قاعداً وصلّوا وراءه قعوداً، وأنّ الدّعاء بالشّهادة، وتمنيها ليس من المنهي عنه كما فعل ابن جَحْشٍ، وأنّ المسلم إذا قتل نفسه، فهو من أهل النّار كقزمان، وأنّ الشّهيد لا يغسل، ولا يصلّى عليه، ولا يكفّن في غير ثيابه إلاّ أن يسلبها، وأنّه إذا كان جنباً غُسِّل كحنظلة، وأنّ الشّهداء يدفنون في مصارعهم لأمره بردّ القتلى إليها، وجواز دفن الاثنين والثّلاثة في القبر الواحد.
وهل دفنهم في ثيابهم استحباب أو وجوب؟ الثّاني أظهر.
ومنها: أنّ المعذور كالأعرج يجوز له الخروج، وأنّ المسلمين إذا قتلوا مسلماً في الجهاد يظنّونه كافراً، فديته في بيت المال؛ لأنّه أراد أن يدي أبا حذيفة بن اليمان.
وأما الحِكَمُ التي في هذه الوقعة، فقد أشار ـ سبحانه ـ إلى أُمّهاتها في سورة (آل عمران) من قوله:
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ}، [آل عمران من الآية: 121] إلى تمام السّتين آية.

ص -235-      فمنها: تعريفهم عاقبة المعصية والفشل والتّنازع ليستيقظوا ويحذروا من أسباب الخذلان، وأنّ حكمة الله جرت بأنّ الرّسل وأتباعهم يُدالون مرّة، ويُدال عليهم أخرى، لكن يكون لهم العاقبة، فلو انتصروا دائماً دخل معهم المؤمن وغيره ولم يتميّزوا، ولو انتصر غيرهم دائماً لم يحصل المقصود.
قال الله تعالى:
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}، [آل عمران من الآية: 179]، أي: ما كان الله ليذركم على هذا من التباس المؤمنين بالمنافقين حتى يميّزهم {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}، [آل عمران من الآية: 179]، الذي يميز به بينهم بل يريد سبحانه أن يميّزهم تمييزاً مشهوداً.
وقوله:
{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}، [آل عمران من الآية: 179] استدراك لما نفى من إطلاعهم على الغيب، أي: سوى الرّسل، فإنّه يطلعهم على ما يشاء كما في سورة الجن، فسعادتكم بالإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله، فإن آمنتم به واتّقيتم فلكم أعظم الأجر.
ومنها: استخراج عبودية أوليائه في السّراء والضّراء، فإذا ثبتوا على الطّاعة فيما أحبّوا وكرهوا، فهم ليسوا كَمَن يعبده على حرفٍ.
ومنها: أنّه لو بسط لهم النّصر دائماً لكانوا كما يكونون لو بسط لهم الزّرق، فهو المدبّر لهم، كما يليق بحكمته، إنّه بهم خبير بصير.
ومنها: أنّهم إذا انكسروا له استوجبوا النّصر، فإنّ خلعة النّصر مع ولاية الذّلّ، كما قال تعالى:
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}، [آل عمران: من الآية: 123]، {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} الآية، [التوبة من الآية: 25].

ص -236-      ومنها: أنّه هيّأ لعباده منازل لا تبلغها أعمالهم، ولا يبلغونها إلاّ بالبلاء، فقيَّضه لهم، كما وفّقهم للأعمال الصّالحة.
ومنها: أنّ العافية الدّائمة، والنّصر والغنى يورث ركوناً إلى العاجلة، ويثبط النّفوس، ويعوقها عن السّير إلى الله، فإذا أراد الله كرامة عبدٍ قيَّض له من البلاء ما يكون دواء لهذا.
ومنها: أنّ الشّهادة عنده من أعلى المراتب، وهو سبحانه يحبّ أن يتّخذ من أوليائه شهداء.
ومنها: أنّه سبحانه إذا أراد هلاك أعدائه قيَّض أسباباً يستوجبون بها الهلاك. بغيهم ومبالغتهم في أذى أوليائه، فيمحص به أولياءه من ذنوبهم، ويكون من أسباب محق أعداء الله، وذكر سبحانه ذلك في قوله:
{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا} إلى قوله: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}، [آل عمران من الآيات: 139-141]، فجمع بين تشجيعهم، وحسن التّعزية، وذكر الحكم الباهرة التي اقتضت إدالة الكفّار، فقال: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}، [آل عمران، من الآية: 140]، أي: ما بالكم تحزنون وتهنون عند هذا، وقد مسّهم مثله في سبيل الشّيطان.
ثم أخبر أنّه يداول أيّام هذه الحياة؛ لأنّها عرض حاضر يقسمها بين أوليائه وأعدائه بخلاف الآخرة.
ثم ذكر حكمة أخرى، وهي تمييز المؤمن من المنافق، فيعلّمهم علم شهادةٍ؛ لأنّ العلم الغيبي لا يترتّب عليه ثواب ولا عقاب.
ثم ذكر حكمة أخرى، وهي اتّخاذه منهم شهداء، قوله:
{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}، [آل عمران من الآية: 57، والآية 140]، تنبيه لطيف على أنّ الذين انخذلوا عن نبيّه يوم أُحدٍ، لم يتّخذ منهم شهداء؛ لأنّه لا يحبّهم.
ثم ذكر حكمة أخرى، وهي تمحيص المؤمنين من الذّنوب، وأيضاً من المنافقين.
ثم ذكر

ص -237-      حكمة أخرى، وهي محق الكافرين. ثم أنكر حسبانهم دخول الجنة بدون الجهاد، والصّبر، وقوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}، [آل عمران من الآية: 142]، أي: ولما يقع منكم، فيكون الجزاء على الواقع المعلوم، ثم وبّخهم على هزيمتهم من أمرٍ كانوا يتمنّونه.
ومنها: أنّ هذه الواقعة مقدّمة بين يدي موته ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، والشّاكرون هم الذين عرفوا قدر النّعمة، فثبتوا عليها حين مات رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فجعل لهم العاقبة.
ثم أخبر أنّه جعل لكلّ نفسٍ أجلاً.
ثم أخبر أنّ كثيراً من الأنبياء قُتِلُوا، وقتل معهم أتباع لهم كثيرون، فما وهن مَن بقي منهم، أو ما وهنوا عند القتل، والصّحيح أنّها تتناول الفريقين.
ثم أخبر سبحانه عمّا استنصر به الأنبياء وأُمَمُهم من اعترافهم، وتوبتهم واستغفارهم، وسؤالهم التّثبيت لأقدامهم، والنّصر على أعدائهم، فقال:
{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}، [آل عمران الآية: 147]، فسألوا من الله مغفرة ذنوبهم وتثيب أقدامهم ونصرهم لما علموا أنّهم إنّما يُدال عليهم بذنوبهم، وأنّ الشّيطان يستزلّهم، ويهزمهم بها، وأنّها نوعان: تقصير في حقٍّ، أو تجاوز في حدٍّ، وأنّ النّصر منوط بالطّاعة، {قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}، [آل عمران من الآية: 147]، ثم علموا أنّه ـ سبحانه وتعالى ـ إن لم يثبّت أقدامهم، وينصرهم، لم يقدروا على ذلك، سألوه ما هو بيده، فوفوا المقامين حقّهما: مقام المقتضي، وهو التّوحيد والالتجاء إليه، ومقام إزالة المانع من النّصر، وهو الذّنوب والإسراف، ثم حذّرهم سبحانه من طاعة العدوّ وأنّهم إن فعلوا ذلك خسروا الدّارين.
وفيه: تعريض بِمَن أطاعهم من المنافقين لما انتصروا يوم أُحدٍ.
ثم أخبر سبحانه أنّه مولى المؤمنين

ص -238-      وخير النّاصرين، فمَن والاه، فهو المنصور.
ثم أخبر أنّه سيلقي في قلوب أعدائهم الرّعب الذي يمنعهم من الهجوم عليهم، وذلك بسبب الشّرك، وعلى قدر الشّرك يكون الرّعب، والمؤمن الذي لم يلبس إيمانه بالشّرك، له الأمن والهدى.
ثم أخبر بصدقٍ وعده في النّصر، وأنّهم لو استمرّوا على الطّاعة، لاستمرّ النّصر، ولكن انخلعوا عن عصمة الطّاعة، ففارقتهم النّصرة، فصرفهم ابتلاءً وتعريفاً لهم بعاقبة المعصية.
ثم أخبر بعفوه عنهم بعد ذلك.
قيل للحسن: كيف عفا وقد سلّط عليهم؟
فقال: لولا عفوه لاستأصلهم، ولكن بعفوه دفعهم بعد أن أجمعوا على استئصالهم.
ثم ذكّرهم بحالهم حال الفرار مصعدين، أي: جادّين في الهرب، أو صاعدين في الجبل لا يلوون على نبيّهم وأصحابه، والرّسول يدعوهم في أخراهم:
"إليَّ عباد الله أنا رسول الله"، فأثابهم بهذا الفرار غماً بعد غمٍّ: غم الفرار، وغم صرخة الشّيطان أنّ محمّداً قُتِل، وقيل: جازاكم غمّاً بما غممتم رسوله بفراركم، والأوّل أظهر لوجوه:
الأوّل: قوله:
{لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ}، [الحديد من الآية 23]، إلى آخره، تنبيهاً على الحكمة وهي: نسيانهم الحزن على ما فاتهم من الظّفر، وما أصابهم من الهزيمة، وهذا إنّما يحصل بغمّ يعقبه غمّ آخر.
الثّاني: مطابقة الواقع فحصل غمّ فوات الغنيمة، ثم غمّ الهزيمة، ثم غمّ الجراح والقتل، ثم سماع قتل النّبِيّ، ثم ظهور العدوّ على الجبل، وليس المراد غمّين اثنين، بل غمّاً متتابعاً لتمام الابتلاء.
الثّالث: أنّ قوله:
{بِغَمٍّ}، [آل عمران من الآية: 153]، من تمام الثّواب، لا أنّه سبب للثّواب،

ص -239-      والمعنى: أثابكم غمّاً متّصلاً بغمّ جزاء على ما وقع من الهرب وإسلام النَّبِيّ، وترك الاستجابة له، ومخالفته، في لزوم المركز، وتنازعهم وفشلهم وكلّ واحدٍ يوجب غمّاً يخصّه ومن لطفه بهم أنّها موجبات الطّباع التي تمنع من النّصر المستقر، فقيَّض ما أخرجها من القوّة إلى الفعل، فترتّبت عليها آثارها، فعلموا أنّ التّوبة منها، والاحتراز منها، ودفعها بأضدادها متعين، وربّما صحّت الأجساد بالعلل.
ثم إنّه سبحانه رحمهم، فغيّب عنهم الغمّ بالنّعاس، وهو في الحرب علامة النّصر، كما أنْزله يوم بدرٍ، وأخبر أنّ مَن لم يصبه فهو مِمَن أهمته نفسه لا دينه ولا نبيّه ولا أصحابه، وأنّهم:
{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}، [آل عمران من الآية: 154].
وفسّر هذا الظّن بأنّه سبحانه لا ينصر رسوله، وأنّ أمره سيضمحل، وفسّر أنّ ما أصابهم لم يكن بقدر الله، ولا حكمة له فيه. ففسّر بإنكار الحكمة وإنكار القدر وإنكار إتمام دينه، وهذا هو ظنّ السّوء الذي ظنّه المشركون والمنافقون في (سورة الفتح)، وإنّما كان هذا الظّن ظّن السّوء والجاهلية لأنّه ظنّ لا يليق بالله وصفاته وأسمائه وحكمته وحمده، وتفرّده بالرّبوبية والألهية وصدقه في وعده، فَمَن ظنّ أنّه لا يتمّ أمر رسوله، وأنّه يديل الباطل على الحقّ إدالةً مستقرّةً، يضمحل معها الحقّ اضمحلالاً لا يقوم بعده، فقد ظنّ به ظنّ السّوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وصفاته، ومَن أنكر أن يكون ذلك بقدره، فما عرفه ولا عرف ملكه، وكذلك مَن

ص -240-      أنكر الحكمة التي يستحقّ عليها الحمد في ذلك، بل زعم أنّها مشيئة مجرّدة فذلك ظنّ الذين كفروا، فويلٌ للذين كفروا من النّار.
وأكثر النّاس يظنّون بالله ظنّ السّوء فيما يختص بهم وفي غيرهم، ولا يسلم من ذلك إلاّ مَن عرف الله، وعرف أسماءه وصفاته، وموجب حمده وحكمته، فمَن قنط من رحمته، فقد ظنّ به ظنّ السّوء، ومَن جوّز عليه أنّه يعذّب المحسن، ويسوّي بينه وبين عدوّه، فقد ظنّ به ذلك، ومنَ ظنّ أنّه يترك خلقه سدى من الأمر والنّهي، فقد ظنّ به ظنّ السّوء، وكذلك مَن ظنّ أنّه لا يثيبهم ولا يعاقبهم، ولا يبيّن لهم ما اختلفوا فيه، وكذلك مَن ظنّ أنّه يضيع العمل الصّالح بلا سببٍ من العبد، ويعاقبه بما لا صُنع له فيه، أو جوّز عليه أن يؤيّد أعداءه بالمعجزات التي يؤيّد بها الرّسل، وأنّه يحسن منه كلّ شيء حتى يخلد في النّار مَن أفنى عمره في طاعته، وينعم مَن أنفد عمره في معصيته، وكلاهما في الحسن سواء لا يعرف امتناع أحدهما إلاّ بخبرٍ صادقٍ، وإلاّ فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر، وكذلك مَنْ ظنّ أنّه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطلٌ، وترك الحقّ لم يخبر به إلاّ برمزٍ من بعيدٍ، وصرح دائماً بالباطل، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم في تحريف كلامه، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم، لا على كتابه، بل أراد أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفون من لغتهم مع قدرته على التّصريح بالحقّ، وإزالة الألفاظ التي توقع في اعتقاد الباطل، وظنّ أنّه وسلفه عبروا عن الحقّ دون الله ورسوله، وأنّ الهدى في كلامهم، وأنّ كلام الله لا يؤخذ من ظاهره إلاّ الضّلال،

ص -241-      فهذا من سوء الظّنّ بالله، فكلّ من هؤلاء من الظّانّين بالله ظنّ السّوء، ومن الظّانّين بالله غير الحقّ ظنّ الجاهلية، ومَن ظنّ أنّه يكون في ملكه ما لا يشاء، ولا يقدر عليه فقد ظنّ به ظنّ السّوء، ومَن ظنّ أنّه كان معطلاً من الأزل إلى الأبد عن الفعل، ولا يوصف به حينئذٍ ثم صار قادراً عليه، فقد ظنّ به ظنّ السّوء، ومَن ظنّ أنّه لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم الموجودات، فقد ظنّ به ظنّ السّوء، ومَن ظنّ أنّه لا إرادة له، ولا كلام يقوم به، وأنّه لم يكلّم أحداً، ولا يتكلّم أبداً، ولا له أمر ولا نهي يقوم به، فقد ظنّ به ظنّ السّوء، ومَن ظنّ أنّه ليس فوق سماواته على عرشه وأنّ الأمكنة بالنّسبة إليه سواء، ومَن قال: سبحان ربّي الأسفل، كَمَن قال: سبحان ربّي الأعلى، فقد ظنّ به أقبح الظّنّ، ومَن ظنّ أنّه يحبّ الكفر والفسوق والعصيان، ولا يغضب، كما يحبّ الطّاعة فقد ظنّ به ظنّ السّوء،ومَنْ أنّه لا يحبّ ولا يرضى... ولا يوالي ولا يعادي، ولا يقرب من أحدٍ ولا يقرب منه أحد، فقد ظنّ به ظنّ السّوء، وكذلك مَن ظنّ أنّه يسوّي بين المتضادين، أو يفرّق بين المتساويين من كلّ وجهٍ، أو يحبط طاعات العمر بكبيرةٍ تخلّده في نار الجحيم، وبالجلمة فمَن ظنّ به خلاف ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسله، أو عطّل ما وصف به نفسه، فقد ظنّ به ظنّ السّوء، كَمَن ظنّ أنّ له ولداً أو شريكاً أو شفيعاً بدون إذنه، أو أنّ بينه وبين خلقه وسائط، يرفعون حوائجهم إليه، أو أنّ ما عنده ينال بالمصعية كما ينال بالطّاعة، أو ظنّ أنّه إذا ترك لأجله شيئاً لم يعوضه خيراً منه، أو ظنّ أنّه يعاقب بمحض المشيئة بغير سببٍ من العبد، أو ظنّ أنّه إذا صدقه في الرّغبة والرّهبة أنّه يخيّبه، أو ظنّ أنّه يسلّط على رسوله محمّد ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أعداءه تسليطاً مستقرّاً في حياته ومماته.

ص -242-      فلَمَّا مات استبدوا بالأمر دون وصيه وأهل بيته، وكانت العزّة لأعدائه وأعدائهم بلا ذنب لأوليائه، وهو يقدر على نصرهم، ثم جعل المبدلين مضاجعين له في حفرته تسلم أمته عليه وعليهم، وكلّ مبطلٍ وكافرٍ مقهور، فهو يظنّ بربّه هذ الظّنّ، فأكثر الخلق بل كلّهم إلاّ ما شاء الله يظنّون بالله غير الحقّ ظنّ السّوء، ومَن فتش نفسه رآه فيها كامناً كمون النّار في الزّناد، فاقدح من زناد من شئت ينبئك شرره عما في زناده، فمستقل ومستكثر، وفتِّش نفسك هل أنت سالم...
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمةٍ         وإلاّ فإنّي لا إخالك ناجيا
فليعن اللّبيب النّاصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله ويستغره كلّ وقتٍ من ظنّه بربّه ظنّ السوء.
والمقصود الكلام على قوله تعالى:
{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}، [آل عمران من الآية: 154].
ثم أخبر عن الكلام الصّادر عن ظنّهم وهو قولهم:
{هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ}، [آل عمران من الآية: 154].
وقولهم:
{لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}، [آل عمران من الآية: 154]، فليس مقصودهم بهذا إثبات القدر، ولو كان ذلك لم يذموا، ولما حسن الرّدّ عليهم بقوله: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}، [آل عمران من الآية: 154]، ولهذا قال غير واحدٍ: إنّ ظنّهم هذا التّكذيب بالقدر، وظنّهم أنّ الأمر لوكان إليهم لما أصابهم القتل، فأكذبهم بقوله: {إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}، فلا يكون إلاّ ما سبق به قضاؤه، فلو كتب القتل على مَن كان في بيته لخرج إلى مضجعه ولا بدّ، وهذا من أظهر الأشياء إبطلاً لقول القدرية.

ص -243-      ثم أخبر تعالى عن حكمةٍ أخرى، وهي ابتلاء ما في صدورهم، وهو اختبار ما فيها من الإيمان والنّفاق، فالمؤمن لا يزداد بذلك إلاّ إيماناً، والمنافق ومَن في قلبه مرضٌ يظهر على جوارحه.
ثم ذكر حكمةً أخرى، وهي تمحيص ما في قلوب المؤمنين، وهو تنقيتها، فإنّ القلوب يخالطها من غلبة الطّبع وميل النّفس، وحكم العادة، وتزيين الشّيطان، واستيلاء الغفلة ما يضادُّ ما فيها من الإيمان، فلو تركت في عافيةٍ دائمةٍ لم تتخلّص من هذا، فكانت نعمته عليهم بهذه الكسرة تعادل النّعمة بالنّصرة.
ثم أخبر تعالى عمَن تولّى من المؤمنين، أنّه بسبب ذنوبهم استزلّهم الشّيطان فإنّ الأعمال جُند للعبد وجُند عليه، ففرار الإنسان من عدوّ يطيقه إنّما هو بجند من عمله.
ثم أخبر أنّه عفا عنهم لأنّ الفرار لم يكن عن شكٍّ وإنّما كان لعارضٍ، ثم كرّر سبحانه أنّ هذا بأعمالهم فقال:
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} الآية، [آل عمران من الآية: 165].
وذكر هذا بعينه فيما هو أعمّ من ذلك في السّور المكيّة، وقال:
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}، [الشّورى الآية: 30].
وقال:
{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}، [النّساء من الآية: 79]، فالنّعمة فضلة، والسّيّئة عدله.
وختم الآية بقوله:
{هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، [آل عمران من الآية: 165]، بعد قوله: {هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}، [آل عمران من الآية: 165]، إعلاماً بعموم قدرته مع عدله.
ففيه إثبات القدر والسّبب فأضاف السّبب إلى نفوسهم، وعموم القدرة إلى نفسه، فالأوّل ينفي الجبر، والثّاني ينفي إبطال القدر، فهو مشاكل قوله:
{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}

ص -244-      [التّكوير الآيتان:28-29].
وفي ذكر قدرته نكتة لطفية، وهي أنّ الأمر بيده، فلا تطلبوا كشف أمثاله من غيره، وكشف هذا ووضحه بقوله:
{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ}، [آل عمران من الآية: 166]، وهو الإذن القدري، ثم أخبر عن حكمة هذا التّقدير وهو أن يعلم المؤمنين من المنافقين علم عيان، فتكلّم المنافقون بما في نفوسهم، فسمعه المؤمنون، وسمعوا ردّ الله عليهم وعرفوا مؤدَّى النّفاق وما يؤول إليه، فلله كم من حكمةٍ في ضمن هذه القصّة ونعمةٍ، وكم فيها من تحذيرٍ وإرشادٍ.
ثم عزَّاهم عمَن قُتِل منهم أحسن تعزيةٍ فقال:
{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآيات، [آل عمران الآيات من:169- 173]، نجمع لهم بين الحياة الدّائمة، والقرب منه وأنّهم عنده، وجريان الرّزق المستمرّ عليهم، وفرحهم بما آتاهم من فضله وهو فوق الرّضى، واستبشارهم بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يتمّ سرورهم ونعيمهم، واستبشارهم بما يجدّد لهم كلّ وقتٍ من كرامته.
وذكّرهم سبحانه في هذه المحنة بما هو من أعظم نعمه عليهم، التي إن قابلوا بها كلّ محنةٍ تلاشت، وهي إرسال رسول من أنفسهم، فكلّ بليّةٍ بعد هذا الخير العظيم أمرٌ يسيرٌ جدّاً، فأعلمهم أنّ المصيبة من أنفسهم، ليحذروا، وأنّها بقدره ليوحّدوا ويتّكلوا، وأخبرهم بما له من الحِكَم لئلا يتّهموه في قدره، وليتعرف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته، وذكّرهم بما هو أعظم من النّصر والغنيمة، وعزّاهم عن قتلاهم لينافسوهم، ولا يحزنوا عليهم، فله الحمد كما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه وعزّ جلاله.

ص -245-      فصل
ولما انتقضت الحرب، انكفأ المشركون، فظنّ المسلمون أنّهم قصدوا المدينة، فشقّ عليهم، ثم نادى أبو سفيان: موعدكم الموسم ببدرٍ. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "قولوا: نعم". ثم انصرفوا.
فلَمّا كانوا ببعض الطّريق تلاوموا فقالوا: أصبتم شوكتهم، ثم تركتموهم يجمعون لكم، فارجعوا نستأصلهم، فبلغ ذلك رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فنادى في النّاس، وندبهم إلى المسير، وقال:
"لا يخرج معنا إلاّ مَن شهد القتال"، فاستجاب المسلمون على ما بهم، فاستأذنه جابر لحبس أبيه إيّاه، فأذن له، فساروا حتى بلغوا حمراء الأسد، فقال أبو سفيان لبعض مَن يريد المدينة من المشركين: هل لك أن تبلغ محمّداً رسالةً، وأوقر لك راحلتك زبيباً إذا أتيت مكّة؟ قال: نعم. قال: أبلغه أنّا جمعنا الكرّة لنستأصله وأصحابه. فلما بلغهم قوله، قالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}، [آل عمران الآيتان 173-174].
وكانت وقعة أُحدٍ في شوّال سنة ثلاثٍ فأقام بقية السّنة، فلما استهلّ المحرّم، بلغه أنّ طليحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في مَن أطاعهما يدعوان إلى حربه، فبعث أبا سلمة ومعه مائة وخمسون، فأصابوا إبلاً وشاءً، ولم يلقوا كيداً.

ص -246-      فلما كان خامس المحرّم، بلغه أنّ خالد بن سفيان الهذلي قد جمّع له الجموع، فبعث إليه عبد الله بن أنيس فقتله.
فلَمّا كان في صفر، قدم عليه قوم من عضل والقارة، فذكروا أنّ فيهم إسلاماً، وسألوه أن يبعث معهم مَن يعلّمهم الدّين، فبعث معهم ستة فيهم: خبيب، وأمّر عليهم مُرثداً، فكان ما كان.
وفي هذا الشّهر كانت وقعة بئر معونة.
وفي ربيع الأوّل كانت غزوة بني النّضير، وزعم الزّهري أنّها كانت بعد بدرٍ بستة أشهرٍ، وهذا وهم منه أو غلط عليه، بل الذي لا شكّ فيه أنّها بعد أُحدٍ، والتي بعد بدرٍ قينقاع، وقريظة بعد الخندق، وخيبر بعد الحديبية، فله مع اليهود أربع غزوات.
ثم غزا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بنفسه ذات الرّقاع في جمادى الأولى، وهي غزوة نجد، يريد قوماً من غطفان وصلى بهم يومئذٍ صلاة الخوف، هكذا قال ابن إسحاق وجماعة في تاريخ هذه الغزوة، وهو مشكل، والظّاهر أنّ أوّل صلاةٍ صلاّها للخوف بعسفان، كما في حديثٍ صحّحه التّرمذي، وصحّ أنّه صلاّها بذات الرّقاع، فعلم أنّها بعد عسفان ولا خلاف أنّ عسفان بعد الخندق، ويؤيّده أنّ أبا هريرة وأبا موسى حضراها فلمّا كان في شعبان أو في ذي العقدة، خرج ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لميعاد أبي سفيان فانتهى إلى بدرٍ، وأقام ينتظر المشركين، وخرجوا حتى إذا كانوا على مرحلةٍ من مكّة رجعوا، وقالوا: العام عام جدبٍ.
ثم خرج ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في ربيع سنة خمسٍ إلى دومة الجندل، فهجم على ماشيتهم، وجاء الخبر اليهود في دومة، فتفرّقوا.

ص -247-      ثم بعث بريدة الأسلمي في شعبان إلى بني المصطلق وهي غزوة المريسيع، ـ وهو الماء ـ واصطفوا للقتال، وتراموا ساعة، ثم أمر أصحابه، فحملوا حملة رجلٍ واحدٍ، فانهزم المشركون، وسبى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ النّساء والذّراري والمال.
وفيها: سقط عقد لعائشة، فاحتبسوا في طلبه، فنِزلت آية التّيمّم، وفي الحديث الذي رواه الطّبراني أنّ أبا بكرٍ قال: يا بنيّة في كلّ سفرٍ تكونين علينا عناءً. فأنزل الله ـ عزّ وجلّ ـ آية التّيمّم، وهذا يدلّ على أنّ التّيمّم بعد هذه القصّة، لكن قصّة الإفك بسبب فقد العقد، فاشتبه على بعضهم إحدى القصّتين بالأخرى.
وأمّا قصّة الإفك، فهي في هذه الغزوة إلى أن قال: فأشار عليّ بفراقها تلويحاً لا تصريحاً لما رأى أنّ ما قيل مشكوك فيه، فأشار بترك الشّكّ ليتخلّص رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من الغمّ الذي لحقه بكلام النّاس.
وأشار أُسامة بإمساكها لما علم من حبّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لها ولأبيها، ولما علم من عفّتها وديانتها، وأنّ الله لا يجعل حبيبة نبيّه وبنت صدّيقه بالمنْزلة التي قالها أهل الإفك.
كما قال أبو أيّوب وغيره من سادات الصّحابة:
{سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}، [النّور من الآية: 16].
وتأمّل ما في تسبيحهم في هذا المقام من المعرفة بالله وتنْزيهه أن يجعل لرسوله امرأة خبيثة.
فإن قيل: فما باله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ توقف وسأل؟قيل: هذا

ص -248-      من تمام الحِكَم الباهرة التي جعل الله هذه القصّة سبباً لها وابتلاء لرسوله، ولجميع الأمّة إلى يوم القيامة، ليرفع بها أقواماً، ويضع بها آخرين، فاقتضى تمام الامتحان بأن حبس الوحي عن نبيّه شهراً لتظهر حكمته، على أكمل الوجوه، ويزداد الصّادقون إيماناً وثباتاً على العدل وحسن الظّنّ، ويزداد المنافقون إفكاً ونفاقاً، وتظهر سرائرهم، ولتتم العبودية المرادة منها ومن أبويها، وتتم نعمة الله عليهم، ولتشتدّ الفاقة منهم إلى الله والذّلّ له، والرّجاء له، ولينقطع رجاؤها من المخلوقين، ولهذا وفت هذا المقام حقّه، ولو أطلع الله رسوله على الفور، لفاتت هذه الأمور والحكم، وأضعافها وأضعاف أضعافها.
وأيضاً فإنّ الله أحبّ أن تظهر منْزلة رسوله عنده وأهل بيته، وأن يتولى بنفسه الدّفاع، والرّدّ على الأعداء وذمّهم بأمرٍ لا يكون لرسوله فيه عمل.
وأيضاً فإنّه المقصود بالأذى، فلا يليق أن يشهد ببراءتها، وكان عنده من القرائن أكثر مما عند المؤمنين، ولكن لكمال ثباته وصبره ورفقه، وفَّى مقام الصّبر حقّه.
ولَمّا جاء الوحي حدّ مَن صرّح بالإفك إلا ابن أُبيّ مع أنّه رأس الإفك، فقيل: لأنّ الحدود كفّارة، وهذا ليس كذلك، وقد وعد بالعذاب الأليم فيكفيه عن الحدّ.
وقيل: الحدّ لم يثبت عليه ببيّنةٍ، فإنّه إنّما يذكره بين أصحابه.
وقيل: حدّ القذف حقّ الآدمي لا يستوفى إلاّ بمطالبة.
وإن قيل: إنّه حقّ لله، فلا بدّ من مطالبة المقذوف.
وقيل: تركه لمصلحة أعظم

ص -249-      من إقامته، كما ترك قتله مع ظهور نفاقه، وهي تأليف قومه، وعدم تنفيرهم عن الإسلام.
ولعلّه تركه لهذه الوجوه.
وفي مرجعهم من هذه الغزوة قال ابن أُبيّ:
{لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلّ}، [المنافقون من الآية: 8].

ص -250-      فصل: في غزوة الخندق
وهي سنة خمسٍ في شوّال، وسببها أنّ اليهود لما رأوا انتصار المشركين يوم أُحدٍ، وعلموا بميعاد أبي سفيان فخرج ثم رجع، خرج أشرافُهم إلى قريشٍ يحرّضونهم على غزو رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فأجابتهم قريشٌ، ثم خرجوا إلى غطفان، فدعوهم واستجابوا لهم، ثم طافوا في قبائل العرب، ثم ذكر القصّة إلى أن ذكر قصّة العُرنيين، وقال:
فيها من الفقه: جواز شرب أبوال الإبل، وطهارة بول مأكول اللّحم، والجمع للمحارب بين قطع يده ورجله وقتله إذا أخذ المال، وأنّه يفعل بالجاني كما فعل، فإنّهم سملوا عين الرّاعي وسمل أعينهم، فظهر أنّ القصّة محكمة، وإن كانت قبل الحدود، فالحدود نزلت بتقريرها.

ص -251-      فصل: في قصّة الحديبية
وذكر القصّة إلى أن قال: وجرى الصّلح على وضع الحرب عشر سنين، وأن يرجع عنهم عامه ذلك، فإذا كان العام المقبل خلوا بينه وبين مكّة، فأقام ثلاثاً، وأن لا يدخلها إلا بسلاحٍ الرّاكب والسّيوف في القُرُب، ومَن أتاهم لم يردّوه، ومَن أتى من المسلمين منهم ردّوه.
وفي قصّة الحديبية أنّزل الله فدية الأذى في كعب بن عجرة.
وفيها: دعا للمحلّقين بالمغفرة ثلاثاً، وللمقصِّرين مرّة.
وفيها: نحر البدنة والبقرة عن سبع.
وفيها: أهدى جمل أبي جهل ليغيظ به المشركين.
وفيها: أنزلت سورة الفتح.
فلمّا رجع جاءه نساء مؤمنات، فنهاه الله عن إرجاعهن.
فقيل: هذا نسخ للشّرط في النّساء.
وقيل: تخصيص للسّنة بالقرآن، وهو عزيز جدّا.
وقيل: لم يقع الشّرط إلاّ على الرّجال خاصّة، فأراد المشركون تعميمه، فأنزل الله تعالى ذلك.

ص -252-      وفيها: من الفقه اعتماره ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في أشهر الحجّ وأنّ الإحرام بالعمرة من الميقات.
وأمّا حديث: "
مَن أحرم بعمرة من بيت المقدس غُفر له"، فلا يثبت.
ومنها: أنّ سوق الهدي سة في العمرة المفردة أفضل، وأنّ إشعار الهدي سنة لا مثلة.
ومنها: استحباب مغايظة أعداء الله.
ومنها: أنّ الأمير ينبغي له أن يبعث العيون أمامه نحو العدوّ.
ومنها: أنّ الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة للحاجة؛ لأنّ عيينة الخزاعي كافر.
ومنها: استحباب المشاورة.
وسبي الذّرّيّة المنفردين عن الرّجال قبل القتال.
ومنها: ردّ الكلام الباطل ولو نسب إلى غير مكلّفٍ في قولهم: خلأت القصواء.
ومنها: استحباب الحلف على الخبر الدّيني الذي يريد تأكيده، وحفظ عنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ الحلف في أكثر من ثمانين موضعاً، وأمره الله تعالى بالحلف على صدق ما أخبر به في ثلاثة مواضع في: (يونس)، و(سبأ)، و(التّغابن).
ومنها: أنّ المشركين وأهل الفجور إذا طلبوا أمراً يعظّمون به حرمات

ص -253-      الله أجيبوا إليه، وإن منعوا غيره، فمَن التمس المعاونة على محبوب لله تعالى أجيب ما لم يترتّب على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدقّ المواضع وأصعبها، ولذلك ضاق عنه من الصّحابة مَن ضاق، وأجاب الصّدّيق فيها بجواب النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وذلك يدلّ على أنّه أفضل الصّحابة، وأكملهم وأعرفهم بالله ورسوله ودينه، وأشدّهم موافقة له، ولذلك لم يسأل عمر إلاّ النَّبِيّ، والصّدّيق خاصّة.
وعند أحمد في القصّة أنّه كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يصلّي في الحرم وهو مضطرب في الحِل، وفيه كالدّلالة على أنّ المضاعفة متعلّقة بجميع الحرم لا تختصّ بالمسجد، وأنّ قوله للمغيرة: "صلاة في المسجد الحرام" كقوله تعالى:
{فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}، [التّوبة من الآية: 28]، وقوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، [الفاتحة: 1]، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، [الإسراء من الآية: 1].
ومنها: أنّ مَن نزل قريباً من مكّة، ينبغي له أن ينْزل في الحلّ، ويصلّي في الحرم، وكذلك كان ابن عمر يصنع.
ومنها: ابتداء الإمام بطلب الصّلح إذا رأى المصلحة للمسلمين فيه، وفي قيام المغيرة على رأسه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ولم تكن عادته ـ سنة عند قدوم رسل الكفّار من إظهار العزّ وتعظيم الإمام، وليس من النّوع المذموم كما أنّ الفخر والخيلاء في الحرب ليس من المذموم.
وفي بعث البُدن في وجه الرّسول الآخر دليل على استحباب إظهار شعائر الإسلام لرسل الكفّار، وفي قوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"أمّا الإسلام

ص -254-      فأقبل، وأمّا المال فلست منه في شيءٍ". دليل على أنّ مال المشرك المعاهد معصوم وأنّه لا يُمْلك، بل يُردّ عليه، فإنّ المغيرة صحبهم على الأمان، ثم غدر، فلم يتعرض رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لأموالهم، ولا ذبَّ عنها، ولا ضمنها لهم، لأنّ ذلك قبل إسلام المغيرة.
وفي قول الصِّدِّيق لعروة: "امصص بظر اللات" دليل على جواز التّصريح باسم العورة إذا كان فيه مصلحة، كما أمر أن يصرح لِمَن ادّعى بدعوى الجاهلية بهن أبيه، فلكلّ مقامٍ مقالٌ.
ومنها: احتمال قلّة أدب رسول الكفّار للمصلحة، لأنّه لم يقابل عروة على أخذه بلحيته.
ومنها: طهارة النّخامة، والماء المستعمل، واستحباب التّفاؤل لقوله:
"سهل أمركم"، لما جاء سهيل، وأنّ مصالحة المشرك بما فيه ضيم جائز للمصلحة.
ومنها: أنّ مَن حلف، أو نذر، أو وعد ولم يعين وقتاً لم يكن على الفور.
ومنها: أنّ الحلق نسك، وأنّه أفضل من التّقصير، وأنّه نسك في العمرة كالحجّ، وأنّه نسك في المحصر.
وأنّ المحصر ينحر هديه حيث أُحْصر من الحلّ أو الحرم، وأنّه لا يجب أن يواعد مَن ينحره في الحرم إذا لم يصل إلى محلّه لقوله:
{وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}، [الفتح من الآية: 25].

ص -255-      ومنها: أنّ الذي نحروا فيه من الحلّ للآية؛ لأنّ الحرم كلّه محلّ نحر الهدي.
ومنها: أنّ المحصر لا يجب عليه القصاء، وسميت التي بعدها عمرة القضية؛ لأنّها التي قاضاهم عليها.
ومنها: أنّ الأمر المطلق على الفور، وإلاّ لم يغضب لتأخّرهم عن الأمر.
وإنّما كان تأخيرهم من السّعي المغفور لا المشكور، وقد غفر الله لهم، وأوجب لهم الجنة.
ومنها: أنّ الأصل مشاركته في الأحكام إلاّ ما خصّ، لقول أم سلمة.
ومنها: جواز الصّلح على ردّ مَن جاء من المسلمين من الرّجال، إلاّ النّساء، فإنّه لا يجوز وهو موضع النّسخ خاصّة بنصّ القرآن، فلا سبيل إلى دعوى النّسخ في غيره.
ومنها: أنّ خروج البضع عن ملك الزّوج متقوم، وأنّه بالمسمّى لا بمهر المثل.
ومنها: أنّ الشّرط لا يتناول مَن خرج إلى غير بلاد الإمام، وإذا جاء إلى بلد الإمام لا يجب ردّه بدون الطّلب.
ومنها: أنّه إذا قَتَل الذين تسلّموه لم يضمنه ولا الإمام.
ومنها: أنّه إذا كان بين بعض ملوك المسلمين وبين النّصارى عهدٌ، جاز لملكٍ آخر أن يغزوَهم، كما أفتى به شيخ الإسلام ابن تيمية مستدلاً بقصّة أبي بصير.

ص -256-      والذي في هذه القصّة من الحِكَم أكبر وأجلّ من أن يحيط به إلاّ الله.
فمنها: أنّها مقدمة بين يدي الفتح الأعظم، وهذه عادته سبحانه في الأمور العظام شرعاً وقدراً أن يوطئ بين يديها بمقدّمات.
ومنها: أنّها من أعظ الفتوح، فإنّ النّاس اختلطوا وتناظروا ودخل في الإسلام في هذه المدّة ما شاء الله وتلك الشّروط من أكبر الجند التي أقامها المشترطون لحزبهم، فذلّوا من حيث طلبوا العزّ، وعزّ المسلمون من حيث انكسروا لله، فانقلب العزّ بالباطل ذلاًّ بحقٍّ.
ومنها: ما سبّبه الله سبحانه للمؤمنين من زيادة الإيمان، والإذعان على ما كرهوا، وما حصل لهم من الرّضا بالقضاء وانتظار وعد الله، وشهود منّته بالسّكينة في تلك الحال التي تزعزع الجبال.
ومنها: أنّه سبحانه جعله سبباً للمغفرة لرسوله، ولإتمام نعمته عليه، وهدايته ونصره، وانشراح صدره به مع ما فيه من الضّيم، ولهذا ذكره سبحانه جزاءً وغايةً، وإنّما يكون ذلك على فعلٍ قام بالرّسول والمؤمنين.
وتأمّل وصفه قلوب المؤمنين في هذا الموطن الذي اضطربت فيه، فازدادوا بالسّكينة إيماناً، ثم أكّد بيعتهم لرسوله أنّها بيعة له، وأنّ مَن نكثها، فعلى نفسه، وكلّ مؤمنٍ فقد بايع الله على لسان رسوله على الإيمان وحقوقه، ثم ذكر ظن ّ الأعراب، وأنّه من جهلهم به سبحانه، ثم أخبر برضاه على المؤمنين بالبيعة، وأنّه حينئذٍ علم ما في قلوبهم من صدق الطّاعة، فأنزل الله السّكينة عليهم وأثابهم بالفتح والمغانم الكثيرة، أوّل ذلك خيبر،

ص -257-      ثم استمرّت إلى الأبد، وكفّ الأيدي عنهم، قيل: أهل مكّة، وقيل: اليهود حين همُّوا بقتال مَن بالمدينة بعد خروج الصّحابة، وقيل: أهل خيبر وحلفاؤهم من أسدٍ وغطفان، والصّحيح تناولها للجميع، وقال: {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}، [الفتح من الآية: 20]، قيل: كفّ الأيدي، وقيل: فتح خيبر.
ثم جمع لهم مع ذلك كلّه الهداية.
ثم وعدهم مغانم كثيرةً وفتوحاً أُخرى لم يقدروا ذلك الوقت عليها، قيل: مكّة، وقيل: فارس والرّوم، وقيل: ما بعد خيبر من المشرق والمغرب.
ثم ذكر أنّهم لو قاتلهم الذين كفروا لولّوا الأدبار، وأنّها سنته.
فإن قيل: فيوم أُحدٍ، قيل: هو وعد معلّق بشرطٍ، وهو الصّبر والتّقوى، ففات يوم أُحدٍ بالفشل المنافي للصّبر، والمعصية المنافية للتّقوى.
ثم ذكر كفّ الأيدي لأجل الرّجال والنّساء المذكورين، فدفع العذاب عنهم بهؤلاء، كما دفعه برسوله لما كان بين أظهرهم.
ثم أخبر عما في قلوبهم من الحميّة التي مصدرها الجهل والظّلم، وأخبر بإنزاله في قلوب أوليائه من السّكينة ما يقابل الحميّة، وإلزامهم كلمة التّقوى، وهي جنس تعم كلّ كلمةٍ يتقى بها الله وأعلاه كلمة الإخلاص.
ثم أخبر أنّه:
{أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، [التّوبة من الآية: 33]. فقد تكفّل لهذا الأمر بالتّمام والإظهار، فلا تظنّوا ما وقع لغير ذلك.
ثم ذكر رسوله وحزبه ومدحهم بأحسن المدح، والرّافضة تصفهم بضدّه.

ص -258-      فصل: في غزوة خيبر
قال موسى بن عقبة: لما قدم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من الحديبية، مكث عشرين ليلة أو قريباً منها، ثم خرج إلى خيبر، واستخلف على أهل المدينة سباع بن عرفطة، وقدم أبو هريرة حينئذٍ فوافى سباع بن عرفطة في صلاة الصّبح، فسمعه يقرأ في الأولى: {كهيعص} [مريم: 1]، وفي الثّانية: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1]، فقال في صلاته: ويل لأبي فلان، له مكيلان إذا كال كال بالنّاقص، وإذا اكتال اكتال بالوافي.
ثم زوده سباع، فقدم على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فكلّم المسلمين فأشركوه وأصحابه في سهمانهم، ولما قدمها رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ صلّى الصّبح.
ثم ركب فخرج أهل خيبر بمساحيهم ومكاتلهم، لأرضهم ولا يشعرون فقال النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قومٍ، فساء صباح المنذرين".
ثم ذكر حديث إعطائه عليّاً الرّاية، ومبارزته مرحباً، وذكر قصّة عامر بن الأكوع، ثم حاصرهم فجهد المسلمون، فذبحوا الحمر فنهاهم.
ثم صالحهم على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم، وله الصّفراء والبيضاء، واشترط أنّ مَن كتم أو غيَّب، فلا ذمّة له، فغيّبوا مسكاً لحيي،

ص -259-      ثم ذكر الحديث، فلمّا أراد إجلاءهم، قالوا: دعنا فيها، فأعطاهم إيّاها على الشّطر مما يخرج منها ما بدا له أن يقرّهم، ولم يقتل بعد الصّلح إلاّ ابن أبي الحقيق للنّكث.
وسبى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ صفية، وكانت تحت ابن أبي الحقيق، وعرض عليها الإسلام، فأسلمت، فأعتقها، وجعل عتقها صَداقها.
وقسم خيبر على ستة وثلاثين سهماً، كلّ سهمٍ مائة سهم، فكان له وللمسلمين النّصف، والنّصف الآخر لنوائبه، وما ينْزل به من أمور المسلمين، قال البيهقي: لأنّ شطرها فتح صلحاً، وهذا بناء منه على أصل الشّافعي أنّه يجب قسم الأرض المفتتحة عنوة.
ومَن تأمّل تبيّن أنّها كلّها عنوة، وهذا هو الصّواب الذي لا شكّ فيه.
والإمام مخيَّر في الأرض بين قسمها ووقفها، وقسم بعضها ووقف بعض، وقد فعل النِّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ الأنواع الثّلاثة، فقسم قريظة والنّضير، ولم يقسم مكّة، وقسم شطر خيبر، وترك شطرها، ولم يغب من أهل الحديبية إلاّ جابر فقسم له، وقدم عليه جعفر وأصحابه، ومعهم الأشعريون، وسمته امرأة من اليهود في شاةٍ أهدتها له، فلم يعاقبها، وقيل: قتلها بعد ما مات بشر بن البراء، وكان بين قريشٍ تراهنٌ، منهم مَن يقول: يظهر، ومنهم مَن يقول: يظهر الحليفان ويهود خيبر، وكان الحجاج ابن علاط قد أسلم، وشهدها، ثم ذكر قصّته.

ص -260-      وفيها من الفقه: القتال في الأشهر الحرم؛ لأنّه خرج إليها في المحرّم.
ومنها: قسم المغانم للفارس ثلاثة، وللرّاجل سهم.
ومنها: أنّه يجوز لآحاد الجيش إذا وجد طعاماً أن يأكله، ولا يخمِّسه لأخذ ابن المغفل جراب الشّحم.
ومنها: أنّ المدد إذا لحق به بعد الحرب، لا يُسهم له إلاّ بإذن الجيش، لأنّه كلّم أصحابه لأهلِ السّفينة.
ومنها: تحريم لحوم الحمر، وعلّل بأنّها رجس، وهذا مقدّم على مَن علّل بغير ذلك، كقول مَن قال: إنّها لم تخمّس، أو إنّها تأكل العذرة.
وجواز عقد المهادنة عقداً جائزاً، للإمام فسخه متى شاء، وتعليق الأمان بالشّرط، وتقرير أرباب التّهم بالعقوبة.
ومنها: الأخذ بالقرائن لقوله:
"المال كثير، والعهد قريب"، وأنّ مَن كان القول قوله، إذا قامت قرينة على كذبه، لم يلتف إلى قوله.
ومنها: أنّ أهل الذّمة إذا خالفوا شيئاً مِمّا شُرِط عليهم، لم يبق لهم ذمّة، وأنّ مَن أخذ قبل القسم لم يملكه، وإن كان دون حقّه، لقوله:
"شراك من نار".
ومنها: جواز التّفاؤل، بل استحبابه كما تفاءل بالمساحي في خرابها، وأنّ النّقض يسري في حقّ النّساء والذّريّة إذا كانوا طائفة لهم شوكة، أمّا إذا كان واحداً من طائفةٍ لم يوافقوه فلا يسري إلى زوجته أولاده، كما أنّ مَن أهدر دماءهم مِمَن يسبه لم يسب نساءهم وذرّيتهم، فهذا هديه في هذا وهذا.

ص -261-      ومنها: جعل عتق الأمة صداقها بغير إذنها، ولا شهود، ولا وليّ، ولا لفظ تزويج، وكذب الإنسان على نفسه وعلى غيره إذا لم يتضمن ضرر الغير إذا توصل به إلى حقّه كما فعل الحجاج.
ومنها: قبول هدية الكافر.
ثم انصرف إلى وادي القُرى وبه يهود، فلمّا نزل نزلوا استقبلتهم يهود بالرّمي، فقُتِل مُدعِم، فقالوا: هنيئاً له الجنة، فقال: "كلا، والذي نفسي بيده إنّ الشّملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً".
ثم عبّأ أصحابه ودعا أهل الوادي إلى الإسلام، فبرز رجل منهم، فبرز إليه الزّبير، فقتله، ثم برز آخر، فبرز إليه عليّ، فقتله، حتى قُتل منهم أحد عشر مبارزة، كلّما قُتِل منهم رجلٌ دعا مَن بقي إلى الإسلام، فقاتلهم حتى أمسوا ثم غدا عليهم، فلم ترتفع الشّمس قدر رمح حتى فتحت عنوة، وعامل اليهود على الأرض والنّخل، فلما بلغ أهل تيماء خيبر وفدك ووادي القرى صالحوه، وأقاموا في أموالهم، ووادي القرى إلى المدينة حجاز، ومن وراءه من الشّام، ثم انصرف إلى المدينة، فلما كان ببعض الطّريق عرَّس، وقال لبلال:
"إكلأ لنا الفجر"، وذكر الحديث. وروي أنّها في مرجعه من الحديبية. وقيل: مرجعه من تبوك.
ففيه: أنّ مَن نام عن صلاةٍ أو نسيها، فوقتها حين يستيقظ أو يذكرها، وأنّ الرّواتب تقضى، وأنّ الفائتة يؤّذَّن لها، ويُقام، وقضاء الفائتة جماعة، وأنّ القضاء على الفور، لقوله: "فليصلّها إذا ذكرها"، وتأخيرها عن المعرّس، لأنّه مكان الشّيطان، ولأنّه لا يفوت المبادرة، فإنّهم في شأنها.

ص -262-      وفيه: تنبيه على اجتناب الصّلاة في أمكنة الشّيطان، كالحمام بطريق الأولى.
ولما رجعوا ردّ المهاجرون إلى الأنصار منائحهم، وأقام بالمدينة إلى شوّال، يبعث السّرايا، منها: سرية ابن حذافة الذي أمر أصحابه بدخول النّار، فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"لو دخلوها ما خرجوا منها، إنّما الطّاعة في المعروف".
فإن قيل: كيف ذلك وهم متأوِّلون طاعة الله ورسوله؟
قيل: لما همّوا بالمبادرة من غير اجتهاد مع علمهم أنّ الله نهاهم عن قتل أنفسهم، لم يعذروا. وإذا كان هذا فيمَن عذّب نفسه طاعةً لأولي الأمر المأمور بطاعتهم، فكيف بِمَن عذّب مسلماً لا يجوز تعذيبه طاعةً لأولي الأمر؟
وإذا كانوا لو دخلوها ما خرجوا منها مع قصدهم طاعة الله فكيف بِمَن حمله على ما لا يجوز من الطّاعة الرّغبة والرّهبة الدّنيوية؟
وكيف بِمَن دخلها من إخوان الشّيطان، وأوهموا الجهّال أنّه من ميراث إبراهيم الخليل ـ عليه السّلام ـ؟!.

ص -263-      فصل: في غزوة الفتح الأعظم
الذي أعزّ الله به دينه ورسوله وحرمه الأمين ودخل النّاس به في دين الله أفواجاً.
خرج له ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ سنة ثمان لعشر مضين من رمضان.
ثم ذكر القصّة:
وفيها: من الفقه أنّ أهل العهد إذا حاربوا من في ذمّة الإمام صاروا حرباً له، فله أن يبيتهم، ولا يعلمهم على السّواء، وإنّما ذلك إذا خاف منهم الخيانة، فإذا تحقّقها فلا.
وفيها: انتقاض عهد الجميع بذلك إذا رضوا به، كما أنّهم يدخلون في العهد تبعاً.
وفيها: جواز الصّلح عشر سنين، والصّواب أنّه يجوز فوق ذلك للحاجة والمصلحة، وأنّ الإمام إذا سُئل فسكت لم يكن بذلاً، لأنّ أبا سفيان، سأله تجديد العهد، فسكت.
وفيها: أنّ الرّسول لا يقتل؛ لأنّ أبا سفيان مِمَن نقض، وقتل الجاسوس المسلم، وتجريد المرأة كلّها للحاجة، وأنّ الرّجل إذا نسب المسلم لكفرٍ أو نفاقٍ متأوِّلاً غضباً لله لا لهواه، لم يأثم، وأنّ الكبيرة العظيمة قد تفكر

ص -264-      بالحسنة الكبيرة، كما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، [هود من الآية: 114]، وبالعكس لقوله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى}، [البقرة من الآية: 264]، وقوله: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}، [الحجرات من الآية: 2].
ثم قرّر قصّة حاطب، وقصّة ذي الخويصرة وأمثاله، ثم قال: ومَن له لبّ يعلم قدر هذه المسألة، وشدّة الحاجة إليها، ويطلع منها على بابٍ عظيمٍ من معرفة الله وحكمته.
وفيها: دخول مكّة للقتال المباح بغير إحرام، ولا خلاف أنّه لا يدخل مَن أراد النّسك إلاّ بإحرامٍ وأمّا ما عداهما فلا واجب ألاّ ما أوجبه الله ورسوله.
وفيها: التّصريح بأنّ مكّة فتحت عنوة، وقتل سابه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
وقوله:
"إنّ الله حرّم مكّة، ولم يحرّمها النّاس"، مع قوله: "إنّ إبراهيم حرّم مكّة"، هذا التّحريم قدريّ شرعيّ سبق تقديره يوم خلق الله العالم، ثم ظهر أمره على لسان إبراهيم.
قوله:
"لا يُسفك بها دمٌّ" هو الدّمّ الذي يباح في غيرها، كتحريم عضد الشّجر.
وفي لفظ:
"لا يعضد شوكها" وهذا ظاهر جدّاً في تحريم قطع الشّوك والعوسج، ولكن جوزوا قطع اليابس؛ لأنّه بمنْزلة الميتة وفي لفظٍ: "لا يخبط شوكها" صريح في تحريم قطع الورق.
وقوله:
"لا يختلى خلاها"، لا خلاف أنّ المراد ما نبت بنفسه، والخلا: الحشيش الرّطب. واستثناء الأذخر دليل على العمومم، ولا تدخل الكمأة وما غيب في الأرض؛ لأنّه كالثّمر.

ص -265-      وقوله: "ولا ينفر صيدُها"، صريح في تحريم السّبب إلى قتل الصّيد، واصطياده بكلّ سببٍ حتى إنّه لا ينفره عن مكانه؛ لأنّه حيوان محترم في هذا المكان قد سبق إلى مكانه، فهو أحقّ به، ففي هذا أنّ الحيوان المحترم إذا سبق إلى مكانه لم يزعج عنه.
وقوله:
"لا تلتقط ساقطتها، إلاّ لمنشدٍ"، فيه: أنّ لقطة الحرم لا تُملك، ولا تلتقط إلاّ للتّعريف، وهذا إحدى الرّوايتين عن أحمد، فليعرّفها أبداً حتى يأتي صاحبها، وهذا هو الصّحيح، والحديث صريح فيه.
والمنشد: المعرِّف، والنّاشد: الطّالب.
ومنه قوله:
"إصاخة النّاشد للمنشد"، وكونه لم يدخل البيت حتى محيت الصّور، ففيه: كراهة الصّلاة في المكان المصوّر فيه، وهو أحقّ بها من الحمّام، لأنّه بيت الشّيطان، وأمّا الصّور فمظنة الشّرك، وغالب شرك الأمم من جهة الصّور والقبور.
وفي القصّة جواز أمان المرأة للرّجل والرّجلين كأم هانيء، وقتل مَن تغلظت ردته من غير استتابةٍ لقصّة ابن أبي سرح.

ص -266-      فصل: في غزوة حنين
قال ابن إسحاق: لما سمعت هوازن بالفتح، جمع مالك بن عوف هوازن، واجتمعت إليه ثقيف وجشم، وفيهم دريد بن الصّمة ليس فيه إلاّ رأيه، ثم ذكر القصّة.
ثم قال: وعد الله رسوله أنّه إذا فتح مكّة، دخل النّاس في دين الله أفواجاً، فاقتضت الحكمة أن أمسك الله قلوب هوازن ومَن معهم وأتباعهم ليظهر أمر الله من تمام النّصر ولتكون غناؤمهم شكراناً لأهل الفتح، وليظهر قهره لؤلاء الذين لم يلق المسلمون مثلهم، فلا يقاومهم بعد أحد من العرب.
وأذاقهم أوّلاً مرارة الهزيمة مع قوّتهم ليطامن رؤوساً رفعت بالفتح، ولم تدخل حرمه كما دخله رسوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ منحنياً على فرسه حتى إنّ ذقنه يكاد أن يمس سرجه، وليبيّن لِمَن قال: لن نغلب اليوم من قلّةٍ، أنّ النّصر من عنده، فلما انكسرت قلوبهم، أرسل إليها خلع الجبر مع بريد:
{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، [التّوبة من الآية: 26].
وقد اقتضت حكمته أنّ خلع النّصر إنّما تفيض على أهل الانكسار
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ

ص -267-      وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}، [القصص الآيتان: 5-6].
وافتتح غزو العرب ببدرٍ، وختمه بها، وقاتلت الملائكة فيهما، ورمى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بالحصباء فيهما، وبهما طفئت جمرة العرب، فبدر خوفتهم، وكسرت حدّتهم، وهذه استفرغت قواهم.
وفيها: استعارة سلاح المشرك، وأنّ من تمام التّوكّل استعمال الأسباب، وأنّ ضمان الله له العصمة، لا ينافي تعاطي الأسباب، كما أخبر أنّه يظهر دينهَ لا يناقض أنواع الجهاد.
وشرطه ضمان العارية هل هو إخبار عن شرعه أو ضمانه بنفسه؟ اختلف فيه.
وفيها: عقر مركوب العدو إذا أعان على قتله، وليس من تعذيب الحيوان المنهي عنه. وفعوه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عَمَن همَّ بقتله، ومسحه صدره ودعاؤه له، وجواز الانتظار بالقسمة إسلام الكفّار، ليردّ عليهم ما أُخذ منهم، ففيه دليل أنّ الغنيمة إنّما تُمْلَك بالقسمة، فلو مات أحد قبلها أو إحرازها بدار الإسلام، ردّ نصيبه على الغانمين، وهذا مذهب أبي حنيفة، ونصّ أحمد أنّ النّفل يكون من أربعة الأخماس، وهذا الإعطاء منه، فهو أولى من تنفيل الثّلث بعد الخمس والرّبع بعده.
ولما عميت أبصار ذي الخويصرة وأضرابه عن الحكمة قال قائلهم: إعدل.
والإمام نائب عن المسملين يتصرف في مصالحهم وقيام الدّين، فإن تعين ذلك لاستجلاب أعداء الإسلام إليه، ليأمن شرّهم ساغ ذلك بل

ص -268-      تعين، ومبنى الشّريعة باحتمال أدنى المفسدتين لدفع أعلاها، وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، بل بناء مصالح الدّنيا والدّين على هذين.
وفيها: بيع الرّقيق، بل الحيوان ببعض نيسيئة ومتفاضلاً، وأنّ المتعاقدين إذا جعلا أجلاً غير محدود جاز وهذا هو الرّاجح إذ لا محذور ولا غرر.
وقوله: "
مَن قَتَل قتيلاً له عليه بيّنة فله سلبه"، اختلفوا هل هو بالشّرع أو الشّرط؟
ومأخذ النّزاع هل قاله بمنصب الرّسالة كقوله:
"مَن زرع بأرض قومٍ بغير إذنهم، فليس له من الزّرع شيء، وله نفقته"، أو بمنصب الفتيا كقوله: "خذي ما يكفيكِ وولدكِ بالمعروف"، أو بمنصب الإمامة فيكون مصلحة في ذلك الوقت، فيلزم من بعده مراعاة ذلك بحسب المصلحة؟
ومن هنا اختلفوا في كثيرٍ من المواضع كقوله:
"مَن أحيا أرضاً ميتةً فهي له".
وفيها: الاكتفاء في هذه بشاهدٍ من غير يمينٍ، وأنّه لا يشترط التّلفّظ بأشهد.
وفيها: أنّ السّلب لا يخمّس، وأنّه من أصل الغنيمة، وأنّه يستحقّه مَن لا يُسهم له من امرأة وصبي، وأنّه يستحقّ سلب جميع مَن قتل وإن كثروا.

ص -269-      فصل: في غزوة الطّائف
لما انهزمت ثقيف دخلوا حصنهم، وتهيّؤوا للقتال وسار رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فنَزل قريباً من حصنهم، فرموا المسلمين بالنّبل رميّا شديداً كأنّه رجلُ جراد، حتى أُصيب من المسلمين اثنا عشر رجلاً، فارتفع ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلى موضع مسجد الطّائف اليوم، فحاصرهم ثمانية عشر يوماً أو بضعاً وعشرين يوماً، ونصب عليهم المنجنيق وهو أوّل من رمي به في الإسلام، وأمر بقطع الأعناب، فوقع النّاس فيها يقطعون.
قال ابن سعد: فسألوه أن يدعها لله وللرّحم، فقال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"فإنّي أدعها لله وللرّحم"، فنادى مناديه: "أيّما عبدٍ نزل إلينا فهو حرٌّ"، فخرج منهم بضعة عشر رجلاً فيهم: أبو بكرة، فدفع كلّ رجلٍ منهم إلى رجلٍ من المسلمين يمونه، فشّق ذلك على أهل الطّائف، ولم يؤذن له في فتحها، فأمر ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بالرّحيل، فضجّ النّاس من ذلك، وقالوا: نرحل، ولم تفتح الطّائف؟ فقال: "اغدوا على القتال"، فغدوا، فأصابهم جراحات، فقال: "إنّا قافلون إن شاء الله"، فسرّوا بذلك، وجعلوا يرحلون، ورسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يضحك، فلمّا استقلوا قال:

ص -270-      قولوا: "آيبون تائبون عابدون لربّنا حامدون". قيل: يا رسول الله، ادع الله على ثقيفٍ. فقال: "اللهم اهد ثقيفاً وائت بهم".
ثم خرج إلى الجعرانة، ودخل منها محرماً بعمرة، ثم رجع إلى المدينة.
ولما قدم المدينة من تبوك في رمضان، وفد عليه في ذلك الشّهر وفد ثقيف، فكان من حديثهم أنّه لما انصرف عنهم اتّبعه عروة بن مسعود، فأدركه قبل أن يدخل المدينة، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"إنّ فيهم نخوة الامتناع الذي كان منهم". فقال: أنا أحبّ إليهم من أبصارهم. وكان فيهم كذلك محبباً مطاعاً، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه لمنْزلته فيهم، فلما أشرف عليهم ودعاهم، رموه بالنّبل من كلّ وجهٍ، فقتل، فقيل له: ما ترى في دمك؟ فقال: شهادة أكرمني الله بها، فليس فيَّ إلاّ ما في الشّهداء الذين قُتِلوا مع رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم. فدفن معهم، فزعموا أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال فيه: "إنّ مثله في قومه كمثل صاحب يس في قومه"، ثم أقامت ثقيف بعد قتله أشهراً، ثم رأوا أنّهم لا طاقة لهم بحرب مَن حولهم من العرب، فأجمعوا على أن يرسلوا إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ رجلاً كما أرسلوا عروة، فكلموا عبد يا ليل، فأبى وخشي أن يصنع به كما صنعوا بعروة، فبعثوا معه رجلين من الأحلاف، وثلاثة من بني مالك منهم عثمان بن أبي العاص، فلمّا دنوا من المدينة، ونزلوا قناة لقوا بها المغيرة بن شعبة، فاشتدّ ليبشّر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فلقيه أبو بكرٍ فقال: أقسم عليك لا تسبقني. ففعل، فدخل أبو بكرٍ على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فأخبره ثم

ص -271-      خرج المغيرة إليهم، فروّح الظّهر معهم، فضرب عليهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قبة في ناحية المسجد، وكان خالد بن سعيد الذي يمشي بينهم وبين رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
وكان فيما سألوا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أن يدع لهم اللات لا يهدمها ثلاث سنين ليسلموا بتركها من سفهائهم فأبى، فما برحلوا يسألونه فأبى حتى سألوه شهراً فأبى أن يدعها شيئاً مسمّى.
وكان فيما سألوا أن يعفيهم من الصّلاة، وأن لا يسكروا أوثانهم بأيديهم، فقال: "أما كسر أوثانكم بأيديكم، فسنعفيكم عنه، وأمّا الصّلاة فلا خير في دينٍ لا صلاة فيه". فلمّا أسلموا أمّر عليهم عثمان بن أبي العاص، وكان من أحدثهم سناً إلاّ أنّه كان أحرصهم على التّفقّه في الدّين.
فلما توجهوا إلى بدلادهم بعث رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ معهم أبا سفيان والمغيرة لهدم الطّاغية، فلمّا دخل المغيرة علاها بالمعول، وقام دونه بنو مغيث خشية أن يرمى كعروة، وخرجت نساء ثقيف حُسّراً يبكين فعليها، ولما هدمها أخذ مالها وكان ابن عروة وقارب بن الأسود قدما على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قبل الوفد حين قتل عروة يريدان فراق ثقيف فأسلما. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"تولّيا مَن شئتما". قالا: لا نتولّى إلاّ الله ورسوله، قال: "وخالكما أبا سفيان بن حرب"، فقالا: وخالنا أبا سفيان، فلمّا أسلم أهل الطّائف، سأل ابن عروة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أن يقضي دَين أبيه من مال الطّاغية، فقال: نعم. فقال:

ص -272-      قارب: وعن الأسود يا رسول الله فاقضه، وعروة والأسود أخوان لأبٍ وأمٍ، فقال رسول الله: "إنّ الأسود مات مشركاً"، فقال قارب بن الأسود: يا رسول الله، لكن تصل مسلماً ذا قرابةٍ، يعني: نفسه، وإنّما الدّين عليَّ. فقضى دين عروة والأسود من مالها.
وفيه من الفقه: جواز القتال في الأشهر الحرم، فإنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ خرج إلى مكّة في آخر رمضان، وأقام بمكّة تسع عشر ليلة.
ثم خرج إلى هوازن، وقاتلهم وفرغ منه، ثم خرج إلى الطّائف، فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة أو ثمان عشر في قول ابن سعد، فإذا تأمّلتَ ذلك عرفتَ أنّ بعض الحصار في ذي القعدة ولا بدّ، لكن لم يبتدئ القتال إلاّ في شوّال، وفرْقٌ بين الابتداء والاستدامة.
ومنها: جواز غزو الرّجل وأهله معه، لأنّ معه في هذه الغزوة أم سلمة وزينب.
ومنها: جواز نصب المنجنيق على الكفّار، وإن أفضى إلى قتل النّساء والذّرّيّة.
ومنها: قطع شجرهم إذا كان يضعفهم ويغيظهم.
ومنها: أنّ العبد إذا أبَق وألحق بالمسلمين، صار حرّاً، حكاه ابن المنذر إجماعاً.
ومنها: أنّ الإمام إذا حاصر حصناً، ورأى المصلحة في الرّحيل فعل.
ومنها: أنّه أحرم من الجعرّانة بالعمرة، وهي السُّنة لِمَن دخلها من طريق

ص -273-      الطّائف، وأمّا الخروج من مكّة إلى الجعرانة ليحرم منها بعمرة، فلم يستحبّه أحد من أهل العلم.
ومنها: كمال رأفته ورحمته ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في دعائه لثقيف بالهدى، وقد حاربوه، وقتلوا جماعةً من أصحابه، وقتلوا رسوله إليهم.
ومنها: كمال محبّة الصِّدِّيق له، ومحبّة التّقرّب إليه بكلّ ممكنٍ، وهذا يدلّ على جواز سؤال الرّجل أخاه أن يؤثره بقربةٍ من القرب، وأنّه يجوز له ذلك، وقول مَن قال: لا يجوز، لا يصحّ، وقد آثرت عائشة عمر بدفنه في بيتها، وسألها ذلك، فلم تكره له السّؤال، ولا لها البذل.
ومنها: أنّه لا يجوز إبقاء مواضع الشّرك بعد القدرة على إبطالها يوماً واحداً فإنّها شعائر الكفر، وهي أعظم المنكرات، وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتّخذت أوثاناً تُعْبَد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم، والتّبرّك والنّذر والتّقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجهٍ الأرض مع القدرة، وكثير منها بمنْزلة اللات والعُزّى، ومنات الثّالثة الأخرى، أو أعظم شركاً عندها وبها وبالله المستعان، ولم يكن أحد من أرباب هذه الطّواغيت يعتقد أنّها تخلق وترزق أو تحيي أو تميت، وإنّما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين عند طواغيتهم اليوم، فاتّبع هؤلاء سنن مَن كان قبلهم حذوَ القذّة بالقذّة، وأخذوا مأخذهم شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراعٍ، وغلب الشّرك على أكثر النّفوس لظهور الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسّنة بدعةً والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصّغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام

ص -274-      واشتدّت غربة الإسلام، وقلّ العلماء، وغلب السّفهاء، وتفاقم الأمر، واشتدّ البأس، وظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي النّاس.
ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمّدية بالحقّ قائمين، ولأهل الشّرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها وهو خير الوارثين.
ومنها: جواز صرف الإمام أموال المشاهد في الجهاد والمصالح، وأن يعطيها للمقاتلة، ويستعين بأثمانها على مصالح المسلمين، وكذا الحكم في وقفها، وهذا مِمّا لا يخالف فيه أحدٌ من أئمة الإسلام.

ص -275-      فصل
ولما قدم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ المدينة، ودخلت سنة تسعٍ، بعث المصدقين يأخذون الصّدقات من الأعراب، فبعث عيينة إلى بين تميمٍ، وبعث عدي بن حاتم إلى طيء وبني أسد، وبعث مالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة، وفرّق صدقات بني سعدٍ على رجلين، فبعث الزّبرقان إلى ناحيةٍ، وقيس بن عاصم إلى ناحيةٍ، وبعث العلاء إلى البحرين، وبعث عليّاً إلى نجران.
وفيها: كانت غزوة تبوك، وكانت في رجب، في زمن عسرةٍ من النّاس، وجدبٍ من البلاد، حين طابت الثّمار.
وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قلّما يخرج في غزوةٍ إلاّ كنَّى عنها إلاّ ما كان منها لبعد السّفر وشدّة الزّمان، فقال: ذات يومٍ للجد بن قيس:
"هل لك في جلاد بني الأصفر؟"، فقال: ائذن ولا تفتني، فما من رجلٍ أشدّ عجباً بالنّساء مني، وإنّي أخشى إن رأيت نساءهم أن لا أصبر، فأعرض عنه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فقال: "قد أذنت لك". ففيه نزلت الآية: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} الآية [سورة براءة، من الآية 49].
وقال قومٌ من المنافقين، بعضهم لبعضٍ: لا تنفروا في الحرّ، فأَنْزل الله فيهم:
{وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [سورة براءة، من الآية 81].
فأمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بالجهاد، وحَضَّ أهل الغنى على

 

ص -276-      النّفقة. فأنفق عثمان ثلاثمائة بعير بعدّتها، وألّف دينار. وجاء البكّاؤون ـ وهم سبعة ـ يستحملون رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فقال: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [سورة براءة، من الآية 92].
وأرسل أبا موسى أصحابه إليه ليحملهم فوافاه غضبان، فقال: "والله لا أحملكم ولا أجد ما أحملكم"، ثم أتاه إبل، فأرسل إليهم، فقال:
"ما أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، وإنّي والله لا أحلف على يمينٍ، فأرى غيرها خيراً منها إلاّ كفّرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير".
وقام رجلٌ، فصلى من اللّيل وبكى. ثم قال: "اللهم إنّك أمرت بالجهاد، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإنّي أتصدّق على كلّ مسلمٍ بكلّ مظلمةٍ أصابنِي فيها: من مالٍ، أو جسدٍ، أو عرضٍ، ثم أصبح.
فقال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ
"أين المتصدّق هذه اللّيلة؟" فلم يقم أحد، ثم ردّها. فقام إليه الرّجل فأخبره، فقال: "أبشر، والذي نفس محمّد بيده، لقد كتبتْ في الزّكاة المتقبلة".
وجاء الْمُعَذِّرون من الأعراب ليؤذن لهم، فلم يعذرهم.
وكان ابن أُبي قد عسكر على ثنيّة الوداع في حلفائه من اليهود، والمنافقين، فيقال: ليس عسكره بأقلّ العسكرين. واستخلف ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ على المدينة محمّد بن مسلمة فلمّا سار تخلف ابن أُبي.
واستخلف عليّ بن أبي طالب على أهله، فقال: تخلّفني مع النّساء والصّبيان؟، فقال:
"أمّا ترضى أن تكون مني بمنْزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبي بعدي".
وتخلف نفر من غير شكٍّ منهم: كعب بن مالك، وهلال بن أُمية،

ص -277-      ومرارة بن الرّبيع، وأبو خيثمة، وأبو ذرٍّ. ثم لحقه أبو خيثمة، وأبو ذرٍّ. ووافاها رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في ثلاثين ألفاً والخيل عشرة آلاف. وأقام بها عشرين ليلة يقصر الصّلاة. وهرقل يومئذٍ بحمص.
ورجع أبو خيثمة إلى أهله بعدما سار رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أياماً، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه، قد رَشّت كلّ واحدةٍ منهما عريشها، وبرَّدت له فيه ماءً، وهيّأت له فيه طعاماً. فلمّا دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما أعدّتا. فقال: رسول الله في الضَّحِّ والرّيح والحرّ، وأبو خيثمة في ظلٍّ باردٍ، وطعامٍ مهيّءٍ، وامرأةٍ حسناء؟ ما هذا بالنّصَف. والله لا أدخل عريش واحدةٍ منكما حتى ألحق برسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فقَدَّم ناضحه فارتحله، ثم خرج حتى أدركه حين نزل تبوك.
وقد كان عمير بن وهب أدركه في الطّريق، فترافقا حتى إذا دنوا قال له أبو خيثمة: إنّ لي ذنباً. فلا عليك أن تتخلف عني حتى آتي رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ففعل. حتى إذا دنا قال النّاس: هذا راكب على الطّريق، فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"كن أبا خيثمة". قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو خيثمة. فلمّا أناخ أقبل فسلّم على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وأخبره خبره، فقال له خيراً. ودعا له.
وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، حين مَرَّ بديار ثمود قال: "لا تشربوا من مائها، ولا تتوضأوا منه للصّلاة، وما كان من عجينٍ فأعلفوه الإبل، ولا يخرجن أحد منكم إلاّ ومعه صاحب له"، ففعلوا إلاّ أنّ رجلين خرج أحدهما لحاجته، والآخر في طلب بعيره، فخنق الذي خرج

ص -278-      لحاجته على مذهبه، واحتملت الرّيح طالب البعير حتى ألقته في جبلى طيء، فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "ألم أنهكم؟"، ثم دعا للذي خُنِقَ فشفي، وأهدت الآخر طيء لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ حين قدم المدينة.
قال الزّهري: لما مرّ بالحجر، سجى ثوبه على وجهه، واستحث راحلته، ثم قال:
"لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلاّ وأنتم باكون خوفاً أن يصيبكم ما أصابهم"، وفي (الصّحيح): أنّه أمر بإهراق الماء، وأن يستقوا من البئر التي كانت تردها النّاقة.
قال ابن إسحاق: وأصبح النّاس لا ماء معهم. فدعا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فأرسل الله إليه سحابة. فأمطرت حتى ارتووا، ثم مضى فجعل يتخلّف الرّجل، فيقولون: تخلف فلان، فيقول:
"دعوه، فإن يكُ فيه خيراً فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه".
وتَلوّم على أبي ذرٍّ بعيره. فأخذ متاعه على ظهره، فلما نزل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في بعض منازله قال رجلٌ: يا رسول الله: هذا رجل يمشي على الطّريق وحده، فلما تأمّلوه قالوا: يا رسول الله أبو ذرٍّ. فقال:
"رحم الله أبا ذرٍّ. يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده".
وفي صحيح ابن حبان: "أنّ أبا ذرٍّ لما حضرته الوفاة، بكت امرأته، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: تموت بفلاةٍ من الأرض، وليس عندي ثوب يسعك كفناً، ولا يدان لي فيَّ تغسيلك؟ فقال: لا تبكي، فإنّي سمعت رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يقول لنفرٍ ـ أنا فيهم ـ:
ليموتن رجل منكم بفلاةٍ من الأرض، يشهده عصابة من المسلمين. وليس من أولئك أحد إلاّ مات في

ص -279-      قريةٍ. فأنا الرّجل. والله ما كذبتُ ولا كُذِبتُ. فأبصري الطّريقَ. قالت: فكنت أشتد إلى الكثيب أتبصر، ثم أرجع فأمرَضُه. فبينا نحن كذلك، إذا أنا برجالٍ على رحالهم، كأنّهم الرّخَم، تَخُبُّ بهم رواحلهم، قالت: فأشرت إليهم. فأسرعوا حتى وقفوا عليّ. فقالوا: يا أمة الله، ما لك؟ قلت: امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه. قالوا: مَن هو؟ قلت: أبو ذرٍّ. قالوا: صاحب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ؟ قلت: نعم. ففدوه بآبائهم وأمهاتهم، وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه. فقال: أبشروا، فإنّي سمعت رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وحدّثهم بالحديث... ـ ثم قال: أمّا إنّه لو كان عندي ثوب يسعني كفناً لي أو لامرأتي لم أكفّن إلاّ في ثوبٍ هو لي، أو لها. وإنّي أنشدكم الله أن لا يكفنني رجل منكم كان أميراً أو عريفاً، أو بريداً أو نقيباً. وليس منهم إلاّ مَن قارف بعض ما قال إلاّ فتى من الأنصار، قال: يا عم. أنا أكفنك في ردائي هذا، أو في ثوبين في عَيْبَتي من غزل أمي. قال: أنت تكفنني. فكفنه وقاموا عليه، ودفنوه في نفرٍ كلّهم يَمان".
وفي (صحيح مسلم: أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال قبل وصوله إلى تبوك: "إنّكم ستأتون غداً ـ إن شاء الله ـ عين تبوك، وإنّكم لن تأتوها حتى يضحى النّهار، فَمَن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئاً حتى آتي". قال فجئنا وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الشّراك تبض بشيءٍ من مائها، فسألهما رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"هل مستما من مائها شيئاً؟"، قالا: نعم. فسبهما، وقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلاً قليلاً، حتى اجتمع في شيء، ثم غسل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فيه وجهه ويديه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء

ص -280-      كثيرٍ فاستقى النّاس، ثم قال: "يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد ملء جناناً".
ولما انتهى إلى تبوك، أتاه صاحب أيْلة، فصالحه وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جَرْبا وأذْرَح. فأعطوه الجزية، وكتب لصاحب أَيْلة:
"بسم الله الرّحمن الرحيم، هذا أمنة من الله ومن محمّدٍ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ليُحنّه ابن رؤبة، وأهل أيلة لسفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمّة الله، وذمّة النَّبِيّ، ومَن كان معهم من أهل الشّام، وأهل اليمن، وأهل البحر، فمَن أحدث منهم حدثاً فإنّه لا يحول ماله دون نفسه، وإنّه لِمَن أخذه من النّاس، وإنّه لا يحلّ أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقاً يريدونه من برٍّ أو بحرٍ".
ثم بعث خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ إلى أُكَيدر بن عبد الملك الكندي صاحب دُومة، وقال:
"إنّك ستجده يصيد البقر" فمضى خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلةٍ مقمرةٍ ـ وهو على سطحٍ ومعه امرأته ـ فباتت بقر الوحش تَحُكُّ بقرونها باب القصر. فقالت امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله. فركب فرسه، ومعه نفر من أهل بيته، منهم: أخ له يقال له: حسان، فلما خرجوا، تلقتهم خيل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فأخذته وقتلوا أخاه وعليه قباء مخوص بالذّهب، فاستلبه خالد، وبعث به إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ثم قدم بالأكيدر على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فحقن له دمه. وصالحه على الجزية، وكان نصرانياً، وقال: ابن سعد: أجاره خالد من القتل، ومع خالد أربعمائة وعشرون فارساً على أن يفتح له دومة الجندل، ففعل، وصالحه على ألفي بعير وثمانمائة رأس

ص -281-      وأربعمائة درع، وأربعمائة رمحٍ، فعزل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ صفيه، ثم قسم الغنيمة، فأخرج الخمس، ثم قسم ما بقي على أصحابه فكان لكلّ واحدٍ منهم خمس فرائض.
وأقام رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بتبوك بضع عشرة ليلة. ثم قفل.
وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: كان يحدّث، قال: "قمت من جوف اللّيل، وأنا في غزوة تبوك، فرأيت شعلة من نارٍ فأتيتها، فإذا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وأبو بكرٍ وعمر. وإذا ذو البجادين قد مات، وقد حفروا له، ورسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في حفرته، وأبو بكرٍ وعمر، يُدلِّيانه إليه. وهو يقول:
"أدْليا إليَّ أخاكما". فأدلياه إليه. فلما هيّأه لشِقِّه، قال: "اللهم إنّي قد أمسيت راضياً عنه، فارض عنه". قال: قال ابن مسعود: "يا ليتنِي كنت صاحب الحفرة".
وعن أبي أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ قال: أتى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ جبريل وهو بتبوك، فقال: يا محمّد اشهد جنازة معاوية بن معاوية المزني. فخرج رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ونزل جبريل في سبعين ألفاً من الملائكة، فوضع جناحه الأيمن على الجبال فتواضعت، ووضع جناحه الأيسر على الأرضين فتواضعت، حتى نظر إلى مكّة والمدينة، فصلّى عليه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وجبريل والملائكة ـ عليهم السّلام ـ، فلما فرغ قال: "
يا جبريل بم بلغ معاوية هذه المنْزلة؟"، قال: "بقراءة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، [الإخلاص: 1] قائماً وقاعداً، وركباً وماشياً". رواه ابن السّني والبيهقي.

ص -282-      وقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "إنّ بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلاّ كانوا معكم"، قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: "نعم. حبسهم العذر".
ورجع رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قافلاً من تبوك إلى المدينة حتى إذا كان ببعض الطّريق مكر به بعض المنافقين، فتآمروا أن يطرحوه من عقبّةٍ في الطّريق، فلما بلغها أراداوا سلوكها معه، فأخبر حبرهم، فقال للنّاس:
"مَن شاء أن يأخذ بطن الوادي فإنّه أوسع لكم"، وأخذ العقبة، وأخذ النّاس بطن الوادي إلاّ أولئك النّفر وتلثموا، فأمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه، وأمر عماراً أن يأخذ بزمام النّاقة، وأمر حذيفة أن يسوقها فبيناهم يسوقون، إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم فأمر حذيفة بردّهم فرجع ومعه محجن، فضرب به وجوه رواحلهم، وأبصرهم متلثمين، ولا يشعر إلاّ أنه فعل المسافر، فرعبوا حين أبصروا حذيفة، وظنّوا أنّ مكرهم قد ظهر، فأسرعوا حتى خالطوا النّاس، فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لحذيفة: "هل عرفت منهم أحداً؟"، قال: عرفتُ راحلة فلانٍ وفلان، وكانت ظلمة، فقال: "هل علمتَ شأنهم؟"، قال: لا. قال: "فإنّهم مكروا ليسيروا معي، حتى إذا طلعت في العقبة طرحوني"، فقال له حذيفة: أو لا تضرب أعناقهم؟ قال: "أكره أن يتحدّث النّاس أنّ محمّداً قد وضع يده في أصحابه"، ثم أمره بكتمانه.
وأقبل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من تبوك، حتى إذا كان بينه وبين المدينة ساعة. وكان أهل مسجد الضّرار أتوه ـ وهو يتجهّز إلى تبوك ـ فقالوا: إنّا قد

ص -283-      بنينا مسجداً لذي العِلّة، واللّيلة المطيرة. ونحب أن تصلّي فيه. فقال: "إني على جناح سفرٍ، ولو قدمنا إن شاء الله لأتيناكم".
فجاءه خبر المسجد من السّماء فدعا مالك بن الدُخْشُم ومعن بن عدي. فقال:
"انطلقا إلى هذا المسجد الظّالم أهله، فاهدماه، وحرّقاه بالنّار". فخرجا مسرعين حتى أتيا بني سالم فقال مالك لِمعن: أنْظِرني حتى أخرج بنارٍ من أهلي فدخل فأخذ سعفاً فأشعل فيه ناراً ثم خرجا يشتدّان حتى دخلاه، وفيه أهله، فحرّقاه وهدماه وتفرّق عنه أهله، فأنزل الله سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ}، [سورة التّوبة، من الآية: 107].
فلَمّا دنا من المدينة، خرج النّاس لتلقيه، وخرج النّساء والصّبيان والولائد يَقُلْنَ:
طلع البدر علينا      من ثَنِيَّات الوداع
وجب الشُّكر علينا   ما دعا الله داعٍ
وبعضهم يروي هذا عند مقدمه مهاجراً وهو وهم؛ لأنّ ثنيات الوداع من ناحية الشّام.
فلما أشرف على المدينة قال:
"هذه طابة"، وقال: "هذا أُحد جبل يحبّنا ونحبه".
فلما دخل بدأ بالمسجد، فصلّى فيه ركعتين، ثم جلس فيه للنّاس، فجاءه المخلّفون يعتذرون إليه، ويحلفون له وكانوا بضعاً وثمانين رجلاً، فقبل منهم واستغفر لهم ووكل سرائر إلى خالقهم، وفيهم نزل قوله تعالى:
{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} الآية، [التّوبة من الآية: 94-98] وما بعدها.

ص -284-      فصل: في الإشارة إلى ما تضمّنته هذه القصّة من فوائد
فمنها: جواز القتال في الشّهر الحرام إن كان خروجه في رجب محفوظاً.
ومنها: إعلام الإمام الرّعية بالأمر الذي يضرّهم إخفاؤه، وستر غيره عنهم للمصلحة.
ومنها: أن الإمام إذا استنفر الجيش لزم النّفير، ولم يجز لأحدٍ التّخلّف إلاّ بإذنه، ولا يشترط في الوجوب تعيين كلّ واحدٍ بعينه، وهذا أحد المواضع الثّلاثة التي يصير الجهاد فيها فرض عينٍ.
والثّاني: إذا حاصر العدوّ البلد.
والثّالث: إذا حضر بين الصّفّين.
ومنها: وجوب الجهاد بالمال كما يجب بالنّفس، وهذا هو الصّواب الذي لا ريب فيه وجاء مقدّماً على الجهاد بالنّفس في كلّ موضعٍ إلاّ موضعاً واحداً، وهذا يدلّ على أنّه آكد من الجهاد بالنّفس، وإذا وجب الحجّ بالمال على العاجز بالبدن، فوجوب الجهاد بالمال أولى.
ومنها: ما برز به عثمان من النّفقة العظيمة.
ومنها: أنّ العاجز بماله لا يُعذر، حتى يبذل جهده، فإنّه سبحانه

ص -285-      إنّما نفى الحرج عن العاجزين بعد أن أتوا رسوله ليحملهم ثم رجعوا باكين.
ومنها: استخلاف الإمام إذا سافر رجلاً من الرّعية، ويكون من المجاهدين؛ لأنّه من أكبر العون لهم.
ومنها: أنّ الماء الذي بآبار ثمود لا يجوز شربه، ولا الطّهارة به، ولا الطّبخ به ولا العجين به، ويجوز أن يسقى البهائم إلاّ ما كان من بئر النّاقة، وكانت معلومة باقية إلى زمن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ثم استمرّ علم النّاس بها قرناً بعد قرنٍ إلى وقتنا هذا، فلا ترد الرّكبان بئراً غيرها.
ومنها: أنّ مَن مرّ بديار المغضوب عليهم والمعذَّبين، لا ينبغي له أن يدخلها، ولا يقيم بها بل بسر السّير، ويتقنع بثوبه حتى يجاوزها، ولا يدخل عليهم إلاّ أن يكون باكياً معتبراً.
ومنها: أنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كان يجمع بين الصّلاتين في السّفر، وفي هذه القصّة جمع التّقديم في حديث معاذ، وذكرنا علّته، ولم يجيء عنه جمع التّقديم في سفرّ إلاّ هذا، وصحّ عنه جمع التّقديم بعرفة قبل دخوله عرفة.
ومنها: جواز التّيمّم بالرّمل، فإنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وأصحابه، قطعوا تلك الرّمال، ولم يحملوا معهم تراباً، وتلك مفاوز معطشة، وشكوا فيها العطش إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
ومنها: أنّه أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصّلاة، ولم يقل: لا يقصر

ص -286-      رجل إذا أقام أكثر من ذلك، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أنّ للمسافر أن يقصر، ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون.
ومنها: جواز بل استحباب حنث الحالف في يمينه إذا رأى غيرها خيراً منها، وإن شاء قدّم الكفّارة، وإن شاء أخّرها.
ومنها: انعقاد اليمين في حال الغضب إذا لم يخرج بصاحبه إلى حدٍّ لا يعلم معه ما يقول، وكذلك ينفذ حكمه، وتصحّ عقوده، فلو بلغ به الغضب إلى حدٍّ الإغلاق لم تنعقد يمينه، ولا طلاقه.
ومنها: قوله:
"ما أنا حملتكم" الخ، قد يتعلّق به الجبري، ولا متعلّق له به، وإنّما هو مثل قوله: "والله لا أعطي أحداً شيئاً، ولا أمنع، وإنّما أنا قاسمٌ أضعُ حيث أُمرت"، فإنّه إنّما يتصرّف بالأمر.
ومنها: أنّ أهل العهد إذا أحدث أحدهم حدثاً فيه ضرر على الإسلام وأهله، انتقض عهده في ماله ونفسه، وإذا لم يقدر عليه الإمام، فدمه وماله هدر، وهو لِمَن أخذه كما في صلح أهل أيْلة.
ومنها: الدّفن باللّيل كما دفن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ذا البجادين إذا كان لضرورةٍ أومصلحةٍ راحجةٍ.
ومنها: أنّ الإمام إذا بعث سرية، فغنمت، كان ما حصل لها بعد الخمس، فإنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قسم غنيمة دومة الجندل بين السّرية بخلاف ما إذا خرجت السّرية من الجيش في حال الغزو، وأصابت ذلك بقوّة الجيش، فإنّ ما أصابوه يكون غنيمة للجميع بعد الخمس والنّفل، وهذا كان هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ

ص -287-      ومنها: قوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "إنّ بالمدينة أقواما" الخ، وهذا من الجهاد بالقلب، وهو أحد مراتبه الأربع.
ومنها: تحريق أمكنة المعصية كما حرّق مسجد الضّرار، وكلّ مكانٍ مثله فواجب على الإمام تعطيله إمّا بهدمٍ و تحريقٍ، وإمّا بتغيير صورته وإخراجه عما وُضع له، وإذا كان هذا شأن مساجد الضّرار، فمشاهد الشّرك أحق وأوجب، وكذا بيوت الخمّارين، وأرباب المنكرات، وقد حرّق عمر قرية بكمالها يباع فيها الخمر، وحرّق حانوت رويشد وسمّاه فويسقاً، وحرّق قصر سعد لما احتجب فيه عن الرّعية، وهمَّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بتحريق بيوت تاركي الجمعة والجماعة، وإنّما منعه مَن فيها مِمَن لا تجب عليهم.
ومنها: أنّ الوقف لا يصحّ على غير قُربةٍ، وعلى هذا فيُهدم المسجد الذي بُنِي على قبرٍ كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد، فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر، فهذا دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله، وغربته بين النّاس كما ترى.

ص -288-      فصل: في حديث الثّلاثة الذين خُلِّفوا وهم:
كعب بن مالك وهلال بن أُمية ومرارة بن الرّبيع
قال بعض الشارحين: أوّل أسمائهم مكّة، وآخر أسمائهم عكة.
روينا في (الصّحيحين) واللّفظ للبخاري ـ رحمه الله تعالى ـ عن كعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: لم أتخلّف عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في غزوةٍ غزاها إلاّ في غزوة تبوك غير أنّي تخلّفت في غزوة بدرٍ، ولم يعاتب أحداً تخلّف عنها، إنّما خرج رسول اله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يريد عيرَ قريشٍ، حتى جمع الله تعالى بينهم وبين عدوّهم على غير ميعادٍ، ولقد شهدت مع رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحبّ أنّ لي بها مشهد بدرٍ وإن كانت بدر أذكر في النّاس منها، كان من خبري أنّي لم أكن قط أقوى، ولا أيسر حين تخلّفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة.
ولم يكن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يريد غزوة إلاّ ورّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في حرٍّ شديدٍ، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، وعدوّاً كثيراً، فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا

ص -289-      أهبة عدوّهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ يريد الدّيوان.
قال كعب ـ رضي الله عنه ـ: فما رجل يريد أن يتغيّب إلاّ ظنّ أنّه سيخفى ما لم ينْزل فيه وحي الله تعالى، وغزا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ تلك الغزوة حين طابت الثّمار والظّلال، وتجهّز رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهّز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى حتى اشتدّ بالنّاس الجِدّ.
فأصبح رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ غادياً، والمسلمون معه، ولم أقضِ من جهازي شيئاً، فقلت: أتجهّز بعده بيومٍ أو يومين، ثم ألحقهم. فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهّز، ولم أقضِ شيئاً، فلم يزل يتمادى بي حتى أسرعوا، وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم، فليْتَنِي فعلتُ، فلم يقدّر لي ذلك، فكنتُ إذا خرجت في النّاس بعد خروج رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، يحزننِي أنّي لا أرى لي أسوة إلاّ رجلاً مغموصاً عليه في النّفاق، أو رجلاً مِمَن عذر الله تعالى من الضّعفاء، ولم يذكرني رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القول بتبوك:
"ما فعل كعب بن مالك؟"، فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه بُرده والنّظر في عطفيه، فقال معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلاّ خيراً، فسكت رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
قال كعب بن مالك: فلَمّا بلغني أنّه توجّه قافلاً حضرني همّي،

ص -290-      فطفقت أتذكّر الكذب، فأقول: بماذا أخرج من سخطه غداً، وأستعين على ذلك بكلّ ذي رأيٍ من أهلي، فلما قيل: إنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قد أظلّ قادماً زاح عني الباطل حتى عرفت أنّي لم أخرج منه أبداً بشيءٍ فيه كذب، فأجمعت صدقه.
وأصبح رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قادماً، وكان إذا قدم من سفرٍ بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين، ثم جلس للنّاس، فلَمّا فعل ذلك، جاءه المخلّفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ علانيتهم، واستغفر لهم، ووكّل سرائرهم إلى الله تعالى، فجئته، فلَمّا سلّمت عليه تبسّم تبسُّم المغضب ثم قال:
"تعال"، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: "ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك"، فقلت: بلى إنّي والله يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدّنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذرٍ، ولقد أعطيت جدلاً، ولكنّي والله لقد علمت لو حدّثتك اليوم حديث كذبٍ ترضى به عنّي، ليوشكن الله أن يسخطك عليَّ، ولئن حدّثتك حديث صدقٍ تجد عليّ فيه إنّي لأرجوا فيه عفو الله تعالى، لا والله ما كان لي من عُذْرٍ، والله ما كنتُ قط أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنك، فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "أمّا هذا، فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك"، فقمت، وثار رجال من بني سلمة، فاتّبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بما اعتذر إليه المتخلّفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفارُ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فوالله

ص -291-      ما زالوا يؤنِّبونَنِي حتى أردتُ أن أرجع، فأكذب نفسي، ثم قلت: هل لقي هذا معي أحدٌ، قالوا: رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: مَن هما؟ قالوا: مرارة بن الرّبيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي. فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً ـ رضي الله عنهما ـ ففيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عن كلامنا أيّها الثلاثة من بين مَن تخلّف عنه، فاجتنبنا النّاس وتغيّروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي التي أعرف.
فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأمّا أنا فكنت أشبَّ القوم، وأجلدهم، وكنتُ أخرج فأشهدُ الصّلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلّمنِي أحدٌ، وآتي رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وأُسَلِّمُ عليه وهو في مجلسه بعد الصّلاة، وأقول في نفسي: هل حرّك شفتَيه بردّ السّلام عليّ أم لا؟ ثم أصلّي قريباً منه، فأسارقه النّظر، فإذا أقبلتُ إلى صلاتي أقبل إليّ، وإذا التفتُّ نحوه أعرض عنّي، حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورتُ جدار حائط أبي قتادة ـ رضي الله عنه ـ، وهو ابن عمّي، وأحبّ النّاس إليّ، فسلّمت عليه، فوالله ما ردَّ عليّ السّلام، فقلت له: يا أبا قتادة: أنشدك بالله هل تعلمني أُحِبُّ الله ورسولَه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ؟ فسكت، فعدتُ فناشدته، فقال ـ رضي الله عنه ـ: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي، وتولّيت حتى تسورتُ الجدار، فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطيّ من أنباط أهل الشّام مِمَن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: مَن يدلّ على كعب بن مالك؟

ص -292-      فطفق النّاس يشيرون له إليّ حتى جاءني فدفع إليّ كتاباً من ملك غسان فإذا فيه:
أمّا بعد؛
فإنّه قد بلغني أنّ صاحبك جفاك، ولم يجعلك الله تعالى بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسيك. فقلتُ لما قرأتُه: وهذا أيضاً من البلايا قتيمّمتُ بها التّنور، فسجرتُه بها حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسولُ رسولِ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يأتيني فيقول: إنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أُطلِّقها أم ماذا أفعل؟ فقال: لا بل اعتزلها، ولا تقربها. وأرسل إلى صحبيَّ بمثل ذلك، فقلتُ لامرأتي: إلحقي بأهلكِ فكوني معهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.
قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فقالت: يا رسول الله إنّ هلال بن أُمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه؟ قال:
"لا ولكن لا يقربك"، قالت: والله ما به حركة إلى شيءٍ، والله ما زال يبكي مذ كان إلى يومه هذا، فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، فقلت: والله لا استأذنت فيها رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وما يدريني ما يقول رسول الله إذا استأذنتُه فيها، وأنا رجل شاب. فلبثت بذكل عشر ليالٍ حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عن كلامنا، فلمّا صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيتٍ من بيوتنا؛ فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله ـ عزّ وجلّ ـ، قد ضاقت عليّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، سمعت صارخاً

ص -293-      أوفى على جبل سلع بأعلى صوته يقول: يا كعب بن مالك أبشر. قال: فخررت ساجداً، وعرفتُ أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بتوبة الله تعالى علينا حين صلّى صلاة الفجر، فذهب النّاس يبشّروننا، وذهب قِبَل صاحبِيَّ مبشِّرون، وركض رجل إليّ فرساً، وسعى ساعٍ من أسلم فأوفَى على الجبل، فكان الصّوت أسرع من الفرس.
فلمّا جاءني الذي سمعت صوته يبشِّرني، نزعت له ثوبَيَّ، فكسوته إيّاهما ببشراه والله ما أملك غيرهما يومئذٍ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فتلقاني النّاس فوجاً فوجاً يهنّئوني بالتّوبة، يقولون: ليهنك توبة الله تعالى عليك يا كعب، حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ جالس حوله النّاس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله ـ رضي الله عنه ـ يهرول، حتى صافحني وهنّأني، والله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، وكان كعب لا ينساها لطلحة، فلمّا سلّمت على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال ـ وهو يبرق وجهه من السّرور:
"أبشر بخير يومٍ مرَّ عليك مُذ ولدتك أُمّك"، قال: قلت: أَمِنْك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: "لا بل من عند الله".
وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذا سُرَّ استنار وجهه، حتى كأنّه قطعة قمرٍ، وكنا نعرف ذلك منه، فلَمّا جلست بين يديه، قلت: يا رسول الله إنّ من توبتِي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله.
فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك"، قلت: فإنّي أمسك سهمي الذي بخيبر، فقلت: يا رسول الله إنّ الله إنّما أنجاني بالصّدق وإنّ من توبتي أن لا أحدِّث إلاّ صدقاً ما بقيت،

ص -294-      فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث أحسن مِما أبلاني، وما تعمدت مذ ذكرت ذلك لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلى يومي هذا كذباً وإنّي لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقيت، وأنزل الله تعالى على رسوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، [التّوبة الآيات: 117-119].
فوالله ما أنعم الله عليَّ من نعمةٍ قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحدٍ، فقال الله ـ عزّ وجلّ ـ:
{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ  يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}، [التّوبة الآيتان:95-96].
اعلم ـ وفّقنا الله وإيّاك لما يرضيه من العمل ـ أنّ في حديث كعب هذا فوائد:
فمنها: جواز إخبار الرّجل عن تَفْرِيطِه في الطّاعة، وما آل إليه أمره، وفيه من النّصيحة ما هو أهمّ الأمور.

ص -295-      ومنها: استحباب ردّ غيبة المسلم كما فعل معاذ ـ رضي الله عنه ـ.
ومنها: ملازمة الصّدق، وإن شقّ فعاقبته إلى خيرٍ.
ومنها: استحباب ركعتين في المسجد عند القدوم من السّفر قبل كلّ شيء.
ومنها: أنّه يستحبّ للقادم من سفرٍ إذا كان مقصوداً أن يجلس لِمَن يقصده في موضعٍ بارزٍ كالمسجد ونحوه.
ومنها: جريان أحكام النّاس على الظّاهر، والله يتولى السّرائر.
ومنها: هجران أهل البدع والمعاصي الظّاهرة، وترك السّلام عليهم تحقيراً لهم وزجراً.
ومنها: استحباب بكائه على نفسه إذا بدرت منه معصية، وحقّ له أن يبكي.
ومنها: جواز إحراق ورقة فيها ذكر الله تعالى لمصلحةٍ، كما فعل كعب ـ رضي الله عنه ـ.
ومنها: أنّ كنايات الطّلاق كقوله: الحقي بأهلكِ، لا يقع إلاّ بالنّيّة.
ومنها: جواز خدمة المرأة زوجها من غير إلزامٍ ووجوبٍ.
ومنها: استحباب سجود الشّكر عند حصول نعمةٍ، أو اندفاع نقمةٍ ظاهرةٍ، والتّصدّق عند ذلك.
ومنها: استحباب التّبشير والتّهنئة، وإكرام المبشِّر بكسوة ونحوها.

ص -296-      ومنها: استحباب القيام للوارد إكراماً له إذا كان من أهل الفضل بأي نوعٍ كان، وجواز سرور القوم بذلك كما سرّ كعب بقيام طلحة ـ رضي الله عنهما ـ، وليس بمعارضٍ بحديث: "مَن سرّه أن يتمثل له الرّجال قياماً، فليتبوّأ مقعده من النّار"؛ لأنّ هذا الوعيد للمتكبّرين ومَن يغضب إذا لم يقم له، وقد كان ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يقوم لفاطمة ـ رضي الله عنها ـ سروراً بها، وتقوم له كرامةً، وكذلك كلّ قيامٍ أثمر الحبّ في الله تعالى، والسّرور لأخيك بنعمة الله، والبرّ لِمَن يتوجّه برّه، والأعمال بالنّيات. والله أعلم.
ومنها: مدح الإنسان نفسه بما هو فيه إذا لم يكن فخراً.
ومنها: أنّ العقبة كانت من أفضل المشاهد.
ومنها: أنّ ديوان الجيش لم يكن في حياته ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وأوّل مَن دوّن الدّواوين عمر.
ومنها: أنّ فرصة القربة إذا حضرت فالحزم في انتهازها، فإنّ العزائم سريعة الانتقاض، والله سبحانه يعاقب مَن فتح له باباً إلى الخير فلم ينتهزه بأن يحول بين قلبه وبين إرادته، قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}، [الأنفال، من الآية: 24]، وصرّح سبحانه بهذا في قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ}، [الأنعام من الآية: 110] وقال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، [الصّف، من الآية: 5]، وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ}، [التّوبة من الآية: 115]، وهو كثير في القرآن.
ومنها: أنّه لم يتخلّف عنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلاّ مَن هو مغموص عليه

ص -297-      في النّفاق أو رجل من أهل الأعذار أو مَن خلّفه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
ومنها: أنّ الإمام لا ينبغي له أن يهمل مَن تخلّف عنه في بعض الأمور بل يذكره ليراجع الطّاعة، فإنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال:
"ما فعل كعب؟"، ولم يذكر سواه استصلاحاً له وإهمالاً للمنافقين.
ومنها: جواز الطّعن في الرّجل بما يغلب على اجتهاد الطّاعن ذبّاً عن الله ورسوله. ومنه طعن أهل الحديث فيمَن طعنوا فيه، وطعن أهل السّنة في أهل البدع.
ومنها: جواز الرّدّ على هذا الطّاعن إذا غلب على ظنّ الرّدّ أنّه وَهْم كما ردّ معاذ ولم ينكر ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ على واحدٍ منهما.
ومنها: أنّ السّنة للقادم من سفرٍ أن يدخل البلد على وضوءٍ، وأن يبدأ ببيت الله قبل بيته فيصلّي ركعتين.
ومنها: ترك الإمام ردّ السّلام على مَن أحدث حدثاً.
ومنها: معاتبة المطاع مَن يعزّ عليه، فإنّه عاتب الثّلاثة دون غيرهم، وقد أكثر النّاس مدح عتاب الأحبة.
ومنها: توفيق الله لكعبٍ وصاحبيه فيما جاؤوا به من الصّدق، ولم يخذلهم حتى كذبوا، فصلحت عاجلتهم، وفسدت عاقبتهم والصّادقون تعبوا في العاجلة بعض التّعب، فأعقبهم صلاح العاقبة، وعلى هذا قامت الدّنيا والآخرة.

ص -298-      وفي نهيه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عن كلامهم خاصّة دليلٌ على صدقهم وكذب الباقين، فأراد تأديب الصّادقين.
وأمّا المنافقون فهذا الدواء لا يعمل في مرضهم، وهكذا يفعل الرّبّ سبحانه بعباده في عقوبات جرائمهم. فمَن هان عليه، خلى بينه وبين معاصيه، فكلّما أحدث ذنباً أحدث له نعمة.
وقوله: "حتى تسوّرتُ حائط أبي قتادة"، فيه دليلٌ على دخول الإنسان دار صاحبه وجاره، إذا علم رضاه بلا إذنٍ.
وفي أمره لهم باعتزال النّساء كالبشارة بالفرج من جهة كلامه لهم، ومن أمره لهم بالاعتزال.
وفي قوله: "الحقي بأهلكِ" دليلٌ على أنّه لا يقع بهذه اللّفظة وأمثالها طلاقٌ ما لم ينوه.
وفي سجوده لما سمع صوت المبشِّر دليلٌ أنّ تلك عادة الصّحابة، وهي سجود الشّكر عند النّعم المتجدّدة والنّقم المندفعة، وقد سجد ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ حين بشّره جبريل أنّ مَن صلّى عليه مرّة صلّى الله عليه بها عشراً، وسجد حين شفع لأمّته، فشفّعه الله فيهم ثلاث مرّات، وسجد أبو بكر لما جاءه قتل مسيلمة، وسجد عليّ حين وجد ذا الثّدية، وفي استباق صاحب الفرس والرّاقي على سلعٍ دليلٌ على حرص القوم على الخير، وتسابقهم في مسرة بعضهم بعضاً.
ومنها: أنّ إعطاء المبشِّر من مكارم الأخلاق، وجواز إعطاء البشير جميع ثيابه، واستحباب تهنئة مَن تجدّدت له نعمة دينية، والقيام إليه، ومصافحته فهذه سنة مستحبّة، وجائز في النّعم الدّنيوية لِمَن تجدّدت له. وأنّ الأولى أن يقال: ليهنك ما أعطاك الله، ونحوه فإنّ فيه تولية النّعمة ربّها، والدّعاء لِمَن نالها بالتّهني بها.

ص -299-      وفيه: أنّ خير أيّام العبد على الإطلاق يوم توبته، وقبول الله لها، وفي سروره ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، كمال شفقته على الأمّة.
وفيه: استحباب الصّدقة عند التّوبة، وأنّ مَن نذر الصّدقة بماله كلّه لم يلزمه إخراج جميعه.
وفيه: عظم مقدار الصّدق، وتعليق سعادة الدّارين به، وقد قسم سبحانه الخلق قسمين: سعداء؛ وهم أهل الصّدق والتّصديق، وأشقياء؛ وهم أهل الكذب والتّكذيب، وهو تقسيم حاصر مطرّد منعكس.
وقوله:
{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}، [التّوبة: 117].
هذا من أعظم ما يُعرف قدر التّوبة، وأنّها غاية كمال المؤمن، فإنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ أعطاهم هذا الكمال بعد آخر الغزوات.
ولا يعرف هذا حقّ معرفته إلاّ مَن عرف الله وحقوقه، فسبحان مَن لا يسع العباد غير عفوه ومغفرته، وكرر توبته عليهم مرتين فتاب عليهم أوّلاً بالتّوفيق لها، وثانياً بقبولها، فالخيرات كلّها منه وبه وله.

ص -300-      فصل: في حجّة أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه
سنة تسعٍ بعد مقدمه من تبوك، خرج بثلاثمائة رجل من المسلمين، فنَزلت (براءة) في نقض ما كان بين رسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وبين المشركين من العهد فخرج عليّ على ناقة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فلحق أبا بكر، فلما رآه قال: أميرٌ أو أمأمورٌ؟ قال: بل مأمورٌ بعثني رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أقرأ براءة على النّاس، وأنبذ إلى كلّ ذي عهدٍ عهده. قال عليّ:
بُعِثْتُ بأربعٍ: لا يدخل الجنة إلاّ نفسٌ مؤمنةٌ، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع مسلم وكافر في المسجد الحرام بعد عامه هذا، ومَن كان بينه وبين النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عهد فعهده إلى مدته.
قال ابن إسحاق: ولما افتتح رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ مكّة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف، ضربت إليه وفود العرب من كلّ وجهٍ، فذكر وفد بني تميمٍ، ووفد طيء، ووفد بني عامرٍ، ووفد عبد القيس، ووفد بني حنيفة، ووفد كندة، ووفد الأشعريّين، ووفد الأزد، ووفد أهل نجران، ووفد همدان، ووفد نصارى نجران، وغيرهم. ثم ذكر هديه في مكاتباته إلى الملوك ثم ذكر هديه في الطّبّ.


ص -301-      ثم ذكر هديه في العلاج بالأدوية الرّوحانية المفردة والمركبة منها، ومن الأدوية الطّبيعية، فقال: روى مسلم عن ابن عبّاس مرفوعا: "العين حقّ ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين".
وفي (صحيحه) أيضاً عن أنس أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ رخّص في الرّقية من العين والحمة والنّملة.
وروى مالك عن ابن شهاب عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف قال: رأى عامر بن ربيعة سهلاً يغتسل، فقال: والله ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبّأة، فلُبِط سهل، فأتى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عامراً، فتغيظ عليه، وقال:
"عَلامَ يقتُل أحدكم أخاه ألا بركت؟ اغتسل له"، فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه، وداخلة إزاره في قدحٍ، ثم صبّ عليه فراح سهل مع النّاس.
وذكر عبد الرّزّاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه مرفوعاً: "العين حقّ، وإذا استغسل أحدكم، فليغتسل". ووصله صحيح.
قال التّرمذي: يؤمر العائن بقدحٍ، فيدخل كفّه فيه، فيتمضمض، ثم يمجّه في القدح، ويغسل وجهه في القدح، ثم يغسل يده اليسرى، فيصبّ على ركبته اليمنى في القدح، ثم يدخل يده اليمنى، فيصبّ على ركبته اليسيرى، ثم يغسل داخلة إزاره، ولا يوضع القدح في الأرض، ثم يصبّ على رأس المصاب من خلفه صبّةً واحدةً.
والعين عينان: عين إنسيّة، وعين جنيّة، فقد صحّ عن أُم سلمة أنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة، فقال:
"استرقوا لها،

ص -302-      فإنّ بها النّظرة"، قال البغوي: سفعة، أي: نظرة من الجنّ يقول: بها عين أصابتها من نظر الجنّ، أنفذ من أسنّة الرّماح.
وكان ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يتعوّذ من الجان، ومن عين الإنسان، فأبطلت طائفة مِمَن قلّ نصيبهم من السّمع والعقل أمر العين، وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم، لا تدفع أمر العين، وإن اختلفوا في سببه.
ولا ريب أنّ الله سبحانه خلق في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة، وجعل في كثيرٍ منها خواص وكيفيات مؤثّرة، ولا يمكن لعاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام، فإنّه أمرٌ مشاهدٌ.
وليست العين هي الفاعلة، وإنّما التّأثير للرّوح ولشدّة ارتباطها بالعين نسب الفعل إليها، وروح الحاسد مؤذية للمحسود أذى بيِّناً، ولهذا أمر الله رسوله أن يستعيذ به من شرّه، وأشبه الأشياء بهذا الأفعى، فإنّ السّمّ كامن بالقوّة فيها، فإذا قابلت عدوّها، انبعثت منها قوّة غضبيّة، فمنها ما يؤثر في إسقاط الجنين، ومنها ما يؤثر في طمس البصر، كما قال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الأبتر وذي الطّفيتين من الحيّات:
"إنّهما يلتمسان البصر، ويسقطان الحبل". والتّأثير غير موقوفٍ على الاتّصالات الجسمية، ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على الرّؤية، بل قد يكون أعمى، فيوصف له الشّيء، وكثير منهم يؤثر بالوصف من غير رؤية، فكلّ عائنٍ حاسدٍ، وليس كلّ حاسدٍ عائناً، فلما كان الحاسد أعمّ كانت الاستعاذة منه وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن، فإن صادفته مكشوفاً، أثّرت فيه، وإن كان حذراً شاكي السّلاح، لم تؤثّر، وربّما ردّت السّهام على صاحبها

ص -303-      بمثابة الرّمى الحسي سواء. وقد يعين الرّجل نفسه، وقد يعين بغير إرادته، بل بطبعه وهذا أردأ ما يكون.
ولأبي دواد في (سننه) عن سهل بن حنيف قال: مررنا بسيل فاغتسلت فيه، فخرجت محموداً فقال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"مُرّوا أبا ثابتٍ فليتعوّذ"، فقلت: يا سيّدي والرّقى صالحة؟ فقال: "لا رقية إلاّ في نفسٍ، أو حُمة، أو لدغة". والنّفس: العين، واللّدغة: ضربة العقرب ونحوها.
فمن التّعوّذات والرّقى: الإكثار من قراءة المعوّذتين والفاتحة وآية الكرسي.
ومن التّعوّذات النّبوّية:
"أعوذ بكلمات الله التّامّات من كلّ شيطانٍ وهامّة، ومن كلّ عينٍ لامّة".
ونحو:
"أعوذ بكلمات الله التّامّات التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر من شرّ ما خلق، وذرأ وبرأ، ومن شرّ ما ينْزل من السّماء، ومن شرّ ما يعرج فيها، ومن شرّ ما ذرأ في الأرض، ومن شرّ ما يخرج منها، ومن شرّ فتن اللّيل والنّهار، ومن شرّ طوارق اللّيل إلاّ طارقاً يطرق بخير يا رحمن".
ومنها: "
أعوذ بكلمات الله التّامّات من غضبه وعقابه وشرّ عباده، ومن همزات الشّياطين وأن يحضرون".
ومنها: "اللهم إنّي أعوذ بوجهك الكريم، وكلماتك التّامّة من شرّ ما أنتَ آخذ بناصيته، اللهم أنتَ تكشف المأثم والمغرم، اللهم لا يُهزم جندك، ولا يخلف وعدُك سبحانك وبحمدك".
ومنها:
"أعوذ بوجه الله العظيم الذي لا شيء أعظم منه، وبكلماته التّامّات التي لا يجاوزهن برٌّ ولا فاجرٌ وأسماء الله الحسنى، ما علمتُ منها

ص -304-      وما لم أعلم من شرّ ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شرّ كلّ ذي شرٍّ لا أطيق شرّه، ومن شرّ كلّ ذي شرٍّ أنت آخذ بناصيته إنّ ربّي على صراطٍ مستقيمٍ".
وإن شاء قال
: "تَحَصّنْتُ بالله الذي لا إله إلاّ هو إلهي وإله كلّ شيءٍ، واعتصمتُ بربّي وربّ كلّ شيءٍ، وتوكلتُ على الحيّ الذي لا يموت واستدفعتُ الشّرَّ بلا حول ولا قوّة إلاّ بالله، حسبي الله ونعم الوكيل؛ حسبي الرّبّ من العباد، حسبي الخالق من المخلوق، حسبي الرّزّاق من المرزوق، حسبي الله وكفى، سمع الله لِمَن دعا، ليس وراء الله مرمى، حسبي الله لا إله إلاّ هو عليه توكلّتُ وهو ربّ العرش العظيم".
ومّن جرّب هذه التّعوّذات، عرف منفعتها، وهي تمنع وصول العين، وترفعها بعد وصولها، بحسب قوّة إيمان قائلها وقوّة نفسه، فإنّها سلاح، والسّلاح بضاربه.
وإذا خشي العائن ضرر عينه فليقل:
"اللهم بارك عليه"، كما أمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عامراً أن يقوله لسهلٍ، ومِمّا يدفعها قول: "ما شاء الله لا قوّة إلاّ بالله"، كان عروة إذا رأى شيئاً يعجبه أو دخل حائطاً من حيطانه قالها.
ومنها: رقية جبريل للنَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ التي في (صحيح مسلم):
"بسم الله أرقيكَ من كلّ شيءٍ يؤذيك، من شرّ كلّ نفسٍ أو عينٍ حاسدٍ الله يشفيك بسم الله أرقيك".
ثم ذكر هديه في العلاج لكلّ شكوى بالرّقية الإلهية، فذكر فيه حديث أبي داود عن أبي الدّرداء رفعه:
"مَن اشتكى منكم شيئاً فليقل: ربّنا الله

ص -305-      الذي في السّماء..." الخ.
ثم ذكر رقية جبريل المتقدّمة، ثم ذكر هديه في رقية القرحة، والجراح، وذكر ما في (الصّحيحين) أنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال:
"إذا اشتكى الإنسان، أو كان به قرحة، أو جرح قال بإصبعه هكذا"، ووضع سفيان سبّابته بالأرض ثم رفعها وقال: "بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا، يشفي سقيمنا بإذن ربّنا"، وهل المراد تربة الأرض كلّها أو أرض المدينة؟ فيه قولان.

ص -306-      فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في علاج الْمُصيبة
قال الله تعالى:
{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}، [البقرة الآيات: 155-157].
ثم ذكر حديث الاسترجاع، ثم قال: وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له فإنّها تضمنت أصلين إذا تحقق بهما تسلى عن مصيبته:
أحدهما: أنّ العبد وماله ملك لله جعله عنده عارية.
والثّانية: أنّ المرجع إلى الله ولا بدّ أن يخلِّف الدّنيا، فإذا كانت هذه البداية والنّهاية، ففكره فيهما من أعظم علاج هذا الدّاء. ومنه أن يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
ومنه: أنّ ربّه أبقى له مثله أو أفضل، وادّخر له إن صبر ما هو أفضل من المصيبة بأضعاف، وأنّه لو شاء لجعلها أعظم مما هي.
ومنه: إطفاؤها ببرد التّأسي، فلينظر عن يمينه وعن يساره، وأنّ سرور الدّنيا أحلامٌ، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً.
ومنه: العلم أنّ الجزع لا يردّ بل يضاعف.
ومنه: أن يعلم أنّ فوات ما ضمن الله على الصّبر والاسترجاع أعظم منها.

ص -307-      ومنه: أن يعلم أنّ الجزع يشمِّت عدوّه، ويسوء صديقه، ويغضب ربّه.
ومنه: أن يعلم أنّ ما يعقب الصّبر والاحتساب من اللّذة أضعاف ما يحصل له من نفع الفائت لو بقي له.
ومنه: أن يروِّح قلبه برجاء الخلف.
ومنه: أن يعلم أنّ حظّه منها ما يحدثه، فمَن رضي فله الرّضى، ومَن سخط فله السّخط.
ومنه: أن يعلم أنّ آخر صبر الجزوع إلى الصّبر الاضطراري، وهو غير محمود، ولا مثاب.
ومنه: أن يعلم أنّ من أنفع الأدوية موافقة ربّه فيما أحبّه ورضيه له وأنّها خاصّيّة المحبّة.
ومنه: أن يوازن بين أعظم اللّذتين وأدومهما لذّة تمتعه بما أُصيب به، ولذّة تمتعه بثواب الله.
ومنه: العلم بأنّ المبتلي أحكم الحاكمين، وأرحم الرّاحمين، وأنّه لم يبتله ليهلكه، بل ليمتحن إيمانه، وليسمع تضرّعه، وليراه طريحاً ببابه.
ومنه: أن يعلم أنّ المصائب سبب لمنع الأدواء المهلكة، كالكبر والعجب والقسوة.
ومنه: أن يعلم أنّ مرارة الدّنيا حلاوة الآخرة، وبالعكس وإن خفي عليك هذا، فانظر قول الصّادق المصدوق:
"حفّت الجنّة بالمكاره، وحفّت النّار بالشّهوات"، وفي هذا المقام تفاوتت عقول الخلائق، وظهرت حقائق الرّجال.

ص -308-      فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في علاج الكرب والهمّ والحُزن
في (الصّحيحين) عن ابن عبّاس قال: كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يقول عند الكرب:
"لا إله إلاّ الله العظيم الحليم، لا إله إلاّ الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلاّ الله ربّ السّموات وربّ الأرض ربّ العرش الكريم".
وللتّرمذي عن أنس كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يقول:
"يا حيّ يا قيّوم برحمتك أستغيث".
وله عن أبي هريرة كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذا أهمّه أمرٌ رفع طرفه إلى السّماء وقال:
"سبحان الله العظيم"، وإذا اجتهد في الدّعاء قال: "يا حي يا قيّوم".
ولأبي داود عن أبي بكرٍ الصّدِّيق مرفوعاً:
"دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عينٍ، وأصلح لي شأني كلّه لا إله إلاّ أنتَ".
وله عن أسماء بنت عميس قالت: قال لي رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"ألا أعلّمك كلماتٍ تقولينهن عند الكرب: الله ربّي لا أشرك به شيئاً"، وفي روايةٍ: "سبع مرّات".
ولأحمد عن ابن مسعود مرفوعاً قال: "ما أصاب عبداً همٌّ ولا حُزنٌ.

ص -309-      فقال: اللهم إنّي عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكلّ اسمٍ هو لك سمّيتَ به نفسك، أو أنْزلتَه في كتابك أو علّمتَه أحداً من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي إلاّ أذهب الله همّه وحزنه، وأبدله مكانه فرحاً".
وللتّرمي عن سعد مرفوعا:
"دعوة ذي النّون لم يدع بها رجل مسلم في شيء إلاّ استجيب له"، وفي روايةٍ: "إنّي لأعلم كلمةً لا يقولها مكروب إلاّ فرّج الله عنه كلمة أخي يونس".
ولأبي داود أنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال لأبي أُمامة:
"ألا أعلّمك كلاماً إذا أنتَ قلته أذهب الله ـ عزّ وجلّ ـ همك، وقضى دينك؟ قل إذا أصبحتَ وإذا أمسيتَ: اللهم إنّي أعوذ بك من الهمّ والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الْجُبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدّين وقهر الرّجال". قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله ـ عزّ وجلّ ـ همّي، وقضى عنِّي دَيْنِي.
ولأبي داود عن ابن عبّاس مرفوعاً: "
مَن لزم الاستغفار جعل الله له من كلّ همٍّ فرجاً، ومن كلّ ضيقٍ مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب".
وفي (السّنن):
"عليكم بالجهاد، فإنّه باب من أبواب الجنة يدفع الله به عن النّفوس الهمّ والغمّ".
وفي (المسند) أنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كان إذا حزبه أمرٌ فزع إلى

ص -310-      الصّلاة ويُذكر عن ابن عبّاس مرفوعاً: "مَن كثرت همومه وغمومه، فليكثر من قول: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله".
وفي (الصّحيحين):
"إنّها كنْزل من كنوز الجنة".
وهذه الأدوية تتضمن خمسة عشر نوعاً من الدّواء، فإن لم تقو على إذهاب الهمّ والغمّ والحزن، فهو قد استحكم:
الأوّل: توحيد الرّبوبية.
الثّاني: توحيد الألوهية.
الثّالث: التّوحيد العلمي.
الرّابع: تنْزيه الرّبّ تعالى عن أن يظلم عبده، أو يأخذه بلا سببٍ من العبد يوجب ذلك.
الخامس: اعتراف العبد بأنّه هو الظّالم.
السّادس: التّوسّل بأحبّ الأشياء إلى الله، وهو أسماؤه وصفاته، ومِنْ أجمعها لمعاني الأسماء والصّفات "الحيّ القيّوم".
السّابع: الاستعانة به وحده.
الثّّامن: إقرار العبد له بالرّجاء.
التّاسع: تحقيق التّوكّل والاعتراف بأنّ ناصيته بيده، وأنّه ماضٍ فيه حكمه، عدلٌ فيه قضاؤه.
العاشر: أن يرتع قلبه في رياض القرآن كالرّبيع للحيوان، وأن يستضيء به في ظلم الشّبهات ويتعزى به عن كلّ مصيبةٍ، ويستشفى به من أدواء صدره، فيكون جلاء حزنه، وشفاء همّه وغمّه.

ص -311-      الحادي عشر: الاستغفار.
الثّاني عشر: التّوبة.
الثّالث عشر: الجهاد.
الرّابع عشر: الصّلاة.
الخامس عشر: البراءة من الحول والقوّة وتفويضها إلى الله.

ص -312-      فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في علاج الفزع والأرق
روى التّرمذ عن بريدة قال: اشتكى خالد، فقال: يا رسول الله ما أنام اللّيل من الأرق. فقال:
"إذا أويت إلى فراشك، فقل: اللهم ربّ السّموات السّبع، وما أظلت، وربّ الأرضين السّبع وما أقلت، وربّ الشّياطين وما أضلت، كن لي جاراً من شرّ خلقك كلّهم جميعاً أن يفرط عليَّ أحد منهم، أو يبغي عليّ، عزّ جارك، وجلّ ثناؤك، ولا إله غيرك".
وفيه من حديث عمرو بن شعيب أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، كان يعلّمهم من الفزع: "أعوذ بكلمات الله التّامّات من غضبه، وشرّ عباده، ومن همزات الشّياطين، وأعوذ بك ربّ أن يحضرون".
وكان عبد الله بن عمر يعلّمهن مَن عقل بَنِيه، ومَن لم يعقل كتبه، فعلّقه عليه.
ويذكر من حديث عمرو بن شعيب مرفوعاً:
"إذا رأيتم الحريق فكبّروا، فإنّ التّكبير يطفئه"، الحريق سببه النّار التي خلق منها الشّيطان، وفيه من الفساد ما يناسب الشّيطان والنّار تطلب بطبعها العلوّ والفساد، وهذان هدي الشّيطان، وإليهما يدعو وبهما يهلك بني آدم، وكبرياء الرّبّ ـ عزّ وجلّ ـ تقمع الشّيطان، فإذا كبّر المسلم ربّه، طفئ الحريق، وقد جربنا نحن وغيرنا هذا فوجدناه كذلك.

 

ص -313-      فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في حفظ الصّحّة
قال الله تعالى
: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا}، [الأعراف من الآية: 31]، فأرشدهم إلى إدخال ما يقيم البدن من الطّعام والشّراب عوض ما تحلّل منه، وأن يكون بقدر ما ينتفع به البدن في الكمية والكيفية، فحفظ الصّحّة في هاتين الكلمتين.
ولما كانت الصّحّة والعافية من أجلّ النّعم، بل العافية المطلقة أجل النّعم على الإطلاق، فحقيق بك حفظها.
ولهذا قال النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"نعمتان مغبون فيهما كثير من النّاس: الصّحّة والفراغ"، وفي التّرمذي وغيره مرفوعا: "مَن أصبح معافى في جسده، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنّما حيزت له الدّنيا"، وفيه أيضاً مرفوعاً: "أوّل ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النّعم أن يقال: ألم نصحّ لك جسمك؟ ونروك من الماء البارد".
ومن هنا مَن قال من السّلف في قوله:
{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}، [التّكاثر: 8]، قال: عن الصّحّة.
ولأحمد مرفوعاً:
"سلوا الله اليقين والمعافاة، فما أُوتي أحد بعد اليقين خيراً من العافية"، فجمع بين عافيتَي الدّين والدّنيا.

ص -314-      وفي (سنن النّسائي) مرفوعاً: "سلوا الله العفو والعافية والمعافاة، فما أُوتي أحد بعد اليقين خيراً من معافاةٍ"، وهذه الثّلاثة تتضمن إزالة الشّرور الماضية بالعفو، والحاضرة بالعافية، والمستقبلة بالمعافاة.
ولم يكن من عادته ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ حبس النّفس على نوعٍ واحدٍ من الأغذية، فإنّه مضرّ ولو أنّه أفضل الأغذية، بل يأكل ما جرت عادة أهل بلده بأكله.
قال أنس: ما عاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ طعاماً قطّ، إن اشتهاه أكله، وإلاّ تركه. ومتى أكل الإنسان ما لا يشتهي، كان تضرّره به أكثر من نفعه، وكان يحبّ اللّحم، وأحبّه إليه الذّراع، ومقدم الشّاة وهو أخفّ وأسرع انهضاماً.
وكان يحبّ الحلوى والعسل، واللّحم والحلوى والعسل من أنفع الأغذية.
وكان يأكل من كلّ فاكهة بلده عند مجيئها، وهو من أسباب حفظ الصّحّة، فإنّ الله سبحانه بحكمته جعل في كلّ بلدٍ من الفاكهة ما يكونُ من أسباب صحّة أهلها، وقلّ مَن احتمى عن فاكهة بلده خشية السّقم إلاّ وهو من أسقم النّاس جسماً.
وصحّ عنه أنّه قال:
"لا آكل متكّئاً"، وقال: "إنّما أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد"، وفسّر بالتّربّع، وبالاتّكاء على الشّيء، وفسّر بالاتّكاء على الجنب، والثّلاثة من الاتّكاء.
وكان يأكل بأصابعه الثّلاث، وهو أنفع ما يكون.

ص -315-      وكان يشرب العسل الممزوج بالماء البارد، وصحّ عنه أنّه نهى عن الشّرب قائماً.
وصحّ عنه أنّه أمر مَن فعله أن يستقيء، وصّح عنه أنّه شرب قائما، فقيل: نسخ النّهي، وقيل: تبيّن أنّه ليس للتّحريم، وقيل: يشرب قائماً للحاجة.
وكان يتنفّس في الشّراب ثلاثاً ويقول:
"إنّه أروى وأمرأ، وأبرأ"، أي: أشدّ ريّاً، وأبرأ: من البرء، وهو الشّفاء، أي: يُبرئ من العطش، وأمرأ: من مري الطّعام والشّراب في بدنه: إذا دخله وخالطه بسهولةٍ ولذّةٍ ونفعٍ، ومنه: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً}، [النّساء من الآية: 4]، هنيئاً في عاقبته، مريئاً في مذاقته.
وللتّرمذي عنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"لا تشربوا نفساً واحداً كشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى، وسمّوا الله إذا شربتم، واحمدوا إذا أنتم فرغتم".
وفي (الصّحيح) عنه:
"غطوا الإناء، وأوكوا السّقاء، فإنّ في السّنة ليلةً ينْزل فيها وباء، لا يمر بإناءٍ ليس عليه غطاء ولا سقاء، ليس عليه وكاء إلاّ وقع فيه من ذلك الدّاء".
قال اللّيث بن سعد أحد رواة الحديث: الأعاجم عندنا يتّقون تلك اللّيلة في كانون الأوّل.
وصحّ عنه أنّه أمر بتخمير الإناء ولو أن يعرض عليه عوداً.
وصحّ عنه أنّه أمر عند الإيكاء والتّغطية بذكر اسم الله، ونهى عن الشّرب من فم السّقاء، وعن النّفس في الإناء والنّفخ فيه، وعن الشّرب من ثلمة القدح.
وكان لا يردّ الطّيب، وقال:
"مَن عرض عليه ريحان،

ص -316-      فلا يردّه، فإنّه طيب الرّيح، خفيف المحمل"، ولفظ أبي داود والنّسائي: "مَن عرض عليه طيب"، وفي (مسند البزار) عنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "إنّ الله طيّب يحبّ الطّيّب، نظيف يحبّ النّظافة، كريم يحبّ الكرم، جواد يحبّ الجود، فنظّفوا أفناءكم وساحاتكم، ولا تشبهوا باليهود يجمعون الأكباء في دورهم"، ـ ألأكب: الزّبالة.
وفي الطّيب من الخاصية أنّ الملائكة تحبّه، والشّياطين تنفر عنه، فالأرواح الطّيّبة تحبّ الأرواح الطّيّبة، والأرواح الخبيثة تحبّ الأرواح الخبيثة، فـ
{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَات}، [النّور من الآية: 26]، وهذا وإن كان في الرّجل والنّساء، فإنّ يتناول الأعمال والأقوال، والمطاعم والمشارب والملابس والرّوائح، إمّا بعموم لفظه، وإمّا بعموم معناه.

ص -317-      فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في أقضيته
وليس الغرض ذكر التّشريع العام وإن كانت أقضيته الخاصّة عامّة، وإنّما الغرض ذكر هديه في الحكومات الجزئية التّي فصل بها بين الخصوم، ونذكر معها قضايا من أحكامه الكلّيّة، فثبت عنه أنّه حبس في تهمةٍ، ففي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ رجلاً قتل عبده متعمّداً، فجلده النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ جلدة، ونفاه سنة، وأمره أن يعتق رقبة، ولم يقده به.
ولأحمد عن أنس عن سمرة مرفوعاً:
"مَن قتل عبده قتلناه"، فإن كان محفوظاً كان هذا إلى الإمام تعزيراً بحسب المصلحة.
وأمر رجلاً بملازمة غريمه، ذكره أبو داود.
وروى أبو عبيد أنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أمر بقتل القاتل، وصبر الصّابر. قال أبو عبيد: أي: بحبسه حتّى يموت، وذكر عبد الرّزّاق في (مصنّفه) عن عليّ: يحبس الممسك في السّجن حتّى يموت.
وحكم في العُرنيّين بقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، كما سملوا عين الرّاعي، وتركهم حتى ماتوا جوعاً وعطشاً، كما فعلوا بالرّاعي.
وفي (صحيح مسلم) أنّ رجلاً اعترف بقتل رجلٍ، فدفعه إلى أخيه،

ص -318-      فلَمّا ولّى قال: "إن قتله فهو مثله"، فرجع فقال: إنّما أخذته بأمرك، فقال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "أمّا تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك؟"، فقال: بلى. فخلّى سبيله. قيل: معناه: إذا قيد منه، سقط ما عليه، فصار هو والمستقيد بمنْزلةٍ واحدةٍ، وفيه التّعريض بالعفو، وقيل: إن كان لم يرد قتل أخيه فقتله به، فهو متعمّد مثله.
ويدلّ على هذا ما روى الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً: وفيه: والله يا رسول الله ما أدرتُ قتله. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"أمّا إنّه إن كان صادقاً ثم قتلته دخلت النّار"، فخلّى سبيله.
وحكم في يهودي رضَّ رأس جاريةٍ بين حجرين أن يرضَّ رأسه بين حجرين.
وفيه دليلٌ على قتل الرّجل بالمرأة، وأنّ الجاني يفعل به كما فعل، وأنّ القتل غيلةً لا يشترط فيه إذن الولي، وهذا مذهب مالك، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، ومَن قال: فعله لنقض العهد، لا يصحّ؛ لأنّه لا يرضّ رأسه.
وقضى في امرأةٍ رمت أخرى بحجرٍ، فقتلتها وما في بطنها بغرّةٍ عبد أو وليدة في الجنين، ودية المقتولة على عصبة القاتلة.
وفي البخاري أنّه قضى في جنين امرأة بغرّة عبدٍ أو وليدة، ثم إنّ التي قضى عليها توفيت، فقضى أنّ ميراثها لبنيها وزوجها، وأنّ العقل على عصبتها، وفي هذا أنّ شبه العمد لا قود فيه، وأنّ العاقلة تحمل الغرّة تبعاً للدّية، وأنّ الزّوج لا يدخل معهم، ولا أولادها، وحكم فيمَن تزوّج امرأة أبيه بقتله، وأخذ ماله، وهو مذهب أحمد، وهو الصّحيح، وقال الثّلاثة: حدّه حدّ الزّاني، وحكم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أولى وأحقّ، وحكم

ص -319-      فيمَن اطّلع في بيته رجلٌ بغير إذنه، فحذفه بحصاةٍ، أو عودٍ، ففقأ عينه أن لا شيء عليه.
وثبت عنه أنّه قضى بإهدار دمّ أم ولد الأعمى لما قتلها مولاها على سبّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وقتل جماعة من اليهود على سبّه وأذاه. قال أبو بكرٍ لأبي برزة لما أراد قتل مَن سبّه: ليست لأحدٍ بعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
وفي ذلك بضعة عشر حديثاً بين صحاح وحسان ومشاهير. قال مجاهد عن ابن عبّاس: أيّما مسلمٍ سبّ الله، أو سبّ أحداً من الأنبياء، فقد كذّب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وهي ردّة يستتاب صاحبها، فإن رجع وإلاّ قُتل.
وفي (الصّحيحين): أنّه عفى عمَن سمه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
وأنّه لم يقتل مَن سحره، وصحّ عن عمر وحفصة وجندب قتل السّاحر، وصحّ عنه في الأسرى أنّه قتل بعضاً وفادى بعضاً، ومنَّ على بعضٍ، واسترقَّ بعضاً، لكن لم يعرف أنّه استرقّ بالغاً، وهذه أحكام لم تنسخ، بل مخيّر فيها الإمام بحسب المصلحة، وحكم في اليهود بعدّة قضايا، فعاهدهم أوّل مقدمه، ثم حاربتهم قينقاع، فظفر بهم، ومَنَّ عليهم، ثم النّضير، فأجلاهم، ثم قريظة فقتلهم، ثم حارب أهل خيبر، فظفر بهم.

ص -320-      فصل: في حكمه بالغنائم
حكم ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أنّ للفارس ثلاثَة أسهمٍ، وللرّاجل سهم، وحكم أنّ السّلب للقاتل، وكان طلحة وسعيد بن زيد لم يشهدا بدراً فقسم لهما فقالا: وأجورنا؟، فقال:
"وأجوركما"، ولم يختلف أحد أنّ عثمان تخلّف على امرأته رقية، فأسهم له، فقال: وأجري؟ فقال: "وأجرك"، قال ابن حبيب: هذا خاص بالنَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وأجمعوا أنّه لا يقسم لغائبٍ.
قلت: قد قال أحمد ومالك وجماعة من السّلف والخلف: إنّ الإمام إذا بعث أحداً في مصالح الجيش أسهم له، ولم يخمّس السّلب، وجعله من أصل الغنيمة، وحكم به بشهادة واحدٍ، وكانت الملوك تهدي إليه، فيقبل هداياهم، ويقسهما بين أصحابه، وأهدى له أبو سفيان هدية، فقبل.
وذكر أبو عبيد عنه أنّه ردّ هدية عامر بن مالك، وقال:
"إنا لا نقبل هدية مشركٍ"، وقال: إنّما قبل هدية أبي سفيان لأنّها زمن الهدنة، وكذلك المقوقس، لأنّه أكرم حاطباً، ولم يؤيسه من إسلامه، ولم يقبل هدية مشركٍ محاربٍ له قط. قال سحنون: إذا أهدى أمير الرّوم هدية إلى الإمام فلا بأس، وهي له خاصّة. وقال الأوزاعي: بين المسلمين، ويكافئه من بيت المال. وقال أحمد: حكمها حكم الغنيمة.

ص -321-      فصل: في حِكَمه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في قسمة الأموال
وهي ثلاثة: الزّكاة والغنيمة والفيء.
فأمّا الزّكاة والغنائم، فقد تقدّم حكمها، وبيّنا أنّه لم يكن يستوعب الأصناف الثّمانية، وأنّه ربّما وضعها في واحدٍ.
وأمّا الفيء، فقسمه يوم حنين في المؤلّفة وبعث إليه عليّ من اليمن بذهيبة، فقسمها بين أربعة نفرٍ.
وفي (السّنن) أنّه وضع سهم ذوي القربى في بني هاشم بني المطلب، وترك بني نوفل وعبد شمس، وقال:
"إنّا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنّما نحن وهم شيء واحد". وشبّك بين أصابعه، ولم يقسمه على السّواء كالميراث، بل يصرفه فيهم بحسب المصلحة فيزوّج منه عزبهم، ويقضي منه عن غارمهم، ويعطي منه فقيرهم، والذي يدلّ عليه هديُه أنّه يجعل مصارف الخمس كمصارف الزّكاة لا يخرج بها عن الأصناف المذكورة، لا أنّه يقسمه بينهم كالميراث، ومَن تأمّل سيرته لم يشكّ في ذلك.
واختلف في الفيء هل كان ملكاً له يتصرّف فيه كيف يشاء أو لم يكن.
والذي تدلّ عليه سنته أنّه يتصّرف فيه بالأمر، لا تصرّف المالك

ص -322-      بإرادته، فإنّ الله سبحانه خيّره بين أن يكون عبداً رسولاً، وبين أن يكون مَلِكاً رسولاً، فاختار العبودية.
والفرق أنّ العبد لا يتصرّف إلاّ بالأمر، والملك الرّسول له أن يعطي منَ يشاء، ويمنع مَن يشاء، كما قال تعالى لسليمان:
{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، [صّ: 39]، أي: أعط مَن شئت، وامنع مَن شئت، وهذه المرتبة التي عُرضت على نبيّنا، فرغب عنها، وقال: "والله إنّي لا أعطي أحداً، ولا أمنع أحداً إنّما أنا قاسم أضع حيث أُمرت"، ولهذا كان ينفقُ منه على نفسه وأهله نفقة سنتهم، ويجعل الباقي في الكراع والسّلاح في سبيل الله ـ عزّ وجلّ ـ، وهذا هو الذي وقع فيه النّزاع إلى اليوم.
وأمّا الزّكاة والغنائم والمواريث، لم يشكل على ولاة الأمر بعده ما أشكل عليهم من الفيء ولولا الإشكال ما طلبت فاطمة ميراثها، وقد قال تعالى:
{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} ـ إلى قوله ـ: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، [الحشر الآيات:7-9]، فأخبر سبحانه أنّ ما أفاء الله على رسوله بجملته لِمَن ذكر في هؤلاء الآيات، ولم يخصّ خمسه بالمذكورين، بل عمّ وأطلق واستوعب، فيصرف على المصارف الخاصّة، وهم أهل الخمس، ثم على المصارف العامّة، وهم المهاجرون والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة.
فالذي عمل به هو وخلفاؤه هو المراد من الآية، ولهذا قال عمر: ما أحد أحقّ بهذا المال من أحدٍ، وما أنا أحقّ به من أحدٍ، والله ما من أحدٍ من المسلمين إلاّ وله فيه نصيب إلاّ عبد مملوك، ولكنا على منازلنا

ص -323-      من كتاب الله، وقسمنا من رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فالرّجل وبلاؤه في الإسلام، والرّجل وقدمه في الإسلام، والرّجل وغناؤه في الإسلام، والرّجل وحاجته، ووالله لئن بقيت لهم ليأتين الرّاعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال، وهو يرعى مكانه.
فهؤلاء المسمّون في آية الفيء هم المسمّون في آية الخمس ولم يدخل المهاجرون والأنصار وأتباعهم في آية الخمس؛ لأنّهم المستحقّون بجملة الفيء، وأهل الخمس لهم استحقاقان: خاصّ من الخمس، وعامّ من الفيء، فإنّهم داخلون في النّصيبين وكما أنّ قسمة الفيء بين مَن جعل له، ليس قسمة الأملاك المطلقة، بل بحسب الحاجة والنّفع فكذلك الخمس بين أهله والتّنصيص على الأصناف الخمسة يفيد إدخالهم، وأنّهم لا يخرجون من أهل الفيء، وأنّ الخمس لا يعدوهم إلى غيرهم، كما أنّ الفيء في آية الحشر للمذكورين فيها لا يتعدّاهم إلى غيرهم، ولهذا أفتى أئمة الإسلام كمالك وأحمد وغيرهما أنّ الرّافضة لا حقّ لهم في الفيء.
والله سبحانه جعل أهل الخمس هم أهل الفيء وعيّنهم اهتماماً بشأنهم، وتقديماً لهم، ولما كانت الغنائم خاصّة لأهلها نصّ على خمسها لأهل الخمس، ولما كان الفيء لا يختصّ بأحد جعله لهم، وللمهاجرين والأنصار وتابعيهم.

ص -324-      فصل: في حكمه في رسل العدوّ أن لا يُقتلوا ولا يُحبسوا وفي النّبذ إلى مَن عاهده على سواءٍ إذا خاف منه النّقض
ثبت أنّه قال لرسولي مسيلمة لما قالا: إنّه رسول الله:
"لولا أنّ الرّسل لا تُقتل لقتلتكما".
وثبت عنه أنّه قال: لأبي رافعٍ، وقد رأسلته قريش إليه وأراد أ لا يرجع، فقال:
"إنّي لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ولكن ارجع، فإن كان في نفسك الذي فيها الآن فارجع".
وثبت أنّه ردّ إليهم أبا جندل، وجاءت سُبَيَعَةُ الأسلمية، فخرج زوجها في طلبها، فأنزل الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ...}، [الممتحنة من الآية: 10]، فاستحلفها رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أنّه لم يخرجها إلاّ الرّغبة في الإسلام، وأنّها لم تخرج لحدثٍ أحدثته في قومها، ولا بغضاً لزوجها، فحلفت فاطعي زوجها مهرها، ولم يردّها عليه.
وقال تعالى:
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}، [الأنفال: 58].

ص -325-      وقال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "مَن كان بينه وبين قومٍ عهدٌ، فلا يحلنّ عقداً ولا يشدنّه، حتى يمضي أمده، أو ينبذ إليهم على سواء". صحّحه التّرمذي.
وثبت عنه أنّه قال:
"المسلمون تتكافؤ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم".
وفي حديثٍ آخر: "يجير على المسلمين أدناهم، ويردّ عليهم أقصاهم".
فهذه أربع قضايا ذكر منها أنّ:
"المسلمين يد على مَن سواهم"، وهذا يمنع تولية الكفار شيئاً من الولايات.
وقوله:
"يردّ عليهم أقاصاهم"، يوجب أنّ السّرّية إذا غنمت بقوّة جيش كانت الغنيمة بينهم، وأنّ ما صار في بيت المال من الفيء لقاصيهم ودانيهم وإن كان سبب أخذه دانيهم.
وأخذ الجزية من نصارى نجران وأيلة من العرب ومن أهل دومة، وأكثرهم عرب، وأخذها من أهل الكتاب باليمن وهم يهود، وأخذها من المجوس، ولم يأخذها من مشركي العرب، قال أحمد والشّافعي: لا تؤخذ إلاّ من أهل الكتاب والمجوس.
وقالت طائفة: تؤخذ من الأمم كلّهم أهل الكتاب بالقرآن، والمجوس بالسّنة، ومَن عداهم يلحق بهم؛ لأنّ المجوس أهل شركٍ لا كتاب لهم، وإنّما لم يأخذها من مشركي العرب؛ لأنّهم أسلموا كلّهم قبل نزولها، ولا نسلّم أنّ كُفرَ عبدة الأوثان أغلظ من كفر المجوس، بل كفر المجوس

ص -326-      أغلظ، فإنّ عبدة الأوثان مقرون بتوحيد الرّبوبية، وأنّهم إنّما يعبدون آلهتم لتقربّهم إلى الله، ولم يكونوا يقولون بصانعين ولا يستحلّون نكاح الأمّهات والبنات والأخوات، وكانوا على بقايا من دين إبراهيم، وكان له صحف وشريعة، والمجوس لا يعرف عنهم التّمسّك بشيءٍ من شرائع الأنبياء.
وكتب ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلى أهل هجر والملوك، يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية، ولم يفرّق بين عربي وغيره.
وأمر معاذا أن يأخذ من كلّ حالمٍ ديناراً أو قيمته معافرياً، وهي ثياب باليمن، وعمر جعلها أربعة دنانير، فرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ علم ضعف أهل اليمن، وعمر علم غنى أهل الشّام، وثبت عنه أنّه استباح غزو قريش من غير نبذ عهد إليهم لما عدت حلفاؤهم على حلفائه، فغدروا بهم، فرضيت قريش، وألحق ردأهم في ذلك بمباشرهم.

ص -327-      فصل: في أحكامه في النّكاح وتوابعه
ثبت عنه أنّه ردّ نكاح ثيب زوّجها أبوها وهي كارهة.
وفي (السّنن) عنه أنّه خير بكراً زوّجها أبوها وهي كارهة.
وثبت عنه:
"لا تنكح البكر حتى تستأذن، وإذنها أن تسكت".
وقضى بأن اليتيمة تستأمر،
"ولا يتمّ بعد احتلام"، فدلّ على جواز نكاح اليتيمة، وعليه يدلّ القرآن.
وفي (السّنن) عنه: "لا نكاح إلاّ بوليٍّ"، وفيها أيضا:
"لا تزوّج المرأة نفسها، فإنّ الزّانية هي التي تزوج نفسها"، وحكم أنّ المرأة إذا زوجّها وليّان، فهي للأوّل.
وثبت عنه أنّه قضى في رجلٍ تزوّج امرأةً، ولم يفرض لها صداقاً، ولم يدخل بها حتى مات أنّ لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط ولها الميراث، وعليها العدّة أربعة أشهر وعشراً.
وفي (التّرمذي) أنّه قال لرجلٍ
: "إذاً أزوّجك فلانةً"، قال: نعم. وقال للمرأة: "أترضين أن أزوّجكِ فلاناً؟"، قالت: نعم. فزوّج أحدهما صاحبه، فدخل بها، ولم يفرض لها صداقاً، ولم يعطها شيئاً، فلما كان عند موته عوّضها سهما له بخيبر، فتضمنت هذه الأحكام جواز النّكاح

ص -328-      من غير تسمية الصّداق، وجواز الدّخول قبل التّسمية، واستقرار مهر المثل بالموت، وإن لم يدخل بها، ووجوب عدّة الوفاة، وإن لم يدخل، وبه أخذ ابن مسعود، وأهل العراق.
وتضمنت جواز تولّي طرفي العقد، ويكفي أن يقول: زوجّت فلاناً بفلانةٍ، مقتصراً على ذلك.
وأمر مَن أسلم وتحته أكثرمن أربعٍ أن يختار منهن أربعاً، وأمر مَن أسلم وتحته أختان أن يختار إحداهما فتضمن صحّة نكاح الكفّار، وأنّه يختار مَن يشاء من السّوابق واللّواحق وهو قول الجمهور، وذكر التّرمذي وحسّنه عنه:
"إذا تزوّج العبدُ بغير إذن مواليه فهو عاهر". انتهى.
والله أعلم وأحكم، والحمد لله ربّ العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Share to:

إرسال تعليق