الأربعاء، 4 مارس 2015

مختصر زاد المعاد لابن قيم الجوزية الجزء الأول

عنوان الكتاب:
مختصر زاد المعاد لابن قيم الجوزية (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الخامس)
تأليف:
محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي
ص -7-           بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وبه الثّقة والعصمة
الحمد لله ربّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله.
أمّا بعد؛ فإنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو المتفرّد بالخلق والاختيار.
قال الله تعالى:
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، [ القصص الآية: 68]، والمراد بالاختيار: هو الاجْتباء والاصطفاء.
وقوله:
{مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}، [القصص، من الآية: 68] أي: ليس هذا الاختيار إليهم.
فكما أنّه المتفرّد بالخلق، فهو المتفرّد بالاختيار منه، فإنّه أعلم بمواقع اختياره، كما قال تعالى:
{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، [الأنعام، من الآية: 124].
وكما قال تعالى:
{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}، [الزّخرف، من الآيتين: 31-32].
فأنكر سبحانهُ عليهم تخيرهم، وأخبر أنّ ذلك إلى الذي قسم بينهم معيشتهم، ورفع بعضهم فوق بضع درجات.
وقوله:
{سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، [القصص، من الآية: 68]. نزّه نفسه عمّا اقتضاه شركهم من اقتراحهم واختيارهم، ولم يكن شركهم متضمناً لإثبات خالقٍ سواه حتى ينَزَّه نفسه عنه.
والآية مذكورة بعد قوله:
{فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}، [القصص الآية: 67].

ص -11-         وكما أنّه خلقهم اختار منهم هؤلاء، وهذا الاختيار راجع إلى حكمته سبحانه، وعلمه بِمَن هو أهل له، لا إلى اختيار هؤلاء واقتراحهم.
وهذا الاختيار في هذا العالم من أعظم آيات ربوبيته وأكبر شواهد وحدانيته، وصفات كماله، وصدق رُسله.
ومِنْ هذا اختيارُه من الملائكة المصطَفِين منهم، كما قال النَّبِيّ ـ صلَى الله عليه وسلّم ـ:
"اللهم ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السّموات والأرض، عالم الغيب والشّهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اخْتُلِفَ فيه من الحقِّ بإذنك، إنّك تهدي مَن تشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ"1.
وكذلك اختياره ـ سبحانه ـ الأنبياء من ولد آدم، واختياره الرّسل منهم، واختياره أولي العزم منهم، وهم الخمسة المذكورون في سورتي الأحزاب والشّورى2، واختياره منهم الخليلين: إبراهيم ومحمّداً ـ صلّى الله عليهما وسلّم وعليهم أجمعين ـ.
ومن هذا اختياره ـ سبحانه ـ ولد إسماعيل من أجناس بني آدم، ثم اختار منهم بني كنانة من خزيمة، ثم اختار من ولد كنانة قريشاً، ثم اختار من قريش بني هاشم، ثم اختار من بني هاشم سيّد ولد آدم محمّداً ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، واختار أمته على سائر الأمم.
كما في (المسند) عن معاوية بن حيدة مرفوعا:
"أنتم توفون3 سبعين أمّة، أنتم خيرها وأكرمها على الله".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في صحيحه (770)، في صلاة المسافرين من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ وأبو عوانة.
2 إشارة لقوله تعالى
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً}، [الأحزاب، الآية:7]، و{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ}، [الشّورى، من الآية: 13].
3 في مسند الإمام أحمد 5/5 طبع المكتب الإسلامي، وفيتم. وأمّا لفظة: "توفون" فإنّها في رواية أخرى.

ص -12-         وفي (مسند البراز) من حديث أبي الدّرداء مرفوعاً: "إنّ الله ـ سبحانه ـ قال لعيسى بن مريم:
إنّي باعثٌ بعدك أمّةً إن أصابهم ما يحبّون حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم. قال: يا ربّ! كيف هذا ولا حلم ولا علم؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي".

ص -10-         فصل: اختصّ الله نفسه بالطّيِّب
والمقصود أنّ الله ـ سبحانه ـ اختار من كلّ جنس أطيبه، فاختصّه لنفسه.
فإنّه ـ سبحانه وتعالى ـ طيِّب لا يحبّ إلاّ الطّيِّب، ولا يقبل من القول والعمل والصّدقة إلاّ الطّيِّب.
وبهذا يعلم عنوان سعادة العبد وشقاوته، فإنّ الطّيِّب لا يناسبه إلاّ الطّيِّب ولا يرضى إلاّ به، ولا يسكن إلاّ إليه، ولا يطمئن قلبه إلاّ به.
فله من الكلامِ الكلامُ الطّيِّب الذي لا يصعد إلى الله إلاّ هو، وهو أشدّ نفرة عن الفحش في المقال والكذب والغيبة والنّميمة والبهت وقول الزّور وكلّ كلامٍ خبيثٍ.
وكذلك لا يألف من الأعمال إلاّ أطيبها، وهي التي أجمعت على حسنها الفطر السّليمة مع الشّرائع النّبوّية، وزكتها العقول الصّحيحة، مثل: أن يعبد الله وحد لا شريك له، ويؤثر مرضاته على هواه، ويتحبّب إليه بجهده، ويحسن إلى خلقه ما استطاع، فيفعل بهم ما يحبّ أن يفعلوه به.
وله من الأخلاق أطيبها، كالحلم والوقار، والصّبر والرّحمة،

ص -11-         والوفاء والصّدق، وسلامة الصّدر، والتّواضع، وصيانة الوجه عن بذله وتذلّله لغير الله.
وكذلك لا يختار من المطاعم إلاّ أطيبها، وهو الحلال الهنيء الذي يُغذي البدن والرّوح أحسن تغذية مع سلامة العبد من تبعته.
وكذلك لا يختار من المناكح إلاّ أطيبها، ومن الأصحاب إلاّ الطّيِّبين.
فهذا مِمَن قال الله فيهم:
{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، [النحل الآية: 32].
ومن الذين تقول لهم خزنة الجنة:
{سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}، [الزمر من الآية: 73].
وهذه الفاء تقتضي السّببية، أي: بسبب طيبكم فادخلوها.
وقال تعالى:
{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}، [النور الآية: 26].
فَفُسِّرَت بأنّ الكلمات الخبيثات للخبيثين، والكلمات الطّيّبات للطّيّبين.
وفُسِّرتْ بالنّساء الطّيّبات للرجال الطّيّبين وبالعكس، وهي تعمّ ذلك وغيره.
والله ـ سبحانه ـ جعل الطّيّب بحذافيره في الجنة، وجعل الخبيث بحذافيره في النّار، فدارٌ أخلصت للطّيب، ودارٌ أخلصت للخبيث، ودارٌ مزج فيها الخبيث بالطّيب، وهي هذه الدّار، فإذا كان يوم المعاد، ميّز الله الخبيث من الطّيّب، فعاد الأمر إلى دارين فقط.

ص -12-         والمقصود أنّ الله جعل للشّقاوة والسّعادة عنواناً يعرفان به، وقد يكون في الرّجل مادتان، فأيّهما غلبت عليه كان من أهلها، فإن أراد الله بعبده خيراً طهّره قبل الموافاة فلا يحتاج إلى تطهيره بالنّار. وحكمته تعالى تأبى أن يجاوره العبد في داره بخبائثه، فيدخله النّار طهرةً له، وإقامة هذا النّوع فيها على حسب سرعة زوال الخبائث وبطئها.
ولما كان المشرك خبيث الذّات، لم تطهّره النّار، كالكلب إذا دخل البحر.
ولما كان المؤمن الطّيّب بريئاً من الخبائث، كانت النّار حراماً عليه، إذ ليس فيه ما يقتضي تطهيره، فسبحان مَن بهرت حكمته العقول.

ص -13-         فصل: في وجوب معرفة هدي الرّسول
ومن ها هنا يعلم اضطرار العباد فوق كلّ ضرورة إلى معرفة الرّسول وما جاء به، فإنّه لا سبيل إلى الفلاح إلاّ على يديه، ولا إلى معرفة الطّيّب من الخبيث على التّفصيل إلاّ من جهته، فأي حاجةٍ فرضت وضرورة عرضت، فضرورة العبد إلى الرّسول فوقها بكثيرٍ.
وما ظنّك بِمَن إن غاب عنك هديه، وما جاء به طرفة عين فسد قلبك، ولكن لا يحسّ بهذا إلاّ قلب حي، وما لجرح بميّت إيلامُ1.
وإذا كانت السّعادة معلّقة بهديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فيجب على كلّ مَن أَحَبَّ نجاة نفسه أن يعرفَ من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن خطّة الجاهلين.
والنّاسُ في هذا بين مستقلٍّ ومستكثرٍ ومحرومٍ، والفضل بيد الله يؤتيه مَن يشاءُ والله ذو الفضل العظيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عجز بيتٍ للْمُتَنَبِّي، وصدره: من يهن يسهل الهوان عليه

ص -14-         فصل:في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الوضوء
كان ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يتوضّأ لكلّ صلاةٍ في غالب أحيانه، وربّما صَلّى الصّلوات بوضوءٍ واحدٍ.
وكان يتوضّأ بالمد تارة وبثلثيه تارة، وبأزيد منه تارة1. وكان من أيسر النّاس صبّاً لماء الوضوء، ويحذر أمته من الإسراف فيه، وصحّ عنه أنّه توضّأ مرّة مرّة، ومرّتين مرّتين، وثلاثاً ثلاثاً.
وفي بعض الأعضاء مرّتين، وبعضها ثلاثاً، وكان يتمضمض ويستنشق تارة بغَرفةٍ، وتارة بغَرفتين، وتارة بثلاثٍ، وكان يصل بين المضمضة والاستنشاق. وكان يستنشق باليمنى وينتثرُ باليسرى، وكان يمسح رأسه كلّه تارةً، وتارةً يقبل بيديه ويدبر بهما. ولم يصحّ عنه أنّه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة، ولكن كان إذا مسح على ناصيته كمل على العمامة، ولم يتوضّأ إلاّ تمضمض واستنشق، ولم يحفظ عنه أنّه أخل بهما مرّة واحدة. وكذلك الوضوء مرتّباً متوالياً، ولم يخلّ به مرة واحدة، وكان يغسل رجليه إذا لم يكونا في خفّين ولا جوربين، ويمسح أُذنه معرأسه ظاهرهما وباطنهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المد: إناء يتسع لملء الكفين من الحبوب.

ص -15-         وكلّ حديثٍ في أذكار الوضوء التي تقال عليه فكذب، غير التّسمية في أوّله، وقوله: "أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التّوابّين واجعلني من الْمُتطهِّرين". في آخره.
وحديث آخر في سنن النّسائي:
"سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفرك وأتوب إليك".
ولم يكن يقول في أوّله: نويت. ولا أحد من الصّحابة البتّة. ولم يتجاوز الثّلاث قط.
وكذلك لم يثبت عنه أنّه تجاوز المرفقين والكعبين.
ولم يكن يعتاد تنشيف أعضائه.
وكان يخلّل لحيته أحياناً ولم يواظب على ذلك، وكذلك تخليل الأصابع ولم يكن يحافظ عليه.
وأما تحريك الخاتم فروي فيه حديث ضعيف.
وصحّ عنه أنّه مسح في الحضر والسّفر، ووقّت للمقيم يوماً وليلةً، وللمسافر ثلاثة أيام وليالهن، وكان يمسح ظاهر الخفين ومسح على الجوربين، ومسح على العمامة مقتصراً عليها ومع النّاصية، ولكن يحتمل أن يكون خاصاً بحال الحاجة، ويحتمل العموم وهو أظهر.
ولم يكن يتكلّف ضد حاله التي عليها قدماه، بل إن كانتا في الْخُفّين مسح، وإن كانتا مكشوفتين غسل.
وكان يتيمّم بضربةٍ واحدةٍ للوجه والكفّين، ويتيمّم بالأرض التي يصلّي عليها تراباً كانت أو سبخةً أو رملاً. وصحّ عنه أنّه قال:
"حيثما أدركت رجلاً من أُمَّتي الصّلاةُ فعنده مسجده وطهورُه".

ص -16-         ولَمّا سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك قطعوا تلك الرّمال وماؤهم في غاية القلّة، ولم يُرْوَ عنه أنّه حمل معه التّراب، ولا أمر به، ولا فعله أحد من أصحابه. ومن تدبر هذا قطع بأنّه كان يتيمّم بالرّمل.
ولم يصحّ عنه التّيمّم لكلّ صلاةٍ ولا أمر به، بل أطلق التّيمّم وجعله قائماً مقام الوضوء.

ص -17-         فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الصّلاة
كان ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذا قام إلى الصّلاة قال: الله أكبر، ولم يقل شيئاً قبلها، ولا تلفّظ بالنّية، ولا استحبّه أحد من التّابعين ولا الأئمة الأربعة.
وكان دأبه في إحرامه لفظة: (الله أكبر) لا غيرها. وكان يرفع يديه معها ممدودتي الأصابع مستقبلاً بهما القبلة إلى فروع أُذنيه، ورويَ إلى منكبَيْه، ثم يضع اليمنى على ظهر اليسرى [فوق الرّسغ والسّاعد، ولم يصحّ عنه موضع وضعهما، لكن ذكر أبو داود عن عليّ: "من السّنة وضع الكفّ على الكفّ في الصّلاة تحت السّرة"]1.
وكان يستفح تارةً بـ:
"اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثّلج والبرد، اللهم نقِّني من الذّنوب والخطايا كما يُنَقَّى الثّوب الأبيض من الدَّنَس".
وتارةً يقول:
"{وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، [بالأنعام، من الآية: 79] {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}، [الأنعام الآيتان: 162-163].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من المؤلِّف على (زاد المعاد) وهذا الحديث ضعيف. وانظر: نيل الأوطار 2/207-211.

ص -18-         "اللهم أنت الملك لا إله إلاّ أنت، أنت ربّي وأنا عبدك ظلمت نفسي، واعترفتُ بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، إنّه لا يغفر الذّنوب إلاّ أنتَ، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلاّ أنتَ، واصرف عني سيّئها لا يصرف عني سيّئها إلا أنتَ، لبّيك وسعديك، والخير في يديك، والشّر ليس إليك، أنا بك وإلينا، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك".
ولكن المحفوظ أنّه في قيام اللّيل.
وتارة يقول:
"اللهم ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل..." إلى آخره. وقد تقدّم.
وتارة يقول:
"اللهم لك الحمد، أنت نور السّموات والأرض ومَن فيهن" إلى آخره.
ثم ذكر1 نوعين آخرين،ثم قال:فكلّ هذه الأنواع قد صحّت عنه.
وروي عنه أنّه كان يستفتح بـ:
"سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك".
وذكره أهل (السّنن) والذي قبله أثبت منه. ولكن صحّ عن عمر أنّه يستفتح به في مقام النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ويجهر به، يعلّمه النّاس.
قال أحمد: أذهب إلى ما روي عن عمر، ولو أنّ رجلاً استفتح ببعض ما روي عن النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كان حسناً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ابن القيم في الأصل 1/105.

ص -19-         وكان يقول بعد ذلك: "أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم"، ثم يقرأ الفاتحة.
وكان يجهر بـ:
(بسم الله الرّحمن الرّحيم) تارةً، ويخفيها أكثر.
وكانت قراءته مداً، يقف عند كلّ آيةٍ ويمد بها صوته. فإذا فرغ من قراءة الفاتحة قال: "آمين". فإن كان يجهر بالقراءة رفع بها صوته، وقالها مَنْ خلفه.
وكان له سكتتان: سكتة بين التّكبيرة والقراءة، واخلتف في الثّانية، فروي بعد الفاتحة، وروي قبل الرّكوع.
وقيل: بل سكتتان غير الأولى، والظّاهر أنّهما اثنتان فقط. وأمّا الثّالثة فلطيفة، لأجل تراد النّفس، فَمَن لم يذكرها، فلقصرها.
فإذا فرغ من قراءة الفاتحة أخذ في سورة غيرها، وكان يطيلها تارةً ويخفّفها لعارضٍ من سفرٍ أو غيره، ويتوسّط فيها غالباً.
وكان يقرأ في الفجر بنحو ستين آية إلى مائة، وصلاّها بسورة (ق)، وصلاّها بسورة (الرّوم)، وصلاّها بـ
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}، [التّكوير الآية:1]، في الرّكعتين كلتيهما وصلاّها بسورة {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا}، [الزّلزلة الآية:1]، وصلاّها بـ (الْمُعوّذتين)، وكان في السّفر، وصلاّها: فاستفتح سورة (المؤمنون) حتى إذا بلغ ذكر موسى وهارون في الرّكعة الأولى، أخذته سعلة فركع.
وكان يصلّيها يوم الجمعة بـ: (آلم السّجدة) و{هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ}، [الإنسان من الآية: 1]، لما اشتملتا عليه من المبدأ والمعاد، وخلق آدم، ودخول الجنة والنّار، وذكر ما كان وما يكون في يوم الجمعة، كما كان يقرأ في المجامع العظام، كالأعياد والجمعة بسورة (ق)، و(اقتربت) و(سبّح)، و(الغاشية).

ص -20-         فصل:
وأمّا الظّهر، فكان يطيل قراءتها أحياناً، حتى قال أبو سعيد: كانت صلاة الظّهر تقام، فيذهب الذّاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يأتي أهله فيتوضّأ، ويدرك النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الرّكعة الأولى مما يطيلها. رواه مسلم، وكان يقرأ فيها تارةً بقدر
(آلم تنْزيل) السّجدة، وتارةً بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، [الأعلى الآية:1]، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا}، [الشمس الآية:4]، {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}، [البروج الآية:1].
وأمّا العصر، فعلى النّصف من قراءة الظّهر إذا طالت، وبقدرها إذا قصرت.
وأمّا المغرب، فكان هديه فيها خلاف عمل النّاس اليوم، فإنّه صلاّها مرّة بـ: (الأعراف) في الرّكعتين، ومرّة بـ: (الطّور)، ومرّة بـ: (المرسلات).
وأمّا المداومة على قراءة قصار المفصّل فيها، فهو من فعل مروان، ولهذا أنكر عليه زيد بن ثابت.
قال ابن عبد البر: "روي عنه أنّه قرأ في المغرب بـ: (آلَمص) وبـ: (الصّافات)، وبـ: (الدّخان)، و{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، [الأعلى الآية:1]، وبـ: (التّين)، وبـ: (المعوّذتين)، وبـ: (المرسلات)، وهو مشهور وأنّه كان يقرأ فيها بقصار المفصّل، وكلّها آثار صحاح مشهورة".

ص -21-         وأمّا عشاء الآخرة، فقرأ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فيها بـ: (التّين)، ووقّت لمعاذ فيها بـ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، [الشمس الآي:1]، وبـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، [الأعلى الآية:1]، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا}، [الشمس الآية:4]، ونحوها.
ولهذا أنكر عليه قراءته فيها بـ: (البقرة)، وقال له: "أفتّان أنت يا معاذ؟"، فتعلّق النّقارون بهذه الكلمة، ولم يلتفتوا إلى ما قبلها ولا ما بعدها.
وأما الجمعة، فكان يقرأ فيها بسورتي (الجمعة)، والمنافقون)، وسورتي: (سبّح) و(الغاشية).
وأمّا الاقتصار على قراءة أواخر السّورتين فلم يفعله قط.
وأمّا الأعياد، فتارة يقرأ بـ: (ق)، و(اقتربت)، كاملتين، وتارةً بـ: (سبّح) و(الغاشية).
وهذا الهدي الذي استمرّ عليه إلى أن لقي الله ـ عزّ وجلّ ـ.
ولهذا أخذ به الخلفاء، فقرأ أبو بكر في الفجر سورة (البقرة) حتّى سلم قريباً من طلوع الشّمس.
وكان بعده عمر يقرأ فيها بـ: (يوسف) و(النّحل)، و(هود)، و(بني إسرائيل)، ونحوها.
وأمّا قوله:
"أيّكم أمّ بالنّاس فليخفّف"، فالتّخفيف أمر نسبي يُرجع فيه إلى ما فعله النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، لا إلى شهوات المأمومين.
وهديه الذي كان يواظب عليه، هو الحاكم في كلّ ما تنازع فيه المتنازعون.

 

ص -22-         وكان لا يعين سورة بعينها لا يقرأ إلاّ بها، إلاّ في الجمعة والعيدين.
وكان من هديه قراءة السّورة، وربّما قرأها في الرّكعتين، وأمّا قراءة أواخر السّور وأوساطها، فلم يحفظ عنه.
وأمّا قراءة السّورتين في الرّكعة، فكان يفعله في النّافلة.
وأمّا قراءة سورةٍ واحدةٍ في ركعتين معاً، فقلّما كان يفعله.
وكان يطيل الرّكعة الأولى على الثّانية من كلّ صلاةٍ، وربّما كان يطيلها، حتى لا يسمع وقع قدم.
فإذا فرغ من القراءة، رفع يديه وكبّر راكعاً، ووضع كفّيه على ركبتيه كالقابض عليهما، ووتّر يديه، فنحاهما عن جنبيه، وبسط ظهره ومدّه، واعتدل فلم ينصب رأسه ولم يخفضه، بل حيال ظهره.
وكان يقول:
"سبحان ربّي العظيم"، وتارةً يقول مع ذلك، أو مقتصراً عليه: "سبحانك اللهم ربّنا وبحمدك، اللهم اغفر لي".
وكان ركوعه المعتاد مقدار عشر تسبيحات، وسجوده كذلك، وتارةً يجعل الرّكوع والسّجود بقدر القيام، ولكن كان يفعله أحياناً في صلاة اللّيل وحده.
فهديه الغالب تعديل الصّلاة وتناسبها. وكان يقول أيضاً في ركوعه:
"سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والرّوح". وتارةً يقول: "اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي، وبصري ومخي، وعظمي، وعصبي".
وهذا إنّما حفظ عنه في قيام اللّيل.
ثم يرفع رأسه

ص -23-         قائلاً: "سمع الله لِمَن حمده". ويرفع يديه، وكان دائماً يقيم صلبه، إذا رفع من الرّكوع، وبين السّجدتين، ويقول: "لا تجزئ صلاة لا يقيم الرّجل فيها صلبه في الرّكوع والسّجود".
وكان إذا استوى قال:
"ربّنا ولك الحمد"، وربّما قال: "ربنا لك الحمد"، وربّما قال: "اللّهمّ ربّنا لك الحمد".
وأمّا الجمع بين اللهم والواو فلم يصحّ1.
وكان من هديه إطالة هذا الرّكن بقدر الرّكوع، فصحّ عنه أنّه كان يقول فيه:
"اللّهمّ ربّنا لك الحمد ملء السّموات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثّناء والمجد، أحقّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ".وصحّ عنه أنّه كان يقول فيه: "اللّهمّ! غسلني من خطايا بالماء والثّلج والبرد، ونقّني من الذّنوب والخطايا كما يُنّقَّى الثّوب الأبيض من الدَّنَس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب".
وصحّ عنه أنّه كرّر فيه قوله: "لربي الحمد، لربي الحمد". حتى كان بقدر ركوعه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بل قد صحّ ذلك وثبت في (مسند أحمد) و(صحيح البخاري) 2/234 في صفة الصّلاة: باب ما يقول الإمام ومَن خلفه إذا رفع رأسه من الرّكوع. من حديث أبي هريرة. وثبت كلك عن ابن عمر، وأبي سعيد، وأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنهم ـ.

ص -24-         وذكر مسلم عن أنس: كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذا قال: "سمع الله لِمَن حمده" قام حتى نقول: قد أوهم، ثم يسجد ويقعد بين السّجدتين حتى نقول: قد أوهم.
فهذا هديه المعلوم: وتقصير هذين الرّكنين مِمّا تصرف فيه أمراء بني أُمّيّة حتى ظنّ أنّه من السّنة.

ص -25-         فصل:
ثم كان يكبّر ويخرّ ساجداً، ولا يرفع يديه.
وكان يضع ركبتيه ثم يديه بعدهما، ثم جبهته وأنفه. هذا هو الصّحيح فكان أوّل ما يقع منه على الأرض الأقرب إليها فالأقرب، وأوّل ما يرتفع الأعلى فالأعلى، فإذا رفع، رفع رأسه أوّل، ثم يديه، ثم ركبتيه، وهكذا عكس فعل البعير. وهو نهى عن التّشبّه بالحيوانات في الصّلاة، فنهى عن بروك كبروك البعير، والتفات كالتفات الثّعلب، وافتراش كافتراش السّبع، وإقعاء كإقعاء الكلب، ونقر كنقر الغُراب، ورفع الأيدي وقت السّلام كأذناب الخيل الشّمس.
وكان يسجد على جبهته وأنفه دون كور العمامة، ولم يثبت عن السّجود عليه، وكان يسجد على الأرض كثيراً، وعلى الماء والطّين، وعلى الخمرة المتّخذة من خوص النّخل، وعلى الحصير المتّخذ منه، وعلى الفروة المدبوغة.
وكان إذا سجد مكّن جبهته وأنفه من الأرض، ونحى يديه عن جنبيه، وجافاهما حتى يُرى بياض إبطيه، وكان يضع يديه حذو منكبيه وأذنيه، ويعتدل في سجوده، ويستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، ويبسط كفيه وأصابعه، ولا يفرّج بينهما، ولا يقبضهما
.
وكان يقول: "سبحان ربّي الأعلى"،
وأمر به.
ويقول:
"سبحانك اللهم ربّنا وبحمدك، اللهم اغفر لي".
ويقول:
"سُبّوح قدُّوس ربّض

 

ص -26-         الملائكة والرّوح".
وكان يقول:
"اللهم لك سجدت، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره، وشقّ سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين".
وكان يقول:
"اللهم اغفر لي ذنبي كلّه دقّه وجلّه، وأوّلهُ وآخره، وعلانيته وسرَّه".
وكان يقول:
"اللهم اغفر لي خطاياي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدّي وهزلي، وخطاياي وعمدي وكلّ ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدّمتُ وما أخّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ أنت إلهي لا إله إلاّ أنتَ".
وأمر بالاجتهاد في الدّعاء في السّجود. وقال:
"إنّه قمنٌ أن يُستجاب لكم".

ص -27-         فصل
ثم يرفع رأسه مكبِّراً غير رافع يديه، ثم يجلس مفترشاً يفرشُ اليسرى، ويجلس عليها، وينصبُ اليمنى، ويضع يديه على فخذيه، ويجعل مرفقيه على فخذيه، وطرف يده على ركبته، ويقبض اثنتين من أصابعه، ويحلق حلقة، ثم يرفع إصبعه يدعو بها، ويحرّكها، ثم يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني، واجبرني، واهدني وارزقني". هكذا ذكره ابن عباس عنه.
وذكر حذيفة عنه أنّه كان يقول:
"ربّ اغفر لي"، ثم ينهض على صدور قدميه وركبتيه، معتمداً على فخذيه، فإذا نهض افتتح القراءة ولم يسكت، كما يسكت عند الاستفتاح.
ثم يصلّي الثّانية كالأولى إلاّ في أربعة أشياء: السّكوت والاستفتاح، وتكبيرة الإحرام، وتطويلها.
فإذا جلس للتّشهّد، وضع يده اليسرى على فخذه الأيسر، ويده اليمنى على فخذه الأيمن، وأشار بالسّبابة، وكان لا ينصبها نصباً، ولا ينيمها، بل يحنيها شيئاً يسيراً، ويحرّكها، ويقبض الخنصر والبنصر ويحلق الوسطى مع الإبهام ويرفع السّبابة يدعو بها، ويرمي بصره إليها، ويبسط الكفّ اليسرى على الفخذ اليسرى، ويتحامل عليها.
وأمّا صفة جلوسه، فكما تقدّم بين السّجدتين سواء.

ص -28-         وأمّا حديث ابن الزُّبير الذي رواه مسلم: "كان إذا قعد في الصّلاة جعل قدمه الأيسر بين فخذه وساقه، وفرش قدمه الأيمن". فهذا في التّشهّد الأخير. ذكر ابن الزُّبير أنّه يفرش اليمنى، وذكر أبو حميد أنّه ينصبها، وهذا ـ والله أعلم ـ ليس باختلاف، فإنّه كان لا يجلس عليها، بل يخرجها عن يمينه، فتكون بين المنصوبة والمفروشة، أو يقال: كان يفعل هذا وهذا، فكان ينصبها، وربّما فرشها أحياناً، وهو أروحُ لهما.
ثم كان يتشهّد دائماً في هذه الجلسة، ويُعلّم أصحابه أن يقولوا:
"التّحيّات لله والصّلوات والطّيّبات، السّلام عليك أيّها النّبِيّ ورحمة الله وبركاته، السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين، أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمّداً عبده رسوله". وكان يخفّفه جدّاً كأنّه يصلّي على الرُّضف، ولم ينقل عنه في حديثٍ قط أنّه كان يصلّي عليه وعلى آله فيه، ولا يستعيذ فيه من عذاب القبر، وعذاب جهنم، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدّجّال، ومن استحبّه فإنّما فهمه من عمومات قد تبيّن موضعها وتقييدها بالتّشهّد الأخير.
ثم كان ينهض مكبِّراً على صدور قدميه، وعلى ركبتيه، معتمداً على فخذيه.
وفي (صحيح مسلم)، وبعض طرق البخاري: أنّه كان يرفع يديه في هذا الموضع، ثم كان يقرأ الفاتحة وحدها، ولم يثبت عنه أنّه قرأ في الأخيرتين بعد الفاتحة شيئاً.

ص -29-         ولم يكن من هديه الالتفات في الصّلاة. وفي (صحيح البخاري) أنّه سئل عنه، فقال: "هو اختلاس يختلسه الشّيطان من صلاة العبد".
وكان يفعله في الصّلاة أحياناً لعارضٍ، لم يكن من فعله الرّاتب، كالتفاته إلى الشّعب الذي بعث إليه الطّليعة والله أعلم.
وكان يدعو بعد التّشهّد، وقبل السّلام، وبذلك أمر في حديث أبي هريرة، وحديث فضالة.
وأمّا الدّعاء بعد السّلام مستقبل القبلة أو المأمومين، فلم يكن ذلك من هديه أصلاً وعامة الأدعية المتعلقة بالصّلاة إنّما فعلها فيها وأمر بها فيها.
وهذا هو اللائق بحال المصلِّي، فإنّه مقبل على ربّه، فإذا سلّم زال ذلك.
ثم كان ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يسلّم عن يمينه:
"السّلام عليكم ورحمة الله". وعن يساره كذلك، هذا كان فعله الرّاتب. وروي عنه أنّه كان يسلّم تسليمةً واحدةً من تلقاء وجهه، لكن لم يثبت، وأجودُ ما فيه حديث عائشة وهو في (السّنن) لكنه في قيام اللّيل، وهو حديث معلول، على أنّه ليس صريحاً في الاقتصار على التّسليمة الواحدة.
وكان يدعو في صلاته فيقول:
"اللهم إنّي أعوذ بك من عذاب القبر. وأعوذ بك من فتنة المسيح الدّجّال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إنّي أعوذ بك من المأثم والمغرم".
وكان يقول في صلاته ـ أيضا ـ
: "اللهم اغفر لي ذنبي، ووسّع لي في داري، وبارك لي فيما رزقتني".
وكان يقول:
"اللهم إنّي أسألك الثّبات في الأمر، والعزيمة على الرّشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلباً سليماً، وأسألك

ص -30-         لساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شرّ ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم".
والمحفوظ في أدعيته كلّها (في الصّلاة) بلفظ الإفراد.
وكان إذا قام في الصّلاة طأطأ رأسه، ذكره أحمد. وكان في التّشهّد لا يُجاوز بصره إشارتَه.
وقد جعل الله قرّة عينه ونعيمه في الصّلاة، فكان يقول:
"يا بلال أرحنا بالصّلاة"، ولم يشغله ذلك عن مراعاة المأمومين مع كمال حضور قلبه.
وكان يدخل في الصّلاة وهو يريد إطالتها، فيسمع بكاء الصّبيّ، فيخفّفها مخافة أن يشقّ على أمّه، وكذلك كان يصلّي الفرض وهو حامل أمامة بنتَ ابنته على عاتقه، إذا قام حملها، وإذا ركع وسجد وضعها، وكان يصلّي فيجيء الحسن والحسين، فيركبان على ظهره، فيطيل السّجدة كراهية أن يلقيه عن ظهره، وكان يصلّي فتجيء عائشة، فيمشي، فيفتح لها الباب، ثم يرجع إلى مصلاّه.
وكان يردّ السّلام بالإشارة.
وأمّا حديث:
"مَن أشار في صلاته فَلْيُعِدها" فحديث باطلٌ.
وكان ينفخ في صلاته، ذكره أحمد. وكان يبكي فيها، ويتنحنحُ لحاجةٍ.
وكان يصلّي حافياً تارةً، ومنتعلاً أخرى1. وأمر بالصّلاة في النّعل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا الأمر قلّ من يفعله الآن بل أغلب النّاس ينكر المشي بالنّعلين في المسجد، وقد يراه من أكبر الكبائر فضلاً عن الصّلاة فيهما.

ص -31-         مخالفة لليهود، وكان يصلّي في الثّوب الواحد تارةً، وفي الثّوبين تارةً وهو أكثر.
وقنت في الفجر بعد الرّكوع شهراً ثم ترك، وكان قنوته لعارضٍ، فلمّا زال تركه، فكان هديه القنوت في النّوازل خاصّة، وتركه عند عدمها، ولم يكن يخصّه بالفجر، بل كان أكثر قنوته فيه؛ لأجل ما يشرع فيه الطّول، ولقُربها من السّحر وساعة الإجابة والتَّنَزّل الإلهي.

ص -32-         فصل
وثبت عنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أنّه قال: "إنّما أنا بشر مثلكم أنسى كما تَنْسَوْنَ، فإذا نسيتُ فذكِّروني". وكان سهوه من تمام النّعمة على أمّته، وإكمال دينهم، ليقتدوا به، فقام من اثنتين في الرّباعية.
فلمّا قضى صلاته، سجد قبل السّلام، فأخذ منه أن مَن ترك شيئاً من أجزاء الصّلاة التي ليست بأركانٍ سجد له قبل السّلام، وأخذ من بعض طرقه أنّه إذا ترك ذلك، وشرع في ركنٍ لم يرجع. وسلّم من ركعتين في إحدى صلاتي العشي، ثم تكلّم، ثم أتمّها، ثم سلّم، ثم سجد، ثم سلّم.
وصلّى وسلّم، وانصرف وانصرف وقد بقي من الصّلاة ركعة، فقال له طلحة: نسيتَ ركعة. فرجع فدخل المسجد، فأمر بلالاً فأقام، فصلّى للنّاس ركعةً. ذكره أحمد.
وصلّى الظّهر خمساً، فقالوا: صليتَ خمساً، فسجد بعد ما سلّم.
وصلّى العصر ثلاثاً ثم دخل منْزله، فذكّره النّاس، فخرج فصلّى بهم ركعة، ثم سلّم، ثم سجد، ثم سلّم.
هذا مجموع ما حُفظ عنه، وهي خمسة مواضع.
ولم يكن من هديه تغميض عينيه في الصّلاة، وكرهه أحمد وغيره، وقالوا: هو من فعل اليهود. وأباحه جماعة، والصّواب أنّ الفتحَ إن كان لا يخلّ بالخشوع، فهو أفضل، وإن حال بينه وبين الخشوع لما في قبلته من الزّخرف وغيره، فهناك لا يكره.

ص -33-         وكان إذا سلّم استغفر ثلاثاً، ثم قال: "اللهم أنتَ السّلام، ومنك السّلام، تبارك يا ذا الجلال والإكرام". ولا يمكث مستقبل القبلة إلاّ مقدار ما يقول ذلك، ويسرع الانفتال إلى المأمومين.
وكان ينفتل عن يمينه وعن يساره، ثم كان يقبل على المأمومين بوجهه، ولا يخصّ ناحية منهم دون ناحيةٍ. وكان إذا صلّى الفجر جلس في مصلاّه حتى تطلع الشّمس حسناء.
وكان يقول في دبر كلّ صلاةٍ مكتوبةٍ:
"لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير".
"اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ ولا معطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله، لا إله إلاّ الله، ولا نعبدُ إلاّ إيّاه، له النّعمة، وله الفضل، وله الثّناء الحسن، لا إله إلاّ الله مخلصين له الدّين، ولو كره الكافرون".
وندب أمته إلى أن يقولوا في دبر كلّ صلاةٍ مكتوبةٍ: سبحان الله. ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله، ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر. ثلاثاً وثلاثين؛ وتمام المائة: لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير.
وذكر ابن حبّان في (صحيحه) عن الحارث بن مسلم قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
"إذا صلّيت الصّبح، فقل قبل أن تتكلّم: اللهم أجرني من النّار. سبع مرات، فإنّك إن متَّ من يومك كتب الله لك جواراً من النّار، وإذا صلّيتَ المغرب، فقل قبل أن تتكلّم: اللهم

ص -34-         أجرني من النّار، سبع مرات، فإنّك إن متَّ من ليلتك، كتب الله لك جواراً من النّار".
وكان إذا صلّى إلى جدارٍ، جعل بينه وبينه قدر مَمرّ الشاة، ولم يكن يتباعد منه، بل أمر بالقرب من السّترة، وكان إذا صلّى إلى عودٍ، أو عمودٍ، أو شجرةٍ، جعله على حاجبه الأيمن، أو الأيسر، ولم يصعد له صمداً، وكان يركز الحربة في السّفر والبريّة، فيصلّي إليها، فتكون سترته.
وكان يعرض راحلته، فيصلّي إليها، وكان يأخذ الرّحْل، فيعدله، ويصلّي إلى آخرته.
وأمر المصلِّي أن يستتر ولو بسهمٍ، أو عصا، فإن لم يجد، فليخطَّ خطّاً بالأرض، فإن لم تكن سترة، فقد صحّ عنه أنّه:
"يقطع الصّلاة المرأة والحمار والكلب الأسود". ومعارض هذا صحيح ليس بصريحٍ، أو صريح ليس بصحيحٍ. وكان يصلّي وعائشة نائمة في قبلته، وليس كالمارّ، فإنّ الرّجل يحرم عليه المرور، ولا يكره له أن يكون لابثاً بين يدي المصلِّي.

ص -35-         فصل
وكان ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يحافظ على عشر ركعاتٍ في الحضر دائماً، وهي التي قال فيها ابن عمر: حفظتُ عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عشر ركعاتٍ: ركعتين قبل الظّهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الفجر.
ولَمّا فاتته الرّكعتان بعد الظّهر قضاهما في وقت النّهي بعد العصر، وكان يصلّي أحياناً قبل الظّهر أربعاً، وأمّا الرّكعتان قبل المغرب، فصّح عنه أنّه قال:
"صلّوا قبل المغرب ركعتين". وقال في الثّالثة: "لِمَن شاء"، كراهة أن يتّخذها النّاس سُنّة، وهذا هو الصّواب؛ أنّها مستحبّة، وليست بسُنّةٍ راتبةٍ.
وكان يصلّي عامّة السّنن والتّطوّع الذي لا سبب له في بيته لا سيما سُنّة المغرب، فإنّه لم ينقل عنه أنّه فعلها في المسجد البتة، وله فعلها في المسجد. وكان محافظته على سُنّة الفجر أشدّ من جميع النّوافل. وكذلك لم يكن يدعُها هي والوتر، لا حضراً ولا سفراً. ولم ينقل عنه أنّه صلّى في السّفر سُنّة راتبة غيرهما.
وقد اخلف الفقهاء أيّهما آكد؟ وسنة الفجر تجري مجرى بداية العمل، والوتر خاتمته. ولذلك كان يُصلّيهما بسورتي (الإخلاص) وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل، وتوحيد المعرفة والإرادة، وتوحيد الاعتقاد والقصد، فـ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص الآية:1]، متضمنة لما يجب إثباته له تعالى من الأحدية

ص -36-         المنافية لمطلق الشّركة بوجهٍ من الوجوه، ونفي الولد والوالد المقرّر لكمال صمديته وغناه وأحديته، ونفي الكفء المتضمن لنفي الشّبيه والمثيل والنّظير، فتضمنت إثبات كلّ كمالٍ، ونفي كلّ نقصٍ، ونفي إثبات شبيهٍ له أو مثيلٍ في كماله، ونفي مطلق الشّرك، وهذه الأصول هي مجامع التّوحيد العلمي الذي يُباين صاحبه جميع فرق الضّلال والشّرك، ولهذا كانت تعدل ثلث القرآن، فإنّ مداره على الخبر والإنشاء، والإنشاء ثلاثة: أمر، ونهي، وإباحة. والخبر نوعان: خبر عن الخالق تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأحكامه، وخبر عن خلقه. فأخلصت سورة الإخلاص للخبر عنه، وعن أسمائه وصفاته، فعدلت ثُلُثَ القرآن، وخلصت قارئها من الشّرك العلمي كما خلّصته سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، [الكافرون الآية: 1]، من الشّرك العملي، ولما كان العلم قبل العمل وهو إمامه وسائقه، والحاكم عليه كانت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، [الإخلاص الآية: 1] تعدل ثلثَ القرآن، و{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، [الكافرون الآية: 1]، تعدل ربعَ القرآن. ولما كان الشّرك العملي أغلب على النّفوس لمتابعة الهدى، وكثير منها ترتكبه مع علمها بمضرّته، وقلعه منها أشدّ من قلع الشّرك العلمي؛ لأنّه يزول بالحجّة، ولا يمكن صاحبه أن يعلم الشّيء على غير ما هو عليه، جاء التّأكيد والتّكرير في {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، [الكافرون الآية: 1]، ولهذا كان يقرأ بهما في ركعتي الطّواف؛ لأنّ الحجّ شعار التّوحيد، ويفتح بهما عمل النّهار، ويختم بهما عمل اللّيل.
وكان يضطجع بعد سُنّة الفجر على شقّه الأيمن، وقد غلا فيها طائفتان، فأوجبها طائفة من أهل الظّاهر، وكرهها جماعة، وسمّوها بدعة، وتوسّط فيها مالك وغيره، فلم يروا بها بأساً لِمَن فعلها راحةً، وكرهوها لِمَن فعلها استناناً.

ص -37-         فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في قيام اللّيل
لم يكن ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يدع صلاة اللّيل حضراً ولا سفراً، وإذا غلبه نومٌ أو وجعٌ، صلّى من النّار اثنتي عشرة ركعة، فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: في هذا دليل على أنّ الوتر لا يقضى، لفوات محلّه كتحية المسجد، والكسوف، والاستسقاء؛ لأنّ المقصود به أن يكون آخر صلاة اللّيل وتراً. وكان قيامه باللّيل إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة، حصل الاتّفاق على إحدى عشرة ركعة، واختلف في الرّكعتين الأخيرتين، هل هما ركعتا الفجر، أم غيرهما؟
فإذا انضاف ذلك إلى عدد ركعات الفرض، والسُّنن الرّاتبة التي كان يحافظ عليها، جاء مجموع ورده الرّاتب باللّيل والنّهار أربعين ركعة، كان يحافظ عليها دائماً، وما زاد على ذلك فغير راتبٍ.
فينبغي للعبد أن يواظب على هذا الورد دائماً إلى الممات، فما أسرع الإجابة، وأعجل فتح الباب لِمَن يقرعه كلّ يوم وليلة أربعين مرّة، والله المستعان.
وكان إذا استيقظ من اللّيل قال:
"لا إله إلاّ أنتَ سبحانك اللهم أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علماً، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمةً إنّك أنتَ الوهّاب".

ص -38-         وكان إذا انتبه من نومه قال: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النّشور" ثم يتسوّك، وربّما قرأ عشر الآيات من آخر سور (آل عمران) من قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، [آل عمران، من الآية: 190]، ثم يتطهّر، ثم يصلّي ركعتين خفيفتين، وأمر بذلك في حديث أبي هريرة.
وكان يقوم إذا انتصف اللّيل، أو قبله بقليلٍ، أو بعده بقليلٍ، وكان يقطع ورده تارةً، ويصله تارةً، وهو الأكثر، فتقطيعه كما قال ابن عبّاس: إنّه بعد ما صلّى ركعتين انصرف فنام، فعل ذلك ثلاث مرّا في ستّ ركعات، كلّ ذلك يستاك ويتوضّأ ثم أوتر بثلاث.
وكان وتره أنواعاً منها: هذا.
ومنها: أن يصلّي ثماني ركعات يسلّم بعد كلّ ركعتين، ثم يوتر بخمسٍ سرداً متواليات، لا يجلس إلاّ في آخرهن.
ومنها: تسع ركعات يسرد منهن ثمانياً، لا يجلس إلاّ في الثّامنة، يجلس فيذكر الله، ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلّم، ثم يصلّي التّاسعة، ثم يقعد فيتشهّد ويسلّم، ثم يصلّي بعدها ركعتين بعد ما يسلّم.
ومنها: أن يصلّي سبعاً، كالتّسع المذكورة، ثم يصلّي بعدها ركعتين جالساً.
ومنها: أن يصلي مثْنَى مثنَى، ثم يوتر بثلاث لا يفصل بينهن، فهذا رواه أحمد، عن عائشة، أنّه كان يوتر بثلاث لا فصل فيهن. وفيه نظر، ففي (صحيح ابن حبان) عن أبي هريرة مرفوعاً: "لا توتروا بثلاثٍ، أوتروا بخمسٍ أو سبعٍ، ولا تشبهوا بصلاة المغرب".
قال الدّارقطني: وإسناده كلّهم ثقات.
قال حرب: سئل أحمد عن الوتر؟
قال: يسلّم في الرّكعتين. وإن لم يسلّم، رجوت ألاّ يضرّه، إلاّ أنّ التّسليم أثبت عن

ص -39-         النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
وقال في رواية أبي طالب: أكثر الحديث وأقواه ركعة، فأنا أذهب إليها.
ومنها: ما رواه النّسائي، عن حذيفة أنّه صلّى مع رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في صلاة رمضان، فركع، فقال في ركوعه:
"سبحان ربّي العظيم"، مثل ما كان قائماً، الحديث. وفيه: فما صلّى إلاّ أربع ركعاتٍ، حتى جاء بلال يدعوه إلى الغداة. وأوتر أوّل اللّيل ووسطه، وآخره، وقام ليلةً بآية يتلوها، ويردّدها حتى الصّباح: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، [المائدة، الآية: 118].
وكانت صلاته باللّيل ثلاثة أنواع:
أحدها: ـ وهو أكثرها ـ صلاته قائماً.
الثّاني: أنّه كان يصلّي قاعداً.
الثّالث: أنّه كان يقرأ قاعداً، فإذا بقي يسير من قراءته قام فركع قائماً، وثبت عنه أنّه كان يصلّي ركعتين بعد الوتر جالساً تارةً، وتارةً يقرأ فيها جالساً، فإذا أراد أن يركع قام فركع.
وقد أشكل هذا على كثيرٍ، وظنّوه معارضاً لقوله: "اجعلوا آخر صلاتكم باللّيل وتراً".
قال أحمد: لا أفعله ولا أمنع مَن فعله، قال: وأنكره مالك. والصّواب أنّ الوتر عبادة مستقلة. فتجري الرّكعتان بعده مجرى سُنّة المغرب من المغرب، فهما تكميل للوتر.
ولم يحفظ عنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أنّه قنت في الوتر، إلاّ في حديثٍ رواه ابن ماجه، قال أحمد: ليس يروى فيه عن النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ شيء، ولكن كان عمر يقنت من السّنة إلى السّنة.

ص -40-         وروى أهل (السّنن) حديث الحسن بن عليّ، وقال التّرمذي: حديث حسن لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه من حديث أبي الحوراء السّعدي. انتهى.
والقنوت في الوتر محفوظ عن عمر، وأبيّ، وابن مسعود.
وذكر أبو داود والنّسائي، من حديث أبيّ بن كعب أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: كان يقرأ في الوتر بـ:
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، [الأعلى الآية: 1]، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، [الكافرون، الآية:1]، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، [الإخلاص الآية: 1]. فإذا سلّم قال: "سبحان الملكِ القدّوس" ثلاث مرّات يمدّ صوته في الثّالثة ويرفع.
وكان ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يرتل السّورة حتى تكون أطول من أطول منها، والمقصود من القرآن تدبّره وتفهّمه، والعمل به. وتلاوته، وحفظه وسيلة إلى معانيه، كما قال بعض السّلف: أنْزل القرآن ليعمل به، فاتّخذوا تلاوته عملاً.
قال شعبة: حدّثنا أبو جمرة، قال: قلت لابن عبّاس: إنّي رجل سريع القراءة، وربّما قرأت القرآن في اللّيلة مرّة أو مرّتين. قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ: لأن أقرأ سورةً واحدةً أعجب إليَّ من أن أفعل ذلك الذي تفعل، فإن كنتَ فاعلاً لا بدّ، فاقرأ قراءة تسمع أذنيك، ويعيه قلبك.
وقال إبراهيم: قرأ علقمة على عبد الله، فقال: رتّل فداك أبي وأُمّي، فإنّه زين القرآن.
وقال عبد الله: لا تهذّوا القرآن هذَّ الشّعر، ولا تنثروه نثر الدّقل، وفقوا عند عجائبه، وحرّكوا به القلوب، ولا يكن هَمُّ أحدكم آخر السّورة.
وقال: إذا سمعت الله يقول:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، [البقرة، من الآية: 104]، فاصغ لها سمعك، فإنّه خيرٌ تؤمرُ به، أو شرٌّ تصرف عنه.
وقال عبد الرّحمن بن أبي ليلى: دَخَلَتْ عليَّ امرأةٌ وأنا أقرأ (سورة هود) فقالت لي: يا عبد الرّحمن

ص -41-         هكذا تقرأ سورة هود؟ والله إنّي فيها منذ ستة أشهر وما فرغت من قراءتها.
وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يسّر بالقرآن في صلاة تارةً، ويجهر بارةً، ويطيل القيام تارةً، ويخفّفه تارةً.
وكان يصلّي التّطوّع باللّيل والنّهار على راحلته في السّفر، قِبَل أيِّ وجه توجهت به، فيركع ويسجد عليها إيماءً،ويجعل سجوده أخفض من ركوعه.

 

ص -42-         فصل
روى البخاري في (صحيحه) عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يصلّي سبحة الضّحى وإنّي لأسبِّحها.
وفي (الصّحيحين) عن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بصيام ثلاثة أيّامٍ من كلّ شهرٍ، وركعتي الضّحى، وأن أوتر قبل أن أرقد.
ولمسلم عن زيد بن أرقم مرفوعاً:
"صلاة الأوّابين حين ترمض الفصال"، أي: يشتدّ حرّ النّهار، فتجد الفصال حرّ الرّمضاء، فقد أوصى بها، وكان يستغني عنها بقيام اللّيل.
قال مسروق: كنّا نصلّي في المسجد، فنبقى بعد قيام ابن مسعود، ثم نقوم فنصلّي الضّحى، فبلغه، فقال: لِمَ تحملون عباد الله ما لم يحملهُم الله؟ إن كنتم لا بُدَّ فاعلين ففي بيوتكم.
وقال سعيد بن جبير: إنّي لأدع صلاة الضّحى وأنا أشتهيها، مخافة أن أراها حتماً عليَّ.
وكان من هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وهدي أصحابه، سجود الشّكر عند تجدّد نعمة تسرّ، أو اندفاع نقمة، وكان ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذا مرّ بآية سجدةٍ كبّر وسجد، وربّما قال في سجوده:
"سجدَ وجهي للذي خلقه وصوّره، وشقّ سمعه وبصره، بحوله وقوّته"، ولم ينقل عنه أنّه كان يكبّر للرّفع من هذا السّجود، ولا تشهّد، ولا سلّم التبة.
وصحّ عنه أنّه سجد في (آلم تنْزيل) وفي (ص) وفي (اقرأ) وفي (النّجم) وفي (إذا السّماء انشقت) وذكر أبو داود، عن عمرو بن العاص، أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أقرأه خمس عشرة سجدة، منها: ثلاث في المفصّل، وفي

ص -43-         (سورة الحجّ) سجدتين.
وأمّا حديث ابن عبّاس، أنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لم يسجد في المفصّل منذ تحوّل إلى المدينة، فهو حديث ضعيف، في إسناد أبو قدامة الحارث بن عبيد، ولا يحتج بحديثه، وأعلّه ابن القطان بمطر الوراق، وقال: كان يشبه في سوء الحفظ محمّد بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، وعيب على مسلم إخراج حديثه. انتهى.
ولا عيبَ على مسلم في أخراج حديثه؛ لأنّه ينتقي من أحاديث هذا الضّرب ما يعلم أنّه حفظه، كما يطرح من أحاديث الثّقة ما يعلم أنّه غلط فيه، فمن النّاس مَن صحّح جميع أحاديث هؤلاء الثّقات، ومنهم مَن ضعّف جميع حديث السّيّء الحفظ، فالأولى طريقة الحاكم وأمثاله، والثّانية طريق ابن حزم وأشكاله، وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشّأن.

ص -44-         فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الجمعة وذكر خصائص يومها
صحّ عنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أنّه قال: "أضلّ الله عن الجمعة مَنْ كان قبلنا وكان لليهود يوم السّبت، وكان للنّصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسّبت والأحد، وكذلك هم لنا تبعٌ يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدّنيا والأوّلون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق".
وللتّرمذي وصحّحه عن أبي هريرة مرفوعاً:
"خير يومٍ طلعت فيه الشّمس يوم الجمعة، فيه خُلِقَ آدمُ، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرجَ منها، ولا تقوم السّاعة إلاّ في يوم الجمعة".
ورواه في (الموطّأ)، وصحّحه التّرمذي ـ أيضاً ـ بلفظٍ:
"خير يومٍ طلعت فيه الشّمس، فيه خلق آدم، وفيه أهبط، وفيه تيبَ عليه، وفيه مات، وفيه تقوم السّاعة، وما من دابةٍ إلاّ وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشّمس شفقاً من السّاعة، إلاّ الجنّ والإنس، وفيها ساعةٌ لا يُصادفها عبد مسلم، وهو يصلّي يسأل الله شيئاً إلاّ أعطاه الله إيّاه".

 

ص -45-         قال كعب: ذلك في كلّ سنة يوم.
فقلت: بل كلّ جمعة. فقرأ التّوراة فقال: صدق رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
قال أبو هريرة: ثم لقيت عبد الله بن سلام، فحدّثته بمجلسي مع كعبٍ، فقال: لقد علمت أيَّ ساعةٍ هي. قلت: فأخبرني بها. قال: هي آخر ساعةٍ في يوم الجمعة. فقلت: كيف؟ وقد قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "لا يُصادفها عبد مسلم وهو يصلّي" وتلك السّاعة لا يصلى فيها؟
فقال ابن سلام: ألم يقل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "مَن جلس مجلساً ينتظر الصّلاة فهو في صلاةٍ حتى يصلّي؟". وفي لفظٍ في (مسند أحمد) في حديث أبي هريرة قال: قيل للنَّبِي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: لأيّ شيء سمي يوم الجمعة؟ قال:
"لأن فيها طبعت طينة أبيك آدم، وفيا الصّعقة والبعثة، وفيها البطشة، وفي آخره ثلاث ساعات، منها ساعة مَن دعا الله فيها استجيب له".
وذكر ابن إسحاق عن عبد الرّحمن بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبي حين كفّ بصره، فإذا خرجت به إلى الجمعة، فسمع الأذان لها، استغفر لأبي أمامة أسعد بن زرارة، فكنت حيناً أسمع ذلك منه، فقلت: إنّ عجزاً أن لا أسأله؟ فقلت: يا أبتاه! أرأيت استغفارك لأسعد بن زرارة كلّما سمعت الأذان بالجمعة؟ قال: أي بني كان أسعد أوّل مَن جمّع بنا بالمدينة قبل مقدم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، في هزْمِ النّبيت من حرة بني بَيَاضة، في نقيع يقال له: نقيع الخضمات. قلت: وكم أنتم يومئذٍ؟ قال: أربعون رجلاً. قال البيهقي: هذا حسن صحيح الإسناد. انتهى.
ثم قدم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ المدينة، فأقام بقباء يوم الإثنين

ص -46-         والثّلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فصلاّها في المسجد الذي في بطن الوادي قبل تأسيس مسجده.
قال ابن إسحاق: وكانت أوّل خطبةٍ خطبها فيما بلغني عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن ـ ونعوذ بالله أن نقول على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ما لم يقل ـ أنّه قام فيهم، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أمّا بعد؛ أيّها النّاس، فقدّموا لأنفسكم، تعلَمُّنَّ والله لَيُصْعَقَنَّ أحدكم، ثم لَيَدَعَنَّ غنمه، ليس لها راعٍ، ثم ليقولنَّ له ربّه ليس بينه وبينه ترجمان، ولا حاجب يحجبُه دونه، ألم يأتِك رسولي فبلغك، وآتيتك مالاً، وأفضلت عليك؟ فما قدمت لنفسك؟ فلينظرنَّ يميناً وشمالاً، فلا يرى شيئاً، ثم لينظرنَّ قدامه فلا يرى غير جهنم، فمَن استطاع أن يقي وجهه من النّار ولو بشقِّ تمرة فليفعل، ومَن لم يجد فبكلمةٍ طيّبةٍ، فإنّ بها تجزى الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعفٍ، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
قال ابن إسحاق: ثم خطب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ مرّة أخرى، فقال:
"إنّ الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، إنّ أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح مَن زيَّنه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، فاختاره على ما سواه من أحاديث النّاس، إنّه أحسن الحديث وأبلغه، أحبُّوا ما أحبَّ الله، أحبُّوا الله من كلّ قلوبكم، ولا تَمَلُّوا كلام الله وذكره، ولا تقسُ

ص -47-         عنه قلوبكم، فإنّه مِن كلّ ما يخلق الله يختار ويصطفي، قد سمّاه الله خيرته من الأعمال، ومصطفاه من العباد، والصّالح من الحديث، ومن كلّ ما أوتي النّاس من الحلال والحرام، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، واتّقوه حقّ تقاته، واصدقّوا الله صالحَ ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم، إنّ الله يبغض أن ينكث عهده، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته".

ص -48-         فصل
وكان من هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ تعظيم هذا اليوم وتشريفه، وتخصيصه بخصائص منها:
أنّه يقرأ في فجره بـ: (آلم السّجدة) و
{هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ}، [الإنسان، من الآية: 1]، فإنّهما تضمنتا ما كان وما يكون في يومها.
ومنها: استحباب كثرة الصّلاة فيه على النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وفي ليلته؛ لأنّ كلّ خيرٍ نالته أمّته في الدّنيا والآخرة، فعلى يديه، وأعظم كرامة تحصل لهم يوم الجمعة،: فإنّ فيه بعثهم إلى منازلهم في الجنة، وهو يومُ المزيد لهم إذا دخولها، وقربُهم من ربّهم يوم المزيد، وسبقهم إلى الزّيادة بحسب قربهم من الإمام يوم الجمعة، وتبكيرهم إليها.
ومنها: الاغتسال في يومها، وهو أمر مؤكّد جدّاً، ووجوبه أقوى من وجوب الوضوء من مسّ الذّكر، والرّعاف، والقيء، ووجوب الصّلاة على النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في التّشهّد الأخير.
ومنها: الطّيب والسّواك، ولها مزية فيه على غيره.
ومنها: التّبكير، والاشتغال بذكر الله تعالى، والصّلاة إلى خروج الإمام.
ومنها: الإنصات للخطبة وجوباً.
ومنها: قراءة (الجمعة) و(المنافقين) أو (سبّح) و(الغاشية).
ومنها: أن يلبس فيه أحسن ثيابه.
ومنها: أنّ للماشي إليها بكلّ خطوةٍ عملُ سنة، أجر صيامها وقيامها.
ومنها: أنّه يكفّر السيّئات.
ومنها: ساعة الإجابة.

ص -49-         وكان ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتدّ غضبه، حتى كأنّه منذر جيشٍ يقول: صبّحكم ومسّاكم.
وكان يقول في خطبته:
"أمّا بعد"، ويقصرُ الخطبة، ويطيل الصّلاة.
وكان يعلّم أصحابه في خطبته قواعد الإسلام وشرائعه، ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض له أمر، كما أمر الدّاخل وهو يخطب أن يصلّي ركعتين، وإذا رأى بهم ذا فاقةٍ من حاجةٍ، أمرهم بالصّدقة، وحضّهم عليها.
وكان يشير في خطبته بإصبعه السّبّابة عند ذكر الله ودعائه.
وكان يستسقي إذا قحط المطر في خطبته، ويخرجُ إذا اجتمعوا، فإذا دخل المسجد، سلّم عليهم، فإذا صعد المنبر، استقبلهم بوجهه، وسلّم عليهم ثم يجلس، ويأخذ بلال في الأذان، فإذا فرغ قام وخطب. ويعتمد على قوسٍ أو عصا.
وكان منبره ثلاث درجات، وكان قبل اتّخاذه يخطب إلى جذعٍ، ولم يوضع المنبر في وسط المسجد، بل في جانبه الغربي، بينه وبين الحائط قدر ممرّ الشّاة، وكان إذا جلس عليه في غير الجمعة، أو خطب قائماً يوم الجمعة، استدار أصحابه إليه بوجوههم، وكان يقوم فيخطب، ثم يجلس جلسةً خفيفةً، ثم يقوم فيخطب الثّانية، فإذا فرغ منها أخذ بلال في الإقامة.
وكان يأمر بالدّنوّ منه والإنصات، ويخبر: "أنّ الرّجل إذا قال لصاحبه: أنصت. فقد لغا. ومَن لغا فلا جمعة له".
وكان إذا صلّى الجمعة دخل منْزله، فصّلى ركعتين سنّتها، وأمر مَن صلاّها أن يصلّي بعدها أربعاً. قال شيخنا: إذا صلّى في المسجد صلّى أربعاً. وإن صلّى في بيته صلّى ركعتين.

ص -50-         فصل
وكان يصلّي العيدين في المصلّى، وهو الذي على باب المدينة الشّرقي، الذي يوضع فيه محمل الحاج، ولم يصلّ العيد بمسجده إلاّ مرّة أصابهم مطر ـ إن ثبت الحديث ـ وهو في (سنن أبي داود).
وكان يلبس أجمل ثيابه، ويأكل في عيد الفطر قبل خروجه تمراتٍ، ويأكلهن وتراً، وأما في الأضحى فكان لا يطعم حتى يرجع من المصلّى، فيأكل من أضحيته، وكان يغتسل للعيد ـ إن صحّ ـ وفيه حديثان ضعيفان، لكن ثبت عن ابن عمر مع شدّة اتّباعه للسّنة.
وكان يخرج ماشياً والعنْزةُ تحمل بين يديه، فإذا وصل نُصبت ليُصلّي إليها، فإنّ المصلّى لم يكن فيه بناء، وكان يؤخّر صلاة عيد الفطر، ويعجّل الأضحى.
وكان ابن عمر مع شدّة اتّباعه للسّنة، لا يخرج حتى تطلع الشّمس، ويكبّر من بيته إلى المصلّى.
وكان ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذا انتهى إلى المصلّى، أخذ في الصّلاة، بغير أذانٍ ولا إقامةٍ، ولا قول: "الصّلاةُ جامعةٌ" ولم يكن هو ولا أصحابه يصلّون إذا انتهوا إلى المصلّى، لا قبلها ولا بعدها.
وكان يبدأ بالصّلاة قبل الخطبة، فيصلّي ركعتين، يكبّر في الأولى سبعاً متواليةً بتكبيرة الإحرام، يسكت بين كلّ تكبيرتين سكتةً يسيرةً، ولم يحفظ عنه ذكر معيّن يبن التّكبيرات، ولكن ذكر عن ابن مسعود أنّه قال

ص -51-         : يحمد الله، ويثني عليه، ويصلّي على النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
وكان ابن عمر يرفع يديه مع كلّ تكبيرة.
وكان ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذا أتَمَّ التّكبير أخذ في القراءة، فقرأ في الأولى الفاتحة، ثم (ق)، وفي الثّانية (اقتربت) وربّما قرأ فيهما بـ: (سبّح) و(الغاشية)، ولم يصحّ عنه غير ذلك فإذا فرغ من القراءة كبّر وركع، ثم يكبّر في الثّانية خمساً متواليةً، ثم أخذ في القراءة، فإذا انصرف، قام مقابل النّاس وهم جلوسٌ على صفوفهم، فيعظهم ويأمرهم وينهاهم، وإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه، أو يأمر بشيءٍ أمر به، ولم يكن هناك منبر، وإنّما يخطب على الأرض.
وأمّا قوله في حديثٍ في (الصّحيحين): "ثم نزل فأتى النّساء... إلى آخره، فلعلّه كان يقوم على مكانٍ مرتفعٍ.
وأمّا منبر المدينة، فأوّل مَن أخرجه مروان بن الحكم. فأنكر عليه.
وأمّا منبر اللّبن والطّين، فأوّل مَن بناه كثير بن الصّلت في إمارة مروان على المدينة.
ورخّص النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لِمَن شهد العيد أن يجلس للخطبة، وأن يذهب.
ورخّص لهم إذا وقع العيد يوم الجمعة أن يجتزؤوا بصلاة العيد عن الجمعة.
وكان يخالف الطّريق يوم العيد.
وروي أنّه كان يكبّر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التّشريق:
"الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد".

ص -52-         فصل
ولما كسفت الشّمس، خرج إلى المسجد مسرعاً فزعاً يجرّ رداءه، وكان كسوفها في أوّل النّهار على مقدار رمحين أو ثلاثة من طلوعها، فتقدّم فصلّى ركعتين، قرأ في الأولى بالفاتحة وسورة طويلة، وجهر بالقراءة، ثم ركع، فأطال الرّكوع، ثم رفع، فأطال القيام وهو دون القيام الأوّل، وقال لَمَّا رفع رأسه من الرّكوع:
"سمع الله لِمَن حمده، ربّنا ولك الحمد" ثم أخذ في القراءة، ثم ركع فأطال الرّكوع، وهو دون الرّكوع الأول، ثم سجد فأطال السّجود، ثم فعل في الأخرى مثل ما فعل في الأولى، فاستكمل في الرّكعتين أربع ركوعاتٍ، وأربع سجداتٍ.
ورأى في صلاته تلك الجنة والنّار، وهمّ أن يأخذ عنقوداً من الجنة فيريهم إيّاه.
ورأى أهل العذاب في النّار، فرأى امرأة تخدشها هرة ربطتها حتى ماتت جوعاً وعطشاً.
ورأى عمرو بن مالك يجرّ أمعاءه في النّار، وكان أوّل مَن غيّر دين إبراهيم.
ورأى فيها سارق الحاجّ يعذّب، ثم انصرف فخطب خطبةً بليغة، فروى الإمام أحمد أنّه لما سلّم حمد الله وأثنى عليه، وشهد أن لا إله إلاّ الله، وشهد أنه عبده ورسوله ثم قال:
"أيّها النّاس، أنشدكم بالله إن كنتم تعلمون أني قصرت عن شيء من تبليغ رسالات ربّي لما أخبرتموني ذلك؟".
فقام رجلٌ، فقالوا: نشهد إنّك قد بلّغتَ رسالات ربّك، ونصحت لأمتك، وقضيت الذي عليك.
ثم قال:
"أمّا بعد؛ فإنّ رجالاً يزعمون أنّ كسوف هذه الشّمس، وكسوف

ص -53-         هذا القمر، وزوال هذه النّجوم عن مطالعها لِمَوت رجالٍ عظماء من أهل الأرض، وإنّهم قد كذبوا، ولكنها آيات من آيات الله ـ تبارك وتعالى ـ يعتبر بها عباده، فينظر مَن يحدث له منهم توبةً، وأيمُ الله لقد رأيت منذ قمت ما أنتم لاقوه من أمر دنياكم وآخرتكم، وإنّه والله لا تقوم السّاعة حتى يخرج ثلاثون كذّاباً، آخرهم الأعور الدّجّال، ممسوح العين اليسرى، كأنّها عين أبي تحيي ـ لشيخ حينئذٍ من الأنصار، بينه وبين حجرة عائشة ـ وأنّه متى يخرج، فسوف يزعم أنّه الله، فمَن آمن به وصدّقه واتّبعه، لم ينفعه صالح من عمله سلف، ومَن كفر به وكذّبه، لم يعاقب بسيّئ من عمله سلف، وإنّه سيظهر على الأرض كلّها إلاّ الحرم وبيت المقدس، وإنّه يحصر المؤمنين في بيت المقدس، فيزلزلون زلزالاً شديداً، ثم يهلكه الله ـ عزّ وجلّ ـ وجنوده، حتى إنّ جِذمَ الحائط أو قال: أصل الحائط، أو أصل الشّجرة لينادي: يا مؤمن يا مسلم هذا يهودي ـ أو قال: هذا كافر ـ فتعال فاقتله. قال: ولن يكون ذلك حتى تروا أموراً يتفاقم شأنها في أنفسكم، وتسألون بينكم: هل كان نبيّكم ذَكَرَ لكم منها ذكراً؟ وحتى تزول جبال عن مراتبها، ثم على أثر ذلك القبض".
وقد روي عنه أنّه صلاّها كلّ ركعة بثلاث ركوعات، أو أربع ركوعات، أو كلّ ركعةٍ بركوعٍ واحدٍ، ولكن كبار الأئمة لا يصحّحون ذلك ويرونه غلطاً.
وأمر في الكسوف بذكر الله، والصّلاة، والدّعاء، والاستغفار، والصّدقة، والعتاقة.

ص -54-         فصل
وثبت عنه أنّه استسقى علو وجوه:
أحدها: يوم الجمعة على المنبر في أثناء الخطبة.
الثّاني: أنّه وعد النّاس يوماً يخرجون فيه إلى المصلّى، فخرج لَمّا طلعت الشّمس متواضعاً متبذلاً متخشعاً متوسّلاً متضرّعاً، فلَمّا وافى المصلّى صعد المنبر ـ إن صحّ ففي القلب منه شيء ـ فحمد الله وأثنى عليه، وكبّره، وكان مما حفظ من خطبته ودعائه:
"الحمد لله ربّ العالمين، الرّحمن الرّحيم، مالك يوم الدّين، لا إله إلاّ الله يفعل ما يريد، اللهم أنتَ الله لا إله إلاّ أنت تفعل ما تريد، اللهم أنت الله لا إله إلاّ أنتَ، أنت الغني ونحن الفقراء، أنْزل علينا الغيث، واجعل ما أنْزلته علينا قوّة لنا، وبلاغاً إلى حينٍ".
ثم رفع يديه وأخذ في التّضرّع والابتهال والدّعاء، وبالغ في الرّفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حوّل إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة، وحوّل إذ ذاك رداءه، وهو مستقبل القبلة، فجعل الأيمن على الأيسر وعكسه، وكان الرّداء خميصة سوداء، وأخذ في الدّعاء مستقبل القبلة، والنّاس كذلك، ثم نزل فصّلى بهم ركعتين كالعيد من غير نداء، قرأ في الأولى بعد الفاتحة بـ: (سبّح) وفي الثّانية بـ (الغاشية).
الثّالث: أنّه استسقى على منبر المدينة في غير الجمعة، ولم يحفظ عنه فيه صلاة.

ص -55-         الرّابع: أنّ استسقى وهو جالس في المسجد رفع يديه، ودعا الله ـ عزّ وجلّ ـ.
الخامس: أنّه استسقى عند أحجار الزّيت قريباً من الزّوراء وهو خارج باب المسجد الذي يدعى اليوم: (باب السّلام) نحو قذفة حجر، منعطف عن يمين الخارج من المسجد.
السّادس: أنّه استسقى في بعض غزواته لما سبقه المشركون إلى الماء، فأصاب المسلمين العطش، فشكوا إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. وقال بعض المنافقين: لو كان نبيّاً لاستسقى لقومه، كما استسقى موسى لقومه، فبلغه ذلك، فقال: "أوقد قالوها؟ عسى ربّكم أن يسقيكم". ثم بسط يديه فدعا، فما ردّ يديه حتى أظلهم السّحاب، وأمطروا وأغيث ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في كلّ مرّةٍ.
واستسقى مرّة، فقام أبو لبالة، فقال: يا رسول الله إنّ التّمر في المرابد.
فقال:
"اللّهمّ اسقنا حتى يقوم أبو لبالة عرياناً، فيسدّ ثعلب مربده بإزاره". فأمطرت فاجتمعوا إلى أبي لبابة. فقالوا: إنّها لن تقلع حتى تقوم عرياناً، فتسد ثعلب مربدك بإزارك. ففعل، فأقلعت السّماء ولما كثر المطر سألوه الاستصحاء، فاستصحى لهم، وقال: "اللهم حوالينا ولا علينا، الله على الظّراب والآكام والجبال، وبطون الأودية، ومنابت الشّجر".
وكان ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذا رأى المطر قال:
"صيّباً نافعاً" ويحسر ثوبه حتى يصيبه من المطر، فسئل عن ذلك فقال: "لأنّه حديث عهد بربّه".

ص -56-         قال الشّافعي: أخبرني مَن لا أتّهم، عن يزيد بن الهاد، أنّ النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كان إذا سال السّيل، قال: "اخرجوا بنا إلى هذا الذي جعله الله طهوراً، فنتطهّر منه، ونحمد الله عليه".
وأخبرني مَن لا أتّهم عن إسحاق بن عبد الله، أنّ عمر كان إذا سال السّيل ذهب بأصحابه إليه، وقال: ما كان ليجيء من مجيئه أحد، إلاّ تمسّحنا به.
وكان ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذا رأى الغيم والرّيح، عرف ذلك في وجهه، فأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سري عنه.
وكان يخشى أن يكون فيه العذاب.

ص -57-         فصل:في هديه-صلّى الله عليه وسلّم-في سفره وعباداته فيه
كانت أسفاره ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ دائرة بين أربعة أسفارٍ: سفرٍ لهجرته، وسفرٍ للجهاد، وهو أكثرها، وسفرٍ للعمرة، وسفرٍ للحج.
وكان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، ولما حجّ سافر بِهِنَّ جميعاً، وكان إذا سافر، خرج من أوّل النّهار، وكان يستحبّ الخروج يوم الخميس، ودعا الله أن يبارك لأمّته في بكورها، وكان إذا بعث سريّةً أو جيشاً، بعثهم من أوّل النّهار، وأمر المسافرين إذا كانوا ثلاثة أن يؤمّروا أحدهم، ونهى أن يسافر الرّجل وحده، وأخبر أنّ
"الرّاكب شيطان، والرّاكبان شيطانان، والثّلاثة ركبٌ". وذكر عنه أنّه كان يقول حين ينهض للسّفر: "اللهم إليك توجّهت، وبك اعتصمت، اللهم اكفني ما أهمني وما لا أهتمّ له، اللهم زودني التّقوى، واغفر لي ذنْبِي، ووجّهني للخير أينما توجّهت".
وكان إذا قدمت له دابته ليركبها يقول:
"بسم الله" حين يضع رجله في الرّكاب، فإذا استوى على ظهرها قال: "الحمد لله الذي سخّر لنا هذا وما كان له مُقرنين، وإنا إلى ربّنا لمنقلبون"، ثم يقول: "الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله". ثم يقول: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر". ثم يقول: "سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي، إنّه لا يغفر الذّنوب إلاّ أنتَ".

ص -58-         وكان يقول: "اللهم إنّا نسألك في سفرنا هذا البرّ والتّقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا، وَاطْوِ عنّا بُعْده، اللهم أنتَ الصّاحب في السّفر، والخليفة في الأهل، اللهم إنّي أعوذ بك من وعثاء السّفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال".
وإذا رجع قالهن، وزاد:
"آيبون، تائبون، عابدون لربّنا حامدون".
وكان هو وأصحابه إذا عَلَوْا الثّنايا كبّروا، وإذا هبطوا الأودية سبّحوا.
وكان إذا أشرف على قريةٍ يريد دخولها يقول:
"اللهم ربّ السّموت السّبع وما أظللن، وربّ الأرضين السّبع وما أقللن، وربّ الشّياطين وما أضللن، وربّ الرّياح وما ذرين، أسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرّها، وشرِّ أهلها، وشرّ ما فيها".
وكان يقصر الرّباعية، وقال أُمية بن خالد: إنّا نجد صلاة الحضر، وصلاة الخوف في القرآن، ولا نجد صلاة السّفر. فقال له ابن عمر: يا أخي، إنّ الله بعث محمّداً ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ولا نعلم شيئاً، فإنّما نفعل كما رأينا محمّداً ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يفعل.
وكان من هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ الاقتصار على الفرض، ولم يحفظ عنه أنّه صلّى السّنة قبلها ولا بعدها إلاّ سنّة الفجر والوتر، ولكن لم يمنع من التّطوّع قبلها ولا بعدها، فهو كالتّطوّع المطلق، لا أنّه سنة راتبة للصّلاة.
وثبت عنه أنّه صلّى يوم الفتح ثمان ركعات ضحى.
وكان من هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ صلاة التّطوّع على راحلته أين

ص -59-         توجّهت به، وكان يُومئ في ركوعه، وكان إذا أراد أن يرتحل قبل أن تزيغ الشّمس أخّر الظّهر إلى العصر، فإن زالت قبل أن يرتحل صلّى الظّهر، ثم ركب.
وكان إذا أعجله السّير أخّر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء، ولم يكن من هديه الجمع راكباً ولا حال نزوله.

ص -60-         فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في قراءة القرآن
كان له حزب لا يخلّ به، وكانت قراءته ترتيلاً حرفاً حرفاً، ويقطِّع قراءته آيةً آيةً، ويمدّ عند حروف المدّ، فيمد الرّحمن، ويمدّ الرحيم.
وكان يستعيذ في أوّل القراءة، فيقول:
"أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم". وربّما قال: "اللهم إنّي أعوذ بك من الشّيطان الرّجيم من هَمْزِهِ ونفخه ونَفثه".
وكان يحبّ أن يسمع القرآن من غيره، وأمر ابن مسعود، فقرأ وهو يسمع، وخشع حتى ذرفت عيناه.
وكان يقرأ قائماً وقاعداً ومضطجعاً ومتوضّئاً ومحدثاً إلاّ الجنابة، وكان يتغنى به، ويرجّع صوته أحياناً.
وحكى ابن المغفّل ترجيعه آ آ آ ثلاث مرات، ذكره البخاري.
وإذا جمعت هذا إلى قوله:
"زيّنوا القرآن بأصواتكم". وقوله: "ما أذن الله لشيء كأَذَنِه لِنَبِيّ حسن الصّوت يتغنى بالقرآن"، علمتَ أنّ هذا التّرجيع منه اختيار لا لهزّ النّاقة، وإلاّ لم يحكه ابن المغفّل اختياراً ليتأسى به، ويقول: كان يرجّع في قراءته.
والتّغنِّي على وجهين:
أحدهما: ما اقتضته الطّبيعة من غير تكلّف، فهذا جائز وإن أعان طبيعته بفضل تزيين، كما قال أبو موسى للنَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم

ص -61-         "لو علمتُ أنّك تستمع لحبّرتُه لك تحبيراً"، أي: لحسّنتُه لك تحسيناً، وهذا هو الذي كان السّلف يفعلونه، وعليه تحمل الأدلّة كلّها.
والثّاني: ما كان صناعة من الصّنائع، كما يتعلم أصوات الغناء بأصناف الألحان على أوزان مخترعة، فهذه هي التي كرهها السّلف، وأدلّة الكراهة إنّما تتناول هذا.

ص -62-         فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في زيارة المرضَى
كان يعود مَن مَرِضَ من أصحابه، وعاد غلاماً كان يخدمه من أهل الكتاب، وعاد عمّه وهو مشرك، وعرض عليهما الإسلام فأسلم اليهودي.
وكان يدنو من المريض، ويجلس عند رأسه ويسأله عن حاله، وكان يمسح بيده اليمنى على المريض، ويقول:
"اللّهمّ ربّ النّاس، أذهب البأس، واشفِ أنتَ الشّافي لا شفاء إلاّ شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً".
وكان يدعو للمريض ثلاثاً، كما قال:
"اللّهمّ اشفِ سعداً" ثلاثاً، وكان إذا دخل على المريض يقول: "لا بأس، طهور إن شاء الله"، وربّما قال: "كفارة وطهور".
وكان يرقي مَن كان به قرحة أو جرح أو شكوى فيضع سبابته بالأرض، ثم يرفعها ويقول:
"بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن الله ربّنا". وهذا في (الصّحيحين)، وهو يبطل اللّفظة التي جاءت في حديث السّبعين ألفاً: "لا يرقون" وهو غلط من الرّاوي.
ولم يكن من هديه أن يخصّ يوماً بالعيادة، ولا وقتاً، بل شرع لأمّته عيادة المريض ليلاً ونهاراً.
وكان يعود من الرّمد وغيره، وكان أحياناً يضع يده على جبهة المريض، ثم يمسحُ صدره وبطنه، ويقول:
"اللهم اشفه".
وكان يمسح وجهه أيضاً، وإذا أيس من المريض قال: "
إنّا لله وإنّا إليه راجعون".

ص -63-         وكان هديه في الجنائز أكمل هدي مخالفاً لهدي سائر الأمم مشتملاً على الإحسان إلى الميّت وإلى أهله وأقاربه، وعلى إقامة عبودية الحيّ فيما يعامل به الميّت.
فكا من هديه إقامة عبودية الرّبّ تعالى على أكمل الأحوال، وتجهيز الميّت إلى الله تعالى على أحسن الأحوال، ووقوفه وأصحابه صفوفاً يحمدون الله، ويستغفرون له، ثم يمشي بين يديه إلى أن يودِعوه حفرته، ثم يقوم هو وأصحابه على قبره سائلين له الثّبات، ثم يتعاهده بالزّيارة إلى قبره، والسّلام عليه، والدّعاء له.
فأوّل ذلك تعاهده في مرضه، وتذكيره الآخرة، وأمره بالوصيّة والتّوبة، وَأَمْر مَن حضره بتلقينه شهادة أن لا إله إلاّ الله، لتكون آخر كلامه، ثم نهى عن عادة الأمم التي لا تؤمن بالبعث من لطم الخدود، ورفع الصّوت بالنّدب والنّياحة، وتوابع ذلك.
وسَنَّ الخشوع للموت، والبكاء الذي لا صوت معه، وحزن القلب، وكان يفعله ويقول:
"تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلاّ ما يرضي الرّبّ".
وسَنَّ لأمته الحمد والاسترجاع والرّضا عن الله.
وكان من هديه الإسراع بتجهيز الميّت إلى الله، وتطهيره وتنظيفه وتطييبه، وتكفينه في ثياب البياض، ثم يؤتى به إليه، فيصلّي عليه بعد أن كان يدعى له عند احتضاره، فيقيم عنده حتى يقضي، ثم يحضر تجهيزه، ويصلّي عليه، ويشيّعه إلى قبره، ثم رأى أصحابه أنّ ذلك يشقّ عليه، فكانوا يجهّزون ميّتهم، ثم يحملونه إليه، فيصلّي عليه خارج المسجد، وربّما كان يصلّي أحياناً عليه في المسجد، كما صلّى على سهيل بن بيضاء وأخيه فيه.

ص -64-         وكان من هديه تغطية وجه الميّت إذا مات وبدنه، وتغميض عينيه وكان ربّما يقبّل الميّت، كما قبّل عثمان بن مظعون وبكى.
وكان يأمر بغسل الميّت ثلاثاً أو خمساً أو أكثر بحسب ما يراه الغاسل، ويأمر بالكافور في الغسلة الأخيرة.
وكان لا يغسل الشّهيد قتيل المعركة، وكان ينْزع عنهم الجلود والحديد، ويدفنهم في ثيابهم، ولم يصلِّ عليهم، وأمر أن يغسل المحرم بماءٍ وسدرٍ. ويفكن في ثوبي إحرامه، ونهى عن تطييبه، وتغطية رأسه، وكان يأمر مَن ولي الميّت أن يحسن كفنه، ويكفنه في البياض، وينهى عن المغالاة في الكفن، وإذا قصر الكفن عن ستر جميع البدن غطى رأسه، وجعل على رجليه شيئاً من العشب.
وكان إذا قدم إليه ميّت سأل: هل عليه دين؟ فإن لم يكن عليه دين صلّى عليه، وإن كان عليه دين، لم يصلِّ عليه، وأمر أصحابه أن يصلّوا عليه، فإنّ صلاته شفاعة، وشفاعته موجبة، والعبد مرتهن بدينه لا يدخل الجنّة حتى يقضى عنه، فلّما فتح الله عليه كان يصلّي على المدين، ويتحمل دينه، ويدع ماله لورثته.
فإذا أخذ في الصّلاة عليه، كبّر، وحمد الله، وأثنى عليه.
وصلّى ابن عبّاس على جنازةٍ، فقرأ بعد التّكبيرة الأولى بالفاتحة، وجهَر بها، وقال: لتعملوا أنّها سُنّة.
قال شيخُنا: لا تجب قراءتها، بل هي سُنّة.
وذكر أبو أمامة بن سهْل عن جماعةٍ من الصّحابة الصّلاة على النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فيها.

ص -65-         وروى يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة أنّه سأل عبادة بن الصّامت عن صلاة الجنازة، فقال: أنا والله أخبرك، تبدأ فتكبّر، ثم تصلّي على النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وتقول: اللهم إنّ عبدك فلاناً كان لا يشرك بك، وأنتَ أعلم به، إن كان محسناً فزدْ في إحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلّنا بعده.
ومقصود الصّلاة عليه الدّعاء، ولذلك حفظ عنه، ونقل من الدّعاء ما لم ينقل من قراءة الفاتحة، والصّلاة على النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
وحفظ من دعائه:
"اللهم إنّ فلان بن فلانٍ في ذمّتك، وحبل جوارك، فَقِهِ فتنة القبر، وعذاب النّار، وأنتَ أهل الوفاء والحقّ، فاغفر له، وارحمه إنّك أنت الغفور الرّحيم".
وحفظ من دعائه ـ أيضاً ـ:
"
اللهم أنتَ ربُّها، وأنتَ خلقتها، وأنتَ رزقتها، وأنتَ هديتها للإسلام، وأنتَ قبضتَ روحها، تعلم سرَّها وعلانيتها، جئنا شفعاء فاغفر لها".
وكان يأمر بإخلاص الدّعاء للميّت.
وكان يكبّر أربع تكبيرات، وصحّ عنه أنّه كبّر خمساً.
وكان الصّحابة يكبّرون أربعاً وخمساً، وستّاً.
قال علقمة: قلتُ لعبد الله: إنّ ناساً من أصحاب معاذ قدموا من الشّام، فكبّروا على ميّتٍ لهم خمساً. فقال: ليس على الميّت في التّكبير وقت، كبّر ما كبّر الإمام، فإذا انصرف الإمام فانصرف.
قيل للإمام أحمد: أتعرف عن أحدٍ من الصّحابة أنّهم كانوا يسلّمون

ص -66-         تسليمتين على الجنازة؟ قال: لا. ولكن عن ستّة من الصّحابة أنّهم كانوا يسلّمون تسليمةً واحدةً خفيفة عن يمينه، فذكر ابن عمر وابن عبّاس وأبا هريرة.
وأمّا رفع اليدين فقال الشّافعي: ترفع للأثر، والقياس على السُّنّة في الصّلاة. ويريد بالأثر ما روى عن ابن عمر وأنس أنّهما كانا يرفعان أيديهما كلّما كبّرا على الجنازة.
وكان إذا فاتته الصّلاة على الجنازة صلّى على القبر، فصلّى مرّة على قبر بعد ليلةٍ، ومرّة بعد ثلاثٍ، ومرّة بعد شهرٍ، ولم يوقّت في ذلك وقتاً، ومنع منها مالك إلاّ للولي إذا كان غائباً.
وكان يقوم عند رأس الرّجل، ووسط المرأة، وكان يصلّي على الطّفل، وكان لا يصلّي على مَن قتل نفسه، ولا على مَن غلَّ من الغنيمة، واختلف عنه في الصّلاة على المقتول حدّاً كالزّانى. فصحّ أنّه صلّى على الجهنية التي رجمها، واختلف في ماعزٍ، فإمّا أن يقال: لا تعارض بين ألفاظه، فإنّ الصّلاة فيه هي الدّعاء، وترك الصّلاة عليه تركها على جنازته تأديباً وتحذيراً. وإمّا أن يقال: إذا تعارضت ألفاظه عدل عنها إلى الحديث الآخر.
وكان إذا صلّى عليه تبعه إلى المقابر ماشياً أمامه، وسنّ للرّاكب أن يكون وراءها، وإن كان ماشياً يكون قريباً منها، إمّا خلفها، أو أمامها، أو عن يمينها، أو عن شمالها.
وكان يأمر بالإسراع بها حتى إن كانوا ليرملون بها رملاً، وكان يمشي إذا تبعها، ويقول:
"لم أكن لأركب والملائكة يمشون". فإذا انصرف فربّما ركب.

ص -67-         وكان لا يجلس حتى توضع، وقال: "إذا تبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع".
ولم يكن من هديه الصّلاة على كلّ ميّتٍ غائبٍ، وصحّ عنه أنّه صلّى على النّجاشي صلاته على الميّت، وتركه سنة، كما أنّ فعله سُنّة، فإن كان الغائب مات ببلدٍ لم يصلَّ عليه فيه، صُلِّيَ عليه، فإن النّجاشي مات بين الكفار.
وصحّ عنه أنّه أمر بالقيام للجنازة لما مرّت به، وصحّ عنه أنّه قعد، فقيل: القيام منسوخ. وقيل الأمران جائزان، وفعله بيان للاستحباب، وتركه بيان للجواز. وهذا أولى.
وكان من هديه أن لا يدفن الميّت عند طلوع الشّمس، ولا عند غروبها، ولا حين قيامها.
وكان من هديه اللّحدُ، وتعميق القبر، وتوسيعه من عند رأس الميّت ورجله، ويذكر عنه أنّه كان إذا وضع الميّت في القبر قال:
"بسم الله وبالله، وعلى ملّة رسول الله"، وفي روايةٍ: "بسم الله، وفي سبيل الله، وعلى ملّة رسول الله".
ويذكر عنه أنّه كان يحثو على الميّت إذا دفن من قبل رأسه ثلاثاً، وكان إذا فرغ من دفن الميّت، قام على قبره هو وأصحابه، وسأل له التّثبيت، وأمرهم بذلك.
ولم يكن يجلس يقرأ على القبر ولا يلقن الميّت، ولم يكن من هديه تعلية القبور، ولا بناؤها، ولا تطيينها، ولا بناء القباب عليها، وقد

ص -68-         بعث عليّ بن أبي طالب أن لا يدع تمثالاً إلاّ طمسه، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سوّاه، فسُنّته تسوية هذه القبور المشرفة كلّها.
ونهى أن يجصّص القبر، وأن يُبْنَى عليه، وأن يكتب عليه، وكان يعلِّم مَن أراد أن يعرف قبره بصخرةٍ، ونهى عن اتّخاذ القبور مساجد، وإيقاد السّرج عليها، ولعن فاعله، ونهى عن الصّلاة إليها، ونهى أن يتّخذ قبره عيداً.
وكان هديه أن لا تهان القبور وتوطأ، ويجلس عليها، ويتّكأ عليها، ولا تعظم بحيث تتّخذ مساجدَ وأعياداً وأوثاناً.
وكان يزور قبور أصحابه للدّعاء لهم، والاستغفار لهم، وهذه هي الزّيارة التي سَنَّها رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وأمرهم إذا زاروها أن يقولوا:
"السّلام عليكم أهل الدّيار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية".
وكان يقول ويفعل عند زيارتها من جنس ما يقوله عند الصّلاة عليه، فأبى المشركون إلاّ دعاء الميّت والإشراك به، وسؤاله الحوائج، والاستعانة به، والتّوجّه إليه، عكس هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فإنّه هدي توحيد وإحسان إلى الميّت.
وكان من هديه تعزية أهل الميّت، ولم يكن من هديه أن يجتمع ويقرأ له القرآن، لا عند القبر ولا غيره.
وكان من هديه أنّ أهل الميت لا يتكلّفون الطّعام للنّاس، بل أمر أن يصنع النّاس لهم طعاماً، وكان من هديه ترك نعي الميّت، بل كان ينهى عنه، ويقول:
"هو من عمل أهل الجاهلية".

ص -69-         فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في صلاة الخوف
أباح الله له قصر أركان الصّلاة وعددها إذا اجتمع الخوف والسّفر.
وقصر العدد وحده إذا كان سفراً لا خوف معه.
وقصر الأركان وحدها إذا كان خوفاً لا سفر معه، وبهذا تعلم الحكمة في تقييد القصر في الآية بالضّرب في الأرض والخوف.
وكان من هديه في صلاة الخوف إذا كان العدوّ بينه وبين القبلة أن يصفّ المسلمين خلفه صفّين، فيكبّر ويكبّرون جميعاً، ثم يركعون ويرفعون جميعاً، ثم يسجد أوّل الصّفّ الذي يليه خاصّة، ويقوم الصّفّ المؤخّر مواجه العدوّ، فإذا نهض للثّانية سجد الصّفّ المؤخّر سجدتين، ثم قاموا فتقدوا إلى مكان الصّفّ الأوّل، وتأخّر الصّفّ الأوّل مكانهم، لتحصل فضيلة الصّفّ الأوّل للطّائفتين، وليدرك الصّفّ الثّاني معه السّجدتين في الثّانية، وهذا غاية العدل، فإذا ركع صنع الطّائفتان كما صنعوا أوّل مرّةٍ، فإذا جلس للتّشهّد سجد الصّفّ المؤخّر سجدتين، ولحقوه في التّشهّد، فسلّم بهم جميعاً.
وإن كان العدوّ في غير جهة القبلة فإنّه تارةً يجعلهم فرقتين: فرقةٌ بإزاء العدوّ, وفرقةٌ تصلّي معه، فتصلّي معه إحدى الفرقتين ركعةً، ثم تنصرف في صلاتها إلى مكان الفرقة الأخرى، وتجيء الأخرى

ص -70-         إلى مكان هذه، فتصلّي معه الرّكعة الثّانية، ثم يسلّم، وتقضي كلّ طائفةٍ ركعةً ركعةً بعد سلام الإمام.
وتارةً يصلّي بإحدى الطّائفتين ركعةً، ثم يقوم إلى الثّانية، وتقضي هي ركعةً وهو واقف، وتسلّم قبل ركوعه، وتأتي الطّائفة الأخرى، فتصلّي معه الرّكعة الثّانية، فإذا جلس في التّشهّد، قامت فقضت ركعةً وهو ينتظرها في التّشهّد، فإذا تشهدت، سلّم بهم.
وتارةً كان يصلّي بإحدى الطّائفتين ركعتين ويسلّم بهم، وتأتي الأخرى فيصلّي بهم ركعتين ويسلّم بهم.
وتارةً كان يصلّي بإحدى الطّائفتين ركعةً، ثم تذهب ولا تقضي شيئاً، وتجيء الأخرى، فيصلّي بهم ركعةً ولا تقضي شيئاً، فيكون له ركعتان، ولهم ركعةٌ ركعةٌ، وهذه الأوجه كلّها تجوز الصّلاة بها.
قال أحمد: ستة أوجه أو سبعة تُروَى فيها كلّها جائزة.
وظاهر هذا أنّه جوَز أن تصلّي كلّ طائفة معه ركعةً، ولا تقضي شيئاً، وهذا مذهب جابر، وابن عبّاس، وطاووس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والحكم، وإسحاق.
وقد رُوِي فيها صفات أخر ترجع كلّها إلى هذه، وقد ذكرها بعضهم عشراً، وذكرها ابن حزم نحو خمس عشرة صفة، والصّحيح ما ذكرنا، وهؤلاء كلّما رأوا اختلاف الرّواة في قصّة، جعلوا ذلك وجوهاً من فعل النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.

ص -71-         فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الزّكاة
كان هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فيها أكمل هديٍ في وقتها وقدرها ونصابها، ومَن تجب عليه، ومصرفها، قد راعى فيها مصلحة أرباب الأموال، ومصلحة المساكين، وجعلها الله ـ سبحانه وتعالى ـ طهرةً للمال ولصاحبه، وقيد النّعمة بها على الأغنياء، فما زالت النّعمة بالمال عن مَن أدّى زكاته، بل يحفظه عليه وينمّيه.
ثم إنّه جعلها في أربعة أصنافٍ من المال وهي أكثر الأموال دوراً بين الخلق، وحاجتهم إليها ضرورية:
أحدها: الزّرع والثّمار.
والثّاني: بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم.
الثّالث: الجوهران اللّذان بهما قوام العالم، وهما: الذّهب والفضّة.
الرّابع: أموال التّجارة على اختلاف أنواعها.
ثم إنّه أوجبها في كلّ عامٍ، وجعل حول الثّمار والزّرع عند كمالهما واستوائهما، وهذا أعدل ما يكون، إذ وجوبها كلّ شهرٍ أو جمعةٍ مما يضرّ بأرباب الأموال، ووجوبها في العمر مرّة مما يضرّ بالمساكين.
ثم إنّه فاوت

ص -72-         بين مقادير الواجب بحسب السّعي في التّحصيل، فأوجب الخمس فيما صادفه الإنسان مجموعاً محصَّلاً وهو الرّكاز، ولم يعتبر له حولاً.
وأوجب نصفه وهو العشر فيما كان مشقّة تحصيله فوق ذلك، وذلك في الثّمار والزّروع التي يباشر حرثها، ويتولّى الله سقيها بلا كلفة من العبد، وأوجب نصف العشر فيما يتولى العبد سقيه بالكلفة والدّوالي والنّواضح ونحوهما، وأوجب نصف ذلك وهو ربع العشر فيما كان النّماء فيه موقوفاً على عملٍ متّصلٍ من ربّ المال، متتابع بالضّرب في الأرض تارةً، وبالإدارة تارةً، وبالتّربّص تارةً.
ثم إنّه لما كان لا يحتمل كلّ مالٍ المواساة، جعل للمال الذي تحتمله المواساة نصباً مقدّرة المواساة فيها، لا تجحف بأرباب الأموال، وتقع موقعها من المساكين، فجعل للورق مائتي درهم، وللذّهب عشرين مثقالاً، وللحبوب والثّمار خمسة أوسقٍ وهي خمسة أحمال من أحمال إبل العرب، وللغنم أربعين شاة، وللبقر ثلاثين، وللإبل خمساً، لكن لما كان نصابها لا يحتمل المواساة من جنسه، أوجب فيه شاة.
فإذا تكررت الخمس خمس مرّات، وصارت خمساً وعشرين، احتمل نصابها واحداً منها، ثم إنّه لما قد قدّر سنّ هذا الواجب في الزّيادة والنّقصان بحسب كثرة الإبل وقلّتها من ابن مخاض وبنت مخاض، وفوقه ابن لبون وبنت لبون، وفوقه الحقّ والحقّة، وفوقه الجذع والجذعة، وكلّما كثرت الإبل زاد السّن إلى أن يصل السّن إلى منتهاه، فحينئذٍ جعل زيادة عدد الواجب في مقابلة زيادات عدد المال، فاقتضت حكمته أن جعل في الأموال قدراً يحتمل المواساة، ولا يجحف بها، ويكفي المساكين، فوقع الظّلم من الطّائفتين، الغني بمنعه ما أوجب

ص -73-         عليه، والآخذ بأخذه ما لا يستحقّه، فتولد من بين الطّائفتين ضرر عظيم على المساكين1.
والله ـ سبحانه ـ تولّى قسمة الصّدقة بنفسه، وجزّأها ثمانية أجزاء يجمعها صنفان:
أحدهما: مَن يأخذ لحاجةٍ، فيأخذ بحسب شدّة الحاجة وضعفها، وكثرتها وقلّتها، وهم الفقراء، والمساكين، وفي الرّقاب، وابن السّبيل.
والثّاني: مَن يأخذ لمنفعته وهم: العاملون عليها، والمؤلَّفة قلوبهم، والغارمون لإصلاح ذات البين، والغزاة في سبيل الله، فإنّ لم يكن الآخذ محتاجاً، ولا منفعة فيه للمسلمين، فلا سهم له في الزّكاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا حكاية لواقع الكثير من النّاس، وما يجره الظّلم من المفاسد.

ص -74-         فصل
وكان إذا علم من الرّجل أنّه من أهلها أعطاه، وإن سأله منها مَن لا يعرف حاله أعطاه بعد أن يخبره أنّه لا حظّ فيها لغنيٍّ، ولا لقويٍّ مكتسب.
وكان من هديه تفريقها على المستحقّين في بلد المال، وما فضل عنهم منها حمل إليه ففرقه، وكذلك كان يبعث سعاته إلى البوادي، ولم يكن يبعثهم إلى القرى، بل أمر معاذاً أن يأخذها من أهل اليمن ويعطيها فقراءهم.
ولم يكن من هديه أن يبعث سعاته إلاّ إلى أهل الأموال الظّاهرة من المواشي والزّرع والثّمار، وكان يبعث الخارص يخرص على أهل النّخيل تمر نخيلهم، وعلى أهل الكروم كرومهم، وينظر كم يجيء منه وسقاً، فيحسب عليهم من الزّكاة بقدره، وكان يأمر الخارص أن يدع الثّلث أو الرّبع، فلا يخرصه لما يعرو النّخيل من النّوائب.
وكان هذا الخرص لكي تحصى الزّكاة قبل أن تؤكل الثّمار، وتفرق، وليتصرف فيها أربابها بما شاؤوا ويضمنوا قدر الزّكاة.
ولم يكن من هديه أخذها من الخيل، ولا الرّقيق، ولا البغال، ولا الحمير، ولا الخضروات، ولا المباطخ، ولا المقاثي والفواكه التي لا تكال، ولا تدخر، إلاّ العنب والرّطب، فلم يفرق بين رطبه ويابسه، وكان إذا جاء الرّجل بالزّكاة دعا له، فتارةً يقول:
"اللهم بارك فيه وفي إبله"، وتارةً يقول: "اللهم صلِّ عليه".

ص -75-         ولم يكن من هديه أخذ كرائم الأموال بل وسطه، وكان ينهى المتصدّق أن يشتري صدقته، وكان يبيح للغنيّ أن يأكل منها إذا أهداها إليه الفقير، وكان أحياناً يستدين لمصالح المسلمين على الصّدقة، وكان يسم إبل الصّدقة بيده، وإذا عراه أمر استسلف الصّدقة من أربابها، كما استسلف من العبّاس صدقة عامين.
وفرض زكاة الفطر عليه، وعلى مَن يمونه من صغيرٍ وكبيرٍ صاعاً من تمرٍ أو شعيرٍ أو أقط أو زبيبٍ، وروي عنه:
"صاعاً من دقيقٍ"، وروي عنه: "نصف صاعٍ من برٍّ". مكان الصّاع من هذه الأشياء، ذكره أبو داود، وفي (الصّحيحين) أنّ معاوية هو الذي قوّم ذلك.
وكان من هديه إخراجها قبل صلاة العيد، وفي (الصّحيحين) عن ابن عمر قال: أمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بزكاة الفطر أن تؤدّى قبل خروج النّاس إلى الصّلاة.
وفي (السنن) عنه:
"مَن أدّاها قبل الصّلاة، فهي زكاة مقبولة، ومَن أدّاها بعد الصّلاة، فهي صدقة من الصّدقات".
ومقتضى هذين الحديثين أنّه لا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، وأنّها تفوت بالفراغ من الصّلاة، وهذا هو الصّواب، ونظيره ترتيب الأضحية على صلاة الإمام، لا على وقتها، وأنّ مَن ذبح قبلها، فهي شاة لحمٍ.
وكان من هديه تخصيص المساكين بها، ولم يكن يقسمها على الأصناف الثّمانية، ولا فعله أحد من أصحابه، ولا مَن بعدهم.

ص -76-         فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في صدقة التّطوّع
كان أعظم النّاس صدقةً بما ملكت يده، ولا يستكثر شيئاً أعطاه لله، ولا يستقله، وكان لا يسأل أحدٌ شيئاً عنده إلاّ أعطاه، قليلاً كان أو كثيراً، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما أخذه، وكان إذا عرض له محتاج، آثره على نفسه، تارةً بطعامه، وتارةً بلباسه.
وكان يتَنوع في أصناف إعطائه وصدقته، فتارةً بالهدية، وتارةً بالصّدقة، وتارةً بالهبة، وتارةً بشراء الشّيء، ثم يعطي البائع السّلعة والثّمن، وتارةً يقترض الشيء فيردّ أكثر منه، ويقبل الهدية، ويكافئ عليها بأكثر منها، تلطّفاً وتنوّعاً في ضروب الإحسان بكلّ ممكنٍ، وكان إحسانه بما يملكه وبحاله وبقوله، فيخرج ما عنده، ويأمر بالصّدقة، ويحضّ عليها، فإذا رآه البخيل، دعاه حاله إلى البذل.
وكان مَن خالطه لا يملك نفسه عن السّماحة، ولذلك كان أشرح الخلق صدراً، وأطيبهم نفساً، فإنّ للصّدقة والمعروف تأثيراً عجيباً في شرح الصّدر، فانضاف ذلك إلى ما خصّه الله به من شرح صدره بالرّسالة وخصائصها وتوابعها، وشرح صدره حسّاً، وإخراج حظّ الشّيطان منه.
وأعظم أسباب شرح الصّدر التّوحيد، وعلى حسب كماله وقوّته وزيادته

ص -77-         يكون انشراح صدر صاحبه، قال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}، [الزّمر، من الآية: 22].
وقال تعالى:
{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً}، [الأنعام، من الآية: 125].
ومنها: النّور الذي يقذفه الله في القلب، وهو نور الإيمان، وفي التّرمذي مرفوعاً:
"إذا دخل النّورُ القلبَ انفسح وانشرح". الحديث.
ومنها: العلم، فإنّه شرح الصّدر، ويوسّعه، وليس هذا لكلّ علمٍ، بل للموروث عن الرّسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
ومنها: الإنابة إلى الله، ومحبّته بكلّ القلب، وللمحبّة تأثير عجيب في انشراح الصّدر، وطيب النّفس، وكلّما كانت المحبّة أقوى كان الصّدر أشرح، ولا يضيق إلاّ عند رؤية البطّالين.
ومنها: دوام الذّكر، فللذّكر تأثير عجيب في انشراح الصّدر.
ومنها: الإحسان إلى الخلق، ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه، والنّفع بالبدن، وأنوا الإحسان.
ومنها: الشّجاعة، فإنّ الشّجاع منشرح الصّدر.
وأمّا سرور الرّوح ولذّّتّها، فمحرّم على كلّ جبّان، كما هو محرّم على كلّ بخيلٍ، وعلى كلّ معرضٍ عن الله، غافلٍ عن ذكره، جاهلٍ به وبدينه، متعلق القلب بغيره، ولا عبرة بانشراح صدر هذا لعارضٍ، ولا يضيق صدر هذا لعارضٍ، فإنّ العوارض تزول بزوال أسبابها، وإنّما المعوّل على الصّفة التي قامت بالقلب توجب انشراحه وحبسه، فهي الميزان.
ومنها: ـ بل من أعظمها ـ إخراج دغل القلب من الصّفات المذمومة. ومنه ترك فضول النّظر والكلام، والاستماع والخلطة، والأكل والنّوم.

ص -78-         فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الصّيام
لما كان المقصود من الصّيام حبس النّفس عن الشّهوات، لتستعدّ لطلب ما فيه غاية سعادتها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظّمأ من حدتها، ويذكّرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضييق مجاري الشّيطان من العبد بتضييق مجاري الطّعام والشّراب، فهو لجام المتّقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار المقرّبين، وهو لربّ العالمين من بين الأعمال، فإنّ الصّائم لا يفعل شيئاً وإنّما يترك شهوته، فهو ترك المحبوبات لمحبّة الله، وهو سرٌّ بين العبد وربّه، إذ العباد قد يطّلعون على ترك المفطرات الظّاهرة، وأمّا كونه ترك ذلك لأجل معبوده فأمرٌ لا يطّلع عليه بشرٌ، وذلك حقيقة الصّوم.
وله تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظّاهرة، والقوى الباطنة عن التّخليط الجالب لها المواد الفاسدة، واستفراغ المواد الرّديئة المانعة لها من صحّتها، فهو من أكبر العون على التّقوى، كما قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، [البقرة الآية: 183].
وأمر ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من اشتدّت شهوته للنّكاح، ولا قدرة له عليه بالصّيام، وجعله وجاء هذه الشّهوة.

ص -79-         وكان هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فيه أكمل هدي، وأعظمه تحصيلاً للمقصود، وأسهله على النّفوس، ولما كان فطم النّفوس عن شهواتها ومألوفاتها من أشقّ الأمور، تأخر فرضه إلى ما بعد الهجرة، وفرض أوّلاً على وجه التّخيير بينه وبين أن يُطعم كلّ يوم مسكيناً، ثم حتم الصّوم، وجعل الإطعام للشّيخ الكبير والمرأة إذا لم يطيقا، ورخّص للمريض والمسافر أن يفطرا، ويقضيا، والحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما كذلك، وإن خافتا على ولديهما زادتا مع القضاء إطعام مسكين لكلّ يومٍ، فإنّ فطرهما لم يكن لخوف مرضٍ، وإنّما كان مع الصّحّة، فجبر بإطعام مسكين، كفطر الصّحيح في أوّل الإسلام.
وكان من هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادة، وكان جبريل يدارسه القرآن في رمضان، وكان يكثر فيه من الصّدقة والإحسان، وتلاوة القرآن، والصّلاة، والذّكر، والاعتكاف.
وكان يخصّه من العبادات بما لا يخصّ به غيره، حتى إنّه ليواصل فيه أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة.
وكان ينهى أصحابه عن الوصال، فيقولون له: إنّك تواصل؟
فيقول:
"لست كهيئتكم إنّي أبيت عند ربّي يطعمني ويسقيني". نهى عنه رحمةً للأمّة، وأذن فيه إلى السّحر.

ص -80-         فصل
وكان من هديه أن لا يدخل في صوم رمضان إلاّ برؤيةٍ محقّقةٍ، أو بشهادة شاهدٍ، فإن لم يكن رؤية ولاة شهادة، أكمل عدة شعبان ثلاثين، وكان إذا حال ليلة الثّلاثين دون منظره سحاب أكمل شعبان ثلاثين، ولم يكن صوم يوم الإغمام، ولا أمرَ به، بل أمر بإكمال عدة شعبان ولا يناقض هذا قوله: "فإن غُمّ عليكم فاقدروا له" فإنّ القدر: هو الحساب المقدور، والمراد به الإكمال.
وكان من هديه الخروج منه بشهادة اثنين، وإذا شهد شاهدان برؤيته بعد خروج وقت العيد، أفطر، وأمرهم بالفطر، وصلّى العيد من الغد في وقتها.
وكان يعجل الفطر، ويحثّ عليه، ويتسحر ويحثّ عليه، ويؤخّره ويرغب في تأخيره، وكان يحضّ على الفطر على التّمر، فإن لم يجده فعلى الماء.
ونهى الصّائم عن الرّفث والصّخب والسّباب، وجواب السّباب، وأمره أن يقول لِمَن سابّه: إنّي صائم.
وسافر في رمضان، فصام، وأفطر، وخيّر أصحابه بين الأمرين، وكان يأمرهم بالفطر إذا دنوا من العدوّ، ولم يكن من هديه تقدير المسافة التي يفطر فيها الصّائم بحدٍّ، وكان الصّحابة حين ينشؤون السّفر يفطرون

ص -81-         من غير اعتبار مجاوزة البيوت، ويخبرون أنّ ذلك هديه وسنته ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
وكان يدركه الفجر وهو جنب من أهله، فيغتسل بعد الفجر ويصوم.
وكان يقبّل بعض أزواجه وهو صائم في رمضان، وشبّه قبلة الصّائم بالمضمضة بالماء، ولم يصحّ عنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ التّفريق بين الشّاب والشّيخ.
وكان من هديه إسقاط القضاء عَمَن أكل أو شرب ناسياً، وأنّ الله هو الذي أطمعه وسقاه، والذي صحّ عنه تفطير الصّائم به: هو الأكل والشّرب، والحجامة والقيء، والقرآن دلّ على الجماع، ولم يصحّ عنه في الكحل شيء.
وصحّ عنه أنّه يستاك وهو صائم، وذكر أحمد عنه أنّه كان يصبّ على رأسه الماء وهو صائم، وكان يتمضمض ويستنشق وهو صائم، ومنع الصّائم من المبالغة في الاستنشاق.
ولا يصحّ عنه أنّه احتجم وهو صائم.
قال أحمد: وروي عنه أنّه قال في الإثمد:
"ليتقه الصّائم" ولا يصّح.
قال ابن معين: حديث منكر.

ص -82-         فصل
وكان يصوم حتى يقال: لا يفطر. ويفطر حتى يقال: لا يصوم.
وما استكمل صيام شهر غير رمضان، وما كان يصوم في شهر أكثر مِمّا كان يصوم شعبان، ولم يكن يخرج عنه شهر حتى يصوم منه، وكان يتحرى صيام الإثنين والخميس.
وقال ابن عبّاس: كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لا يفطر أيام البيض في حضرٍ ولا سفر. ذكره النّسائي. وكان يحضّ على صيامها.
وأمّا صيام عشر ذي الحجّة، فقد اختلف عنه فيه، وأمّا صيام ستة أيام من شوّال، فصحّ عنه أنّه قال:
"صيامها مع رمضان يعدلُ صيام الدّهر".
وأمّا يوم عاشوراء، فإنّه كان يتحرى صومه على سائر الأيام.
ولما قدم المدينة وجد اليهود تصومه وتعظمه، فقال:
"نحن أحقّ بموسى منكم" فصامه وأمر بصيامه، وذلك قبل فرض رمضان، فلمّا فرض رمضان قال: "مَن شاء صامه ومَن شاء تركه".
وكان من هديه إفطار يوم عرفة بعرفة ثبت عنه ذلك في (الصّحيحين)، وروي عنه أنّه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة رواه أهل (السّنن).
وصحّ عنه أنّ:
"صيامه يكفّر السّنة الماضية والباقية". ذكره مسلم.
ولم يكن من هديه صيام الدّهر. بل قد قال:
"مَن صام الدّهر لا صام ولا أفطر".
وكان يدخل على أهله، فيقول:
"هل عندكم شيء؟"، فإن قالوا: لا. قال: "إنّي إذاً صائم".
وكان أحياناً ينوي صوم التّطوّع،

ص -83-         ثم يفطر.
وأمّا حديث عائشة، أنّه قال لها ولحفصة:
"أقضيا يوماً مكانه" فهو حديث معلول.
وكان إذا نزل على قومٍ وهو صائم أتمّ صيامه، كما فعل لما دخل على أمّ سليم، ولكن أُمّ سليم عنده بمنْزلة أهل بيته.
وفي (الصّحيح) عنه أنّه قال:
"إذا دُعي أحدكم إلى طعامٍ وهو صائمٌ، فليقل: إنّي صائمٌ".
وكان من هديه كراهة تخصيص يوم الجمعة بالصّوم.

ص -84-         فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الاعتكاف
لما كان صلاح القلب، واستقامته في طريق سيره إلى الله تعالى متوقفاً على جمعيته على الله، وَلَمِّ شعثه بإقباله بالكليّة على الله، فإنّ شعث القلب لا يلمّه إلاّ الإقبال على الله، وكانت فضول الشّراب والطّعام، وفضول مخالطة الأنام، وفضول المنام، وفضول الكلام مما يزيده شعثاً، ويشتّته في كلّ وادٍ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، ويضعفه، أو يعوقه ويوقفه، اقتضت حكمة العزيز الرّحيم بعباده أنّ شرع لهم من الصّوم ما يذهب فضول الطّعام والشّراب، ويستفرغُ من القلب أخلاط الشّهوات المعوّقة له عن سيره إلى الله، وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يضرّه، وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله، والانقطاع عن الخلق، والاشتغال به وحده، فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنْسِه به يوم الوحشة في القبر.
ولما كان هذا المقصود إنّما يتمّ مع الصّوم، شرع الاعتكاف في أفضل أيّام الصّوم وهو العشر الأخير من رمضان، ولم يذكر الله ـ سبحانه ـ الاعتكاف إلاّ مع الصّوم، ولا فعله رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلاّ مع الصّوم.
وأمّا الكلام، فإنّه شرع للأمّة حبسَ اللّسان عن كلّ ما لا ينفع في الآخرة،

ص -85-         وأما فضول المنام، فإنّه شرع لهم من قيام اللّيل ما هو من أفضل السّهر وأحمده عاقبةً، وهو السّهر المتوسط الذي ينفع القلب والبدن، ولا يعوق العبد عن مصلحته، ومدار رياضة أرباب الرّياضات والسّلوك على هذه الأركان الأربعة، وأسعدهم بها مَن سلك فيها المنهاج المحمدّي، فلم ينحرف انحراف الغالين، ولا قصّر تقصير المفرطين، وقد ذكرنا هديه في صيامه وقيامه وكلامه، فلنذكر هديه في اعتكافه.
كان ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفّاه الله ـ عزّ وجلّ ـ، وتركه مرّة فقضاه في شوّال، واعتكف مرّة في العشر الأول، ثم الأوسط، ثم العشر الأواخر يلتمس ليلة القدر، ثم تبيّن له أنّها في العشر الأواخر، فداوم على الاعتكاف حتى لحق بربّه ـ عزّ وجلّ ـ، وكان يأمر بخباء، فيضرب له في المسجد يخلو فيه لربّه ـ عزّ وجلّ ـ، وكان إذا أراد الاعتكاف صلّى الفجر، ثم دخله، فأمر به مرّة، فضُرب له، فأمر أزواجه بأخبيتهن فضربت، فلمّا صلّى الفجر، نظر فرأى تلك الأخبية، فأمر بخبائه فقُوض، وترك الاعتكاف في رمضان حتى اعتكف العشر الأوّل من شوّال، وكان يعتكف كلّ سنة عشرة أيّام، فلمّا كان العام الذي قُبِضَ فيه، اعتكف عشرين يوماً، وكان يعارضه جبريل بالقرآن كلّ سنة مرّةً، فلمّا كان ذلك العام عارضه به مرّتين، وكان يُعرض عليه القرآن أيضاً في كلّ سنةٍ مرّة، فعرض عليه تلك السّنة مرّتين، وكان إذا اعتكف دخل قبته وحده، وكان لا يدخل بيته إلاّ لحاجة الإنسان، ويخرج رأسه إلى بيت عائشة فترجله وهي حائض، وكان بعض أزواجه تزوره وهو معتكف، فإذا قامت تذهب، قام معها يقلبها، وكان ذلك ليلاً، ولم يكن

ص -86-         يباشر امرأة من نسائه وهو معتكف لا بقبلة ولا غيرها، وكان إذا اعتكف طرح له فراشه وسريره في معتكفه.
وكان إذا خرج لحاجته، مرّ بالمريض وهو في طريقه، فلا يعرجُ عليه ولا يسأل عنه، واعتكف مرّة في قبّةٍ تركيّةٍ، وجعل على سدتها حصيراً، كلّ هذا تحصيل لمقصود الاعتكاف عكس ما يفعله الجهّال من اتّخاذ المعتكف موضع عشرة، ومجلبة للزّائرين، فهذا لونٌ والاعتكاف المحمّدي لونٌ.

ص -87-         فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في حجّه وعُمَره
اعتمر ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بعد الهجرة أربع عمر كلّهن في ذي القعدة:
الأولى: عمرة الحديبية سنة ستّ، فصده المشركون عن البيت، فنحرَ وحلق حيث صُدَّ هو وأصحابه وحَلُّوا.
الثّانية: عمرة القضية في العام المقبل دخلها، فأقام بها ثلاثاً ثم خرج.
الثّالثة: عمرته التي قرنَها مع حجّته.
الرّابعة: عمرته من الجعرانة، ولم يكن في عُمَره عمرة واحدة خارجاً من مكّة، كما يفعله كثير من النّاس اليوم، وإنّما كانت عمره كلّها داخلاً إلى مكّة، وقدم أقام بعد الوحي بمكّة ثلاث عشر سنة لم ينقل عنه أنّه اعتمر خارجاً من مكّة، ولم يفعله أحد على عهده قط إلاّ عائشة، لأنّها أهلّت بالعمرة، فحاضت فأمرها فقرنت، وأخبرها أنّ طوافها بالبيت وبالصّفا والمروة قد وقع عن حجّها وعمرتها، فوجدت في نفسها أن ترجع صواحبها بحجّ وعمرة مستقلّين، فإنّهن كُنَّ متمتعات، ولم يحضن، ولم يقرن، وترجع هي بعمر في ضمن حجّتها، فأمر أخاها أن يعمرها من التّنعيم تطييباً لقلبها، وكانت عُمره كلّها في أشهر الحجّ مخالفاً لهدي المشركين فإنّهم يكرهون العمرة فيها، وهذا دليل على أنّ الاعتمار في أشهر الحجّ

ص -88-         أفضل منه في رجب بلا شكّ، وأمّا في رمضان، فموضع نظر، وقد صحّ عنه أنّ: "عمرة في رمضان تعدل حجّة".
وقد يقال: كان رسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يشتغل في رمضان من العبادات بما هو أهمّ من العمرة مع ما في ترك ذلك من الرّحمة لأمّته، فإنّه لو فعل لبادرت الأمّة إلى ذلك، فكان يشقّ عليها الجمع بين العمرة والصّوم، وكان يترك كثيراً من العمل وهو يحبّ أن يعمله خشية المشقّة عليهم.
ولم يحفظ عنه أنّه اعتمر في السّنة إلاّ مرّة واحدة، ولا خلاف أنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لم يحجّ بعد الهجرة إلاّ حجّة واحدة سنة عشر، ولَمّا نزل فرض الحجّ، بادر إليه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من غير تأخير، فإنّ فرضه تأخّر إلى سنة تسع أو عشر.
وأمّا قوله تعالى:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، [البقرة، من الآية: 196]، فإنّها وإن نزلت سنة ستٍّ، فليس فيها فريضة الحجّ وإنّما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة، بعد الشّروع فيهما.
ولما عزم ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ على الحجّ أعلم النّاس أنّه حاجٌّ، فتجهّزوا للخروج معه، وسمع بذلك مَن حول المدينة، فقدموا يريدون الحجّ مع رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ووافاه في الطّريق خلائق لا يُحصَون، وكانوا من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله مدّ البصر، وخرج من المدينة نهاراً بعد الظّهر لستٍّ بقين من ذي القعدة بعد أن صلّى الظّهر بها أربعاً، وخطبهم قبل ذلك خُطبة علّمهم فيها الإحرام، وواجباته وسننه، فصلّى الظّهر، ثم ترجل، وادّهن، ولبس إزاره ورداءه، وخرج فنَزل بذي الحليفة، فصلّى بها العصر ركعتين.
ثم بات بها، وصلّى بها المغرب والعشاء، والصّبح والظّهر، وكان

ص -89-         نساؤه كلّهن معه، وطاف عليهن تلك اللّيلة.
فلمّا أراد الإحرام، اغتسل عسلاً ثانياً لإحرامه، ثم طيّبته عائشة بيدها بذريرة وطيب فيه مسك في بدنه ورأسه حتى كان وبيصُ المسك يُرى في مفارقه ولحيته، ثم استدامه، ولم يغسله، ثم لبس إزاره ورداءه، ثم صلّى الظّهر ركعتين، ثم أهلّ بالحجّ والعمرة في مصلاّه.
ولم يُنْقَل أنّه صلّى للإحرام ركعتين.
وقلّد قبل الإحرام بدنه نعلين، وأشعرها في جانبها الأيمن، فشقّ صفحة سنامها، وسلّت الدَّم عنها.
وإنّما قلنا: إنّه أحرم قارناً. لبضعة وعشرين حديثاً صريحة صحيحة في ذلك، ولبّد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ رأسه بالغسل هو بالمعجمة: وهو ما يغسل به الرّأس من خطمي ونحوه يلبد به الشّعر حتى لا ينتشر، وأهلّ في مصلاّه، ثم ركب ناقته، فأهلّ أيضاً، ثم أهلَّ أيضاً لما استقلّت به على البيداء، وكان يهلّ بالحجّ والعمرة تارّةً، وبالحجّ تارةً؛ لأنّ العمرة جزء منه، فَمِن ثَمَّ قيل: قَرَن. وقيل: تمتّع. وقيل: أفرد.
وقول ابن حزم: إنّ ذلك قبل الظهر بيسير وهم منه، والمحفوظ أنّه إنّما أهلّ بعد الظّهر، ولم يقل أحد قط: إنّ إحرامه كان قبل الظّهر.
فلا أدري من أين له هذا.
ثُمّ لبّى، فقال:
"لبّيك اللهم لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك، لا شريك لك".
ورفع صوته بهذه التّلبية حتى سمعها أصحابه، وأمرهم بأمر الله له أن يرفعوا أصواتهم بالتّلبية.
وكان حجّه على رحلٍ لا محملٍ وزاملته تحته، وقد اختلف في جواز ركوب المحرم في المحمل والعمارية ونحوهما.

ص -90-         وخيّرهم ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عند الإحرام بين الأنساك الثّلاثة، ثم ندبهم عند دنوهم من مكّة إلى فسخ الحجّ والقران إلى العمرة لِمَن لم يكن معه هدي، ثم حتم ذلك عليهم عند المروة.
وولدت أسماء بنت عميس محمّد بن أبي بكر، فأمرها أن تغتسل، وتستثفر بثوبٍ وتحرم وتهلَّ.
ففيه جواز غسل المحرم، وأنّ الحائض تغتسل، وأنّ الإحرام يصحّ من الحائض.
ثم سار رسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وهو يُلَبّي بتلبيته المذكورة، والنّاس معه يزيدون فيها وينقصون، وهو يقرّهم.
فلمّا كان بالرّوحاء، رأى حمار وحش عقيراً قال:
"دعوه، فإنّه يوشك أن يأتي صاحبه". فجاء صاحبه، فقال: "شأنكم به"، فأمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أبا بكرٍ، فقسمه بين الرّفاق.
ففيه جواز أكل المحرم صيد الحلال إذا لم يصد لأجله.
ويدلّ على أنّ الصّيد يُملك بالإثبات.
ثم مضى حتى إذا كان بين الرّويثَةِ والْعَرْج إذا ظبي حاقف في ظلٍّ فيه سهم، فأمر رجلاً أن يقف عنده لا يريبه أحد، والفرق بينه وبين الحمار أنّه لم يعلم أنّ الذي صاده حلال.
ثم سار حتى إذا نزل بالْعَرْج وكانت زاملتُه وزاملة أبي بكرٍ واحدة مع غلامٍ لأبي بكرٍ، فطلع الغلام وليس معه البعير، فقال: أين بعيرك؟ قال: أضللته البارحة. فقال أبو بكرٍ: بعيراً واحداً وتُضله! فطفق يضربه ورسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يبتسم، ويقول:
"انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع".

ص -91-         ثم مضى حتى إذا كان بالأبواء، أهدى له الصّعب بن جثامة عَجُز حمار وحشٍ، فردّه، وقال: "إنّا لم نردّه عليك إلاّ أنّا حُرم".
فلّما مَرَّ بوادي عُسفان قال:
"يا أبا بكرٍ أيّ وادٍ هذا؟". قال: وادي عُسفان. قال: "لقد مَرَّ به هود وصالح على بكرين أحمرين خُطُهما اللّيف، وأزرهما العَباء، وأرديتهما النّمار يلبُّون يحجّون البيت العتيق". ذكره أحمد.
فلما كان بسَرف حاضت عائشة، وقال لأصحابه بسَرف: "مَن لم يكن معه هدي، فَأَحَبَّ أن يجعلها عمرة، فليفعل، ومَن كان معه هدي فلا". وهذه رتبة أخرى فوق رتبة التّخيير عند الميقات، فلمّا كان بمكّة أمر أمراً حتماً مَن لا هدي معه أن يجعلها عمرة، ويحلّ من إحرامه، ومَن معه هدي أن يقيم على إحرامه، ولم ينسخ ذلك شيء البتّة، بل سأله سراقة بن مالك عن هذه العمرة التي أمرهم بالفسخ إليها: هل هي لعامهم ذلك أم للأبد؟ فقال:
"بل للأبد"، قال: ثم نهض رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلى أن نزل بذي طُوى وهي المعروفة بآبار الزّاهر، فبات بها ليلة الأحد لأربعٍ خلون من ذي الحجّة، وصلّى بها الصّبح، ثم اغتسل من يومه، ونهض إلى مكّة، فدخلها نهاراً من أعلاها من الثّنية العليا التي تشرف على الحجون، وكان في العمرة يدخلها من أسفلها، ثم سار حتى دخل المسجد، وذلك ضحىً.
وذكر الطّبري أنّه دخل من باب بني عبد مناف الذي يُسمّى باب بني شيبة، وذكر أحمد أنّه كان إذا دخل مكاناً من دار يعلى استقبل البيت، ودعا، وذكر الطّبري أنّه كان إذا نظر إلى البيت قال:
"اللهم زدْ هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابةً".

ص -92-         وروي عنه أنّه كان عند رؤيته يرفع يديه، ويكبّر، ويقول: "اللهم أنتَ السّلام، ومنك السّلام، حيّنا ربّنا بالسّلام، اللهم زدْ هذا البيت تشريفاً وتعظيماً، وتكريماً ومهابةً، وزدْ مَن حجّه أو اعتمره تكريماً وتشريفاً وتعظيماً وبرّاً". وهو مرسل.
فلمّا دخل المسجد، عمد إلى البيت، ولم يركع تحيّة المسجد، فإنّ تحية المسجد الحرام الطّواف، فلمّا حاذى الحجر، استلمه، ولم يزاحم عليه، ولم يتقدّم عنه إلى جهة الرّكن اليماني، ولم يرفع يديه، ولم يقل: نويتُ بطوافي هذا الأسبوع كذا وكذا، ولا افتتحه بالتّكبير، ولا حاذى الحجر بجميع بدنه، ثم انفتلَ عنه وجعله على شقّه الأيمن، بل استقبله واستلمه، ثم أخذ على يمينه، ولم يدع عند الباب، ولا تحت الميزاب، ولا عند ظهر الكعبة وأركانها، ولا وقّت للطّواف ذكراً معيّناً، بل حفظ عنه بين الرّكنين:
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، [البقرة، الآية: 201].
ورَمَلَ في طوافه هذه الثّلاثة الأشواط، وقاربَ بين خُطاه، واضطبعَ بردائه، فجعله على أحد كتفيه، وأبدى كتفه الآخر ومنكبه، وكلّما حاذى الحجر الأسود أشار إليه، واستلمه بِمِحْجَنه وقبّل المحجن، وهو عصاً محنية الرّأس.
وثبت عنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أنّه استلم الرّكن اليماني، ولم يثبت عنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أنّه قبّله، ولا قبّل يده عند استلامه، وثبتَ عنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أنّه قبّل الحجر الأسود، وثبت عنه أنّه استلمه بيده، فوضع يده عليه، ثم قبّلها، وثبت عنه أنّه استلمه بمحجنه، فهذه ثلاث

ص -93-         صفات. وذكر الطّبري بإسنادٍ جيّدٍ أنّه إذا استلم الرّكن قال: "بسم الله والله أكبر"، وكلّما أتى على الحجر الأسود قال: "الله أكبر"، ولم يستلم ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ولم يمسّ من الأركان إلاّ اليمانيين فقط.
فلمّا فرغ من طوافه جاء إلى خلف المقام، فقرأ:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى}، [البقرة، من الآية: 125]، فركع ركعتين، والمقام بينه وبين البيت، قرأ فيهما بعد الفاتحة بـ: (سورتي الإخلاص)، وقراءته الآية بيان منه المراد منها لله بفعله.
فلمّا فرغ من صلاته أقبل على الحجر، فاستلمه، ثم خرج إلى الصّفا من الباب الذي يقابله، فلمّا دنى منه قرأ:
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، [البقرة، من الآية: 158]، "أبدأ بما بدأ الله به".
وللنّسائي:
"ابْدؤوا" على الأمر.
ثم رقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحّد الله وكبّره، وقال:
"لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ، وهو على كلّ شيء قدير، لا إله إلاّ الله وحده، أنجزَ وعده، ونصر عبدهُ، وهزم الأحزاب وحده"، ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرّات، ثم نزل إلى المروة يمشي، فلمّا انصبّتْ قدماه سعى حتى إذا جاوز الوادي وأصعد، مشى، وذلك قبل الميلين الأخضرين في أوّل المسعى، والظّاهر أنّ الوادي لم يتغيّر عن وضعه.
فكان ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذا وَصَلَ المروة رقى عليها، واستقبل البيت، وكبّر الله ووحّده، وفعل كما فعل على الصّفا.
فلمّا أكمل سعيه عند المروة، أَمَرَ كّل مَن لا هدي معه أن يحلّ حتماً، وأمرهم أن يحلّوا الحلّ كلّهن وأن يبقوا كذلك إلى يوم التّروية، ولم يحلّ من أجل هديه.

ص -94-         وهناك قال: "لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لما سقتُ الهديَ، ولَجَعَلْتُها عمرة".
وهناك دعا للمحلّقين بالمغفرة ثلاثاً، وللمقصّرين مرّة.
وأمّا نساؤه فأحللن، وكن قارنات إلاّ عائشة، فإنّها لم تحلّ من أجل تعذر الحلّ بالحيض، وأمر مَن أهلّ كإهلاله أن يقيم على إحرامه إن كان معه هدي، وأن يحلّ إن لن يكن معه هدي.
وكان يصلّي مدّة مقامه إلى يوم التّروية بمنْزله بالمسلمين بظاهر مكّة، فأقام أربعة أيام يقصر الصّلاة، فلمّا كان يوم الخميس ضحى توجّه بِمَن معه من المسلمين إلى منى، فأحرم بالحجّ مَن كان أحلّ منهم من رحالهم، ولم يدخلوا إلى المسجد، بل أحرموا ومكّة خلف ظهرهم.
فلمّا وصل إلى منى نزل وصلّى بها الظّهر والعصر وبات بها، فلمّا طلعت الشّمس، سار إلى عرفة، وأخذ على طريق ضبّ على يمين طريق النّاس اليوم، وكان من الصّحابة الملبِّي، ومنهم المكبِّر، وهو يسمع ولا ينكر، فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة بأمره، وهي قرية شرقي عرفات، وهي خراب اليوم، فنَزل فيها حتى إذا زالت الشّمس أمر بناقته القصواء فرحلت، ثم سار حتى أتى بطن الوادي من أرض عُرَنَة.
فخطب النّاس وهو على راحلته خطبةً عظيمةً، قرّر فيها قواعد الإسلام، وهدم فيها قواعد الشّرك والجاهلية، وقرّر فيها تحريم المحرّمات التي اتّفقت الملل على تحريمها وهي الدّماء والأموال والأعراض، ووضع فيها أمور الجاهلية تحت قدميه، ووضع فيها ربا الجاهلية كلّه وأبطله.
وأوصاهم بالنّساء خيراً وذكر الحقّ الذي لهنّ وعليهن، وأنّ الواجب لهم الزّرق، والكسوة بالمعروف، ولم يقدر ذلك تقديراً، وأباح للأزواج

ص -95-         ضربهن إذا أدخلن إلى بيوتهن مَن يكرهه أزواجهن.
وأوصى فيها الأمّة بالاعتصام بكتاب الله، وأخبر أنّهم لن يضلّوا ما داموا معتصمين به، ثم أخبرهم أنّهم مسؤولون عنه، واستنطقهم بماذا يقولون، وبماذا يشهدون؟ فقالوا: نشهد إنّك قد بلّغتَ وأدّيتَ ونصحتَ. فرفع إصبعه إلى السّماء، واستشهد الله عليهم ثلاث مرّاتٍ، وأمرهم أن يبلغ شاهدهم غائبهم وخطب خطبةً واحدةً ولم تكن خطبتين جلس بينهما.
فلمّا أتمّها، أمر بلالاً فأذّن، ثم أقام، فصلّى الظّهر ركعتين أسرّ فيهما القراءة وكان يوم الجمعة، فدلّ على أنّ المسافر لا يصلّي الجمعة، ثم أقام، فصلّى العصر ركعتين أيضاً، ومعه أهل مكّة، فصلّوا بصلاته قصراً وجمعاً، وفيه أوضح دليل على أنّ سفر القصر لا يتحدّد بمسافةٍ معلومةٍ.
فلمّا فرغ من صلاته، ركب حتى أتى الموقف، فوقف في ذيل الجبل عند الصّخرات، واستقبل القبلة، وجعل حبل المشاة بين يديه، وكان على بعيره، فأخذ في الدّعاء والتّضرّع والابتهال إلى غروب الشّمس، وأمر النّاس أن يرفعوا عن بطن عُرَنَةَ، وأخبر أنّ
"عرفة كلّها موقف"، وأرسل إلى النّاس أن يكونوا على مشاعرهم، ويقفوا بها، فإنّها من إرث أبيهم إبرهيم، وكان في دعائه رافعاً يديه إلى صدره، كاستطعام المسكين، وأخبرهم: "أنّ خير الدّعاء يوم عرفة".
وذكر من دعائه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الموقف:
"اللهم لك الحمد كالذي نقول، وخيراً مما نقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، وإليك مَآبي، ولك ربِّ تراثي، اللهم إنّي أعوذ بك من عذاب القبر،

ص -96-         ووسوسة الصّدر، وشتات الأمر، اللهم إنّي أعوذ بك من شرّ ما تجيء به الرّيح". ذَكَرَهُ التّرمذي.
ومما ذكر من دعائه هناك:
"اللهم إنّك تسمعُ كلامي، وترى مكاني، وتعلم سرّي وعلانيتي ولا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقرّ المعترف بذنوبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذّليل، وأدعوك دعاء الخائف الضّرير مَن خضعت لك رقبتُهُ، وفاضت لك عيناه، وذلّ جسده، ورغم أنفه لك، اللهم لا تجعلني بدعائك ربّ شقيّاً، وكن بي رؤوفاً رحيماً يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين". ذكر الطّبراني.
وذكر أحمد من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جدِّه، كان أكثر دعاء النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يوم عرفة: "لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، بيده الخير، وهو على كلّ شيء قدير".
وأسانيد هذه الأدعية فيها لين.
وهنا أنْزلت عليه:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً}، [المائدة، من الآية: 3].
وهناك سقط رجل عن راحلته، فمات فأمرَ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أن يكفن في ثوبيه، ولا يمس بطيبٍ، وأن يغسل بماءٍ وسدرٍ، ولا يغطى رأسه ولا وجهه، وأخبر أنّ الله تعالى يبعثه يوم القيامة يلبِّي.
وفيه اثنا عشر حكماً:
الأوّل: وجوب غسل الميّت.

 

ص -97-         الثّاني: أنّه لا ينجس بالموت؛ لأنّه لو تنجس، لم يزده غسله إلاّ نجاسة.
الثّالث: أنّ الميّت يغسل بماءٍ وسدرٍ.
الرّابع: أنّ تغير الماء بالطّاهرات لا يسلبُهُ طهوريته.
الخامس: إباحة الغسل للمحرم.
السّادس: أنّ المحرم غير ممنوع من الماء والسّدر.
السّابع: أنّ الكفن مقدّم على الميراث وعلى الدّين؛ لأنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أمر أن يكفن في ثوبيه ولم يسأل عن وارثه ولا عن دين عليه.
الثّامن: جواز الاقتصار في الكفن على ثوبين.
التّاسع: أنّ المحرم ممنوع من الطّيب.
العاشر: أنّ المحرم ممنوع من تغطية رأسه.
الحادي عشر: منع المحرم من تغطية وجهه. وبإباحته، قال ستة من الصّحابة، واحتج المبيحون بأقوال هؤلاء، وأجابوا عن قوله:
"لا تخمّروا وجهه" بأنّ هذه اللّفظة غير محفوظة.
الثّاني عشر: بقاء الإحرام بعد الموت.
فلما غربت الشّمس واستحكم غروبها بحيث ذهبت الصّفرة، أفاض من عرفة، وأردف أُسامة بن زيد خلفَهُ، وأفاض بالسّكينة وضمّ إليه زمام ناقته حتى إنّ رأسها ليضرب طرف رحله، وهو يقول: "
أيّها النّاس عليكم السّكينة، فإنّ البرّ ليس بالإيضاع". أي: بالإسراع.
وأفاض من طريق المأزمَيْنِ، ودخلَ عرفة من طريق ضبّ، وهكذا

ص -98-         كانت عادته ـ صلوات الله وسلامُهُ عليه ـ في الأعياد أن يخالف الطّريق، ثم جعل يسير العَنَق وهو ضرب من المسير ليس بالسّريع ولا البطيء فإذا وجد فجوة ـ وهو المتسع ـ نصّ سيره، أي: رفعه فوق ذلك، وكلما أتى ربوة من الرّبى أرخى للنّاقة زمامها قليلاً حتى تصعد.
وكان يلبِّي في مسيره ذلك لا يقطع التّلبية، فلمّا كان في أثناء الطّريق نزل، فبال وتوضّأ وضوءاً خفيفاً، فقال له أسامة: الصّلاة يا رسول الله. قال:
"المصلّى أمامك".
ثم سار حتى أتى مزدلفة فتوضأ وضوء الصّلاة، ثم أمرَ بالأذان، فأذن المؤذّن، ثم أقام، فصلّى المغرب قبل حطّ الرّحال، وتبريك الجمال، فلمّا حطّوا رحالهم أمرَ، فأقيمت الصّلاة، ثم صلّى العشاء بإقامةٍ بلا أذانٍ، ولم يصلّ بينهما شيئاً، ثم نام حتى أصبح.
ولم يحي تلك اللّيلة، ولا صحّ عنه في إحياء ليلتي العيدين شيء، وأذن في تلك اللّيلة لضعفة أهله أن يتقدموا إلى منى قبل طلوع الفجر، وكان عند غيبوبة القمر، وأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشّمس.
وأمّا الحديث الذي فيه أنّ أمّ سلمة رمت قبل الفجر، فحديث منكر أنكره أحمد وغيره، ثم ذكر حديث سَوْدة، وأحاديث غيره، ثم قال:
"ثُمَّ تأملنا فإذا أنّه لا تعارض بين هذه الأحاديث، فإنّه أمَر الصّبيان أن لا يرمُوا الجمرة حتى تطلع الشّمس، فإنّه لا عذر لهم في تقديم الرّمي، أمّا من قدمه من النّساء: فرمين قبل طلوع الشّمس

ص -99-         للعُذر، والخوف عليهن من المزاحمة، وهذا الذي دلّت عليه السّنة: جواز الرّمي قبل طلوع الشّمس لعذرٍ من مرضٍ أو كبرٍ، وأمّا القادر الصّحيح فلا يجوز له ذلك. والذي دلّت عليه السّنة إنّما هو التّعجيل بعد غيبوبة القمر لا نصف اللّيل، وليس مع مَن حدّه بالنّصف دليل".
فلمّا طلع الفجر صلاّها في أوّل الوقت ـ لا قبله قطعاً ـ بأذانٍ وإقامةٍ،ثم ركب حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، وأخذ في الدّعاء والتّضرّع والتّكبير والتّهليل والذّكر حتى أسفر جدّاً، ووقف ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في موقفه، وأعلم النّاس أنّ مزدلفة كلّها موقف، ثم سار مردفاً للفضل وهو يلبِّي في مسيره، وانطلق أُسامة على رجليه في سُبّاقِ قريش.
وفي طريقه ذلك أمر ابن عبّاس أن يلقط له حصى الجمار سبع حصيات، ولم يكسّرها من الجبل تلك اللّيلة، كما يفعله مَن لا علم عنده، ولا التقطها باللّيل، فالتقط له سبعاً من حصى الخذف، فجعل ينفضهن في كفّه، ويقول:
"أمثال هؤلاء فارموا، وإيّاكم والغلوّ في الدّين، فإنّما أهلك مَن كان قبلكم الغلوّ في الدّين". فلمّا أتى بطن محسِّر حرّك ناقته وأسرع السّير، وهذه كانت عادته في المواضع التي نزل بها بأس الله بأعدائه، فإنّ هناك أصاب أصحاب الفيل ما قصّ الله، ولذلك سُمِّي وادي محسِّر؛ لأنّ الفيل حسّر فيه، أي: أعيي وانقطع عن الذّهاب إلى مكّة.
وكذلك فعل في سلوكه الْحجر. ومحسّر: برزخ بين منى ومزدلفة، لا من هذه، ولا من هذه، وعُرَنة: برزخ بين عرفة والمشعر الحرام فبين كلّ مشعرين برزخ ليس مهما، فمنى من الحرم وهي مشعر، ومحسّر من الحرم، وليس بمشعرٍ، ومزدلفة: حرم ومشعر، وعُرَنَة ليست مشعراً، وهي من الحلّ، وعرفة: حلّ ومشعر.

ص -100-      وسلك الطّريق الوسطي بين الطّريقين وهي التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى منى، فأتى جمرة العقبة، فوقف في أسفل الوادي، وجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، واستقبل الجمرة وهو على راحلته، فرماها راكباً بعد طلوع الشّمس واحدةً بعد واحدةٍ، يكبّر مع كلّ حصاةٍ وحينئذٍ قطع التّلبية وبلال وأُسامة معه أحدهما آخذ بخطام ناقته، والآخر يظلّه بثوبه من الحرّ.
وفيه جواز استظلال المحرم بالمحمل ونحوه.


ص -101-      فصل
ثم رجع إلى منى، فخطب خطبةً بليغةً أعلمهم فيها بحرمة يوم النّحر وتحريمه وفضله، وحرمة مكّة على جميع البلاد، وأمر بالسّمع والطّاعة لِمَن قادهم بكتاب الله، وأمر النّاس بأخذ مناسكهم عنه، وقال:
"لعلّي لا أحجّ بعد عامي هذا"، وعلّمهم مناسكهم، وأنزل المهاجرين والأنصار منازلهم، وأمر النّاس أن لا يرجعوا بعده كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعضٍ، وأمر بالتّبليغ عنه، وأخبر أنّه "رُبَّ مُبَلَّغٍ أوعى من سامعٍ"، وقال في خطبته: "لا يجني جانٍ إلا على نفسه". وأنزل المهاجرين عن يمين القبلة، والأنصار عن يسارها، والنّاس حولهم، وفتح الله له أسماع النّاس حتى سمعه أهل منى في منازلهم، وقال في خطبته تلك: "أعبدوا ربّكم، وصلّوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربّكم". وودع حينئذٍ النّاس، فقالوا: حجة الوداع.
ثم انصرف إلى المنحر بمنى، فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده وكان ينحرها قائمة معقولة يدها اليسرى، وكان عددها عدد سني عمره، ثم أمسك، وأمر عليّاً أن ينحر ما بقي من المائة، ثم أمره أن يتصدّق بجلالها وجلودها ولحومها في المساكين، وأمره أن لا يعطي الجزار في جزارتها شيئاً منها، وقال: "
نحن نعطيه من عندنا"، وقال: "مَن شاء اقتطع".
فإن قيل ففي (الصّحيحين) عن أنس في حجّته: ونحر ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بيده سبع بُدُن قياماً؟
قيل: يخرج على أحد وجوه ثلاثة:

ص -102-      أحدها: أنّه لم ينحر بيده أكثر من سبع بُدُنٍ، وأنّه أمر مَن نحر إلى تمام ثلاث وستّين، ثم زال عن ذلك المكان وأمر عليّاً، فنحر ما بقي.
الثّاني: أن يكون أنس لم يشاهد إلاّ السّبع، وشاهد جابر تمام النّحر.
الثّالث: أنّه نحر بيده منفرداً سبعاً، ثم أخذ هو وعليّ الحربة معاً فنحرا كذلك تمام ثلاث وستّين، كما قال غُرْفَة بن الحارث الكندي1: أنّه شاهد النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يومئذٍ قد أخذ بأعلى الحربة، وأمر عليّاً فأخذ بأسفلها، ونحرا بها البُدْن، ثم انفرد عليّ بنحر الباقي من المائة. والله أعلم.
ولم ينقل أحد أنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ولا أصحابه جمعوا بين الهدي والأضحية، بل كان هديهم هو ضحاياهم، فهو هدي بمنى، وأضحية بغيرها، وأمّا قول عائشة: ضحّى عن نسائه بالبقر، فهو هدي أطلق عليه اسم الأضحية، فإنّهن كن متمتّعات، وعليهن الهدي، وهو الذي نحره عنهن، لكن في قصّة نحر البقرة عنهن وَهُنَّ تسع إشكال، وهو: إجزاء البقرة عن أكثر من سبعةٍ، وهذا الحديث جاء بثلاثة ألفاظ:
أحدها: بقرة واحدة بينهن.
الثّاني: أنّه ضحّى عنهن يومئذٍ بالبقر.
الثّالث: دُخِل علينا يوم النّحر بلحم بقرٍ، فقلت: ما هذا؟ فقيل: ذبح رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عن أزواجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النّسختين: عروة بن مضرس، وهو خطأ، والتّصويب من زاد المعاد، وسنن أبي داود.

ص -103-      وقد اختلف في عدد مَن تجزئ عنه البدنة والبقرة.
فقيل: سبعة. وقيل: عشرة. وهو قول إسحاق، ثم ذكر أحاديث. ثم قال: وهذه الأحاديث تخرج على أحد وجوه ثلاثةٍ: إمّا أن يقال: أحاديث السّبعة أكثر وأصحّ، وإمّا أن يقال: عدد البعير بعشر من الغنم في الغنائم، لأجل تعديل القسمة، وأمّا في الهدايا والضّحايا، فهو تقدير شرعي، وإمّا أن يقال: ذلك يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والإبل. والله أعلم.
ونحر ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بمنحره بمنى، وأعلمهم أنّ
"منى كلّها منحر"، وأن "فجاج مكّة طريق ومنحر".
وفيه دليل على أنّ النّحر لا يختصّ بمنى، بل حيث نحر من فجاج مكّة أجزأه، لقوله:
"وقفت ها هنا وعرفة كلّها موقف".
وسئل أن يُبْنَى له بمنى مظلّة من الحرّ، فقال:
"لا. مِنى مناخ مَن سبق".
وفيه دليل على اشتراك المسلمين فيها، وأنّ مَن سبق إلى مكانٍ، فهو أحقّ به حتى يرتحل عنه، ولا يملك بذلك.
فلمّا أكمل نحره، استدعى بالحلاق، فحلق رأسه، وقال:
"يا معمر أمكنك رسول الله من شحمة أذنه، وفي يدك الموسى". فقال: أمّا والله يا رسول الله إنّ ذلك لمن نعمة الله عليَّ ومنّه. قال: "أجل". ذكره أحمد. وقال له: "خذ". وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم قسمه بين مَن يليه، ثم أشار إليه، فحلق الأيسر، ثم قال: "ها هنا أبو طلحة؟" فدفعه إليه.
ودعا للمحلّين بالمغفرة ثلاثاً، وللمقصّرين مرّة، وهو دليل على أنّ الحلق نسكٌ ليس بإطلاق من محظور.

ص -104-      فصل
ثم أفاض إلى مكّة قبل الظّهر راكباً، فطاف طواف الإفاضة، ولم يطف غيره، ولم يسع معه، هذا هو الصّواب، ولم يرمل فيه، ولا في طواف الوداع، وإنّما رمل في طواف القدوم.
ثم أتى زمزم وهم يسقون، فقال:
"لولا أن يغلبكم النّاس لنَزلت فسقيت معكم"، ثم ناولوه الدلوّ، فشرب وهو قائم، قيل: لأنّ النَّهي عن الشّرب قائماً على وجه الاختيار، وقيل: للحاجة وهو أظهر.
وفي (الصّحيح) عن ابن عبّاس: طاف رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في حجّة الوداع على بعيرٍ يستلم الرّكن بمحجن، وفيه مثله من حديث جابر، وفيه: لأن يراه النّاس، وليشرف، وليسألوه، فإنّ النّاس غشوه. وهذا ليس بطواف الوداع، فإنّه طافه ليلاً، ولا طواف القدوم، فإنّه رمل فيه، ولم يقل أحد: رملت به راحلته، ثم رجع إلى منى.
واختلف هل صلّى الظّهر بها أو بمكّة؟وطافت عائشة في ذلك اليوم طوافاً واحداً، وسعت سعياً واحداً أجزأها عن حجّها وعمرتها.
وطافت صفية ذلك اليوم، ثم حاضت فأجزأها ذلك عن طواف الوداع، فاستقرّت سنته ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذا حاضت المرأة قبل الطّواف أن تقرن وتكتفي بطوافٍ واحدٍ، وسعيٍ واحدٍ، وإن حاضت بعد طواف الإفاضة أجزأها عن طواف الوداع.
ثم رجع إلى منى من يومه ذلك فبات بها، فلمّا أصبح انتظر زوال الشّمس، فلمّا زالت مشى إلى الجمرة ولم يركب فبدأ

ص -105-      بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، فرماها بسبع حصياتٍ واحدة بعد واحدةٍ يقول مع كلّ حصاةٍ: الله أكبر، ثم تقدّم عن الجمرة أمامها حتى أسهل فقام مستقبل القبلة، ثم رفع يديه، ودعا دعاءً طويلاً بقدر سورة البقرة، ثم أتى الوسطى، فرماها كذلك.
ثم انحدر ذات اليسار مما يلي الوادي، فوقف مستقبل القبلة رافعاً يديه يدعو قريباً من وقوفه الأوّل، ثم أتى جمرة العقبة، فاستبطن الوادي وجعل البيت عن يساره، فرماها بسبع حصيات كذلك، ثم رجع، ولم يقف عندها.
فقيل: لضيق المكان، وقيل: ـ وهو أصّح ـ إنّ دعاءه كان في نفس العبادة، فلمّا رماها، فرغ الرّمي، والدّعاء في صلب العبادة أفضل.
ولم يزل في نفسي هل كان يرمي قبل الصّلاة أو بعدها، والذي يغلب على الظّنّ أنّه قبلها؛ لأنّ جابراً وغيره قالوا: كان يرمي إذا زالت الشّمس.

ص -106-      فصل
فقد تضمنت حجته ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ستّ وقفاتٍ للدّعاء: على الصّفا، وعلى المروة، وبعرفة، وبمزدلفة، وعند الجمرة الأولى، وعند الجمرة الثّانية.
وخطب بمنى خطبتين، يوم النّحر وتقدمت، والثّانية في أوسط أيام التّشريق، واستأذنه العبّاس أن يبيت بمكّة ليالي منى من أجل سقايته، فأذن له، واستأذنه رعاء الإبل في البيتوتة خارج منى عند الإبل، فأرخص لهم أن يرموا يوم النّحر، ثم يجمعوا رمي يومين بعده يرمونه في أحدهما.
قال مالك:
"ظننتُ أنّه قال: في أوّل يومٍ منهما، ثم يرمون يوم النّفر".
وقال ابن عيينة في هذا الحديث:
"رخص للرّعاء أن يرموا يوماً، ويَدَعُوا يوماً، فيجوز للطّائفتين بالسّنة ترك المبيت بمنى".
وأمّا الرّمي، فإنّهم لا يتركونه، بل لهم أن يؤخرّوه إلى اللّيل، ولهم أن يجمعوا رمي يومين في يومٍ.
ومَن له مالٌ يخاف ضياعه، أو مريض يخاف من تخلفه عنه، أو كان مريضاً لا يمكنه البيتوتة، سقطت عنه بتنبيه النّصّ على هؤلاء.
ولم يتعجل في يومين، بل تأخّر حتى أكمل الرّمي في الأيام الثّلاثة، وأفاض يوم الثّلاثاء بعد الظّهر إلى المحصب، وهو الأبطح، وهو خيف بني كنانة، فوجد أبا رافعٍ قد ضرب قبّته هناك، وكان على ثقله توفيقاً من الله ـ عزّ وجلّ ـ دون أن يأمره به رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فصلّى به الظّهر والعصر، والمغرب والعشاء، ورقد رقدةً، ثم نهض إلى مكّة، فطاف للوّداع ليلاً سحراً.

ص -107-      ورغبت إليه عائشة تلك اللّيلة أن يعمرها عمرةً مفردةً، فأخبرها أنّ طوافها بالبيت وبالصّفا والمروة قد أجزأها عن حجّها وعمرتها، فأبت إلاّ أن تعتمر عمرةً مفردةً، فأمر أخاها أن يعمرها من التّنعيم، ففرغت من عمرتها ليلاً، ثم وافت المحصب مع أخيها في جوف اللّيل، فقال: "فرغتما؟"، قالت: نعم. فنادى بالرّحيل، فارتحل النّاس.
وفي حديث الأسود في (الصّحيح) عنها: فلقيني رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وهو مصعد من مكّة، وأنا منهبطة عليها، أو أنا مصعدة وهو منهبط منها.
ففيه أنّهما تلاقيا، وفي الأوّل أنّه انتظرها في منْزله، فإن كان حديث الأسود محفوظاً، فصوابه: لقيني وأنا مصعدة من مكّة وهو منهبط إليها. فإنّها قضت عمرتها، ثم أصعدت لميعاده، فوافته وقد أخذ في الهبوط إلى مكّة للوداع، وله وجه غير هذا. واختلف في التّحصيب هل هو سنة أو منْزل اتّفاق؟

ص -108-      فصل
ويرى كثير من النّاس أنّ دخول البيت من سنن الحجّ، اقتداءً بالنَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، والذي تدلّ عليه سنته أنّه لم يدخله في حجّته، ولا في عمرته، وإنّما دخله عام الفتح، وكذلك الوقوف في الملتزم الذي روي عنه أنّه فعله يوم الفتح.
وأمّا ما رواه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه أنّه وضع صدره ووجهه وذراعيه وكفّيه وبسطهما، وقال: هكذا رأيت رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يفعله. فهذا يحتمل أن يكون وقت الوداع، وأن يكون في غيره، ولكن قال مجاهد وغيره: يستحب أن يقف في الملتزم بعد طواف الوداع، وكان ابن عبّاس يلتزم ما بين الرّكن والباب.
وفي (صحيح البخاري) أنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لما أراد الخروج، ولم تكن أمّ سلمة طافت بالبيت وهي شاكية، وأرادت الخروج، فقال لها:
"إذا أقيمت صلاة الصّبح، فطوفي على بعيرك والنّاس يصلّون". ففعلت ولم تصلّ حتى خرجت، وهذا محال أن يكون يوم النّحر، فهو طواف الوداع بلا ريب، فظهر أنّه صلّى الصّبح يومئذٍ بمكّة، وسمعته أمّ سلمة يقرأ بـ: (الطّور) ثم ارتحل راجعاً إلى المدينة.
فلمّا كان بالرّوحاء لقي رَكْباً، فسلّم عليهم، وقال:
"مَن القوم؟"، فقالوا: المسلمون. قالوا: فمَن القوم؟ فقال: "رسول الله ـ صلّى الله

ص -109-      عليه وسلّم ـ"، فرفعت إليه امرأة صبيّاً لها من محفةٍ، فقالت: يا رسول الله ألهذا حجٌّ؟ قال: "نعم، ولك أجر".
فلَمّا أتى ذا الحليفة، بات بها، فلمّا رأى المدينة كبّر ثلاث مرّات، وقال:
"لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربّنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". ثم دخلها نهاراً من طريق المعرس وخرج من طريق الشّجرة.

ص -110-      فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الهدايا والضّحايا والعقيقة
وهي مختصة بالأزواج الثّمانية المذكورة في (سورة الأنعام)، وهذا مأخوذ من القرآن من أربع آيات:
{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ}، [المائدة، من الآية: 1].
الثّانية:
{لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ}، [الحج، من الآية: 34].
الثّالثة:
{وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً}، [الأنعام، من الآية: 142]، الآية، والتي تليها.
الرّابعة: قوله:
{هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}، [المائدة، من الآية: 95].
فدلّ على أنّ الذي يبلغ الكعبة من الهدي هو هذه الأزواج الثّمانية، وهذا استنباط علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه
والذّبائح التي هي عبادة ثلاث: الهدي والأضحية والعقيقة، فأهدى ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ الغنم، وأهدى الإبل، وأهدى عن نسائه البقر والهدي في مقامه، وفي حجّته، وفي عمرته، وكانت سنته تقليد الغنم دون إشعارها، وإذا بعث بهديه وهو مقيم، لم يحرم منه شيئاً كان منه حلالاً، وإذا أهدى الإبل قلّدها وأشعرها، فيشق صفحة سنامها الأيمن يسيراً حتى يسيل الدّمّ، وإذا بعث بهدي أمر رسوله إذا أشرف على عطب شيء منه أن ينحر، ثم يضع نعله في دمه، ثم يجعله على حد صفحته ولا يأكل منه، ولا أحد من رفقته، ثم يقسم لحمه، ومنعه من هذا الأكل سدّاً للذّريعة لئلا يقصر في حفظه.

ص -111-      وشرك بين أصحابه في الهدي البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، وأباح لسائق الهدي ركوبه بالمعروف إذا احتاج حتى يجد غيره، وقال عليّ: يشرب من لبنها ما فضل عن ولدها.
وكان هديه نحر الإبل قياماً معقولة يدها اليسرى، وكان يسمّي الله عند نحره ويكبّر، وكان يذبح نسكه بيده وربّما وكّل في بعضه، وكان إذا ذبح الغنم، وضع قدميه على صفاحها، ثم سمّى وكبّر ونحر، وأباح لأمّته أن يأكلوا من هداياهم وضحاياهم، ويتزودوا منها، ونهاهم أن يدّخروا منها بعد ثلاثٍ لدافةٍ دفت عليهم ذلك العام، وربّما قسم لحم الهدي، وربّما قال:
"مَن شاء اقتطع". واستدلوا به على جواز النّهبة في النّثار في العرس ونحوه، وفرّق بينهما بما لا يتبيّن، وكان من هديه ذبح هدي العمرة عند المروة، وهدي القران بمنى، ولم ينحر هديه قطّ إلاّ بعد أن حلّ، ولم ينحره أيضاً إلاّ بعد طلوع الشّمس وبعد الرّمي، فهذه أربعة أمور مرتّبة يوم النّحر أوّلها: الرّمي، ثم النّحر، ثم الحلق، ثم الطّواف، ولم يرخص في النّحر قبل طلوع الشّمس البتّة.

ص -112-      فصل
وأمّا هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الأضاحي، فإنّه لم يكن يدع الأضحية، وكان يضحّي بكبشين ينحرهما بعد الصّلاة، وأخبر أنّ مَن ذبح قبلها، فليس من النّسك في شيء، وإنّما هو لحم قدمه لأهله هذا الذي ندين الله به، لا الاعتبار بوقت الصّلاة. وأمرهم أن يذبحوا الجذع من الضّأن، والثني مما سواه، وروي عنه أنّه قال: "كلّ أيّام التّشريق ذبح". ولكنه منقطع. وهو مذهب عطاء والحسن والشّافعي واختاره ابن المنذر.
وكان من هديه اختيار الأضحية واستحسانها وسلامتها من العيوب، ونهى عن أن يضحّى بعضباء الأذن والقرن، أي: مقطوع الأذن، ومكسور القرن النّصف فما زاد، ذكره أبو داود، وأمر أن تستشرف العين، والأذن، أي: ينظر إلى سلامتها.
وأن لا يضحّي بعوراء، ولا مقابلة، ولا مدابرة، ولا شرقاء، ولا خرقاء، والمقابلة: التي يقطع مقدم أذنها، والمدابرة: التي يقطع مؤخّر أذنها، والشّرقاء: التي شقّت أذنها، والخرقاء: التي خرقت أذنها. ذكره أبو داود.
وكان من هديه أن يضحّي في المصلّى، وذكر أبو داود عنه أنّه ذبح يوم النّحر كبشين أقرنين أملحين موجوءين، فلمّا وجّههما قال

ص -113-       "{وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ـ [الأنعام، من الآية: 79] ـ {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} ـ[الأنعام، الآية: 163] ـ اللهم منك ولك عن محمّدٍ وأمّته، بسم الله والله أكبر". ثم ذبح.
وأمر النّاس إذا ذبحوا أن يحسنوا الذّبحة، وإذا قتلوا أن يحسنوا القتلة، وقال:
"إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء".
ومن هديه أنّ الشّاة تجزئ عن الرّجل وعن أهل بيته.

ص -114-      فصل:
في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في العقيقة
في (الموطّأ) أنّه سئل عنها فقال:
"لا أحبّ العقوق"، كأنّه كره الاسم، وصحّ عنه من حديث عائشة: "عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة". وقال: "كلّ غلامٍ رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم السّابع، ويحلق رأسه ويسمّى". والرّهن في اللّغة: الحبس، قيل: محبوساً عن الشّفاعة لأبويه، والظّاهر أنّه مرتهن في نفسه محبوس من خيرٍ يراد به، ولا يلزم منه أن يعاقب في الآخرة.
وقد يفوت الولد خيرٌ بسبب تفريط الأبوين، كترك التّسمية عند الجماع، وذكر أبو داود في (المراسيل) عن جعفر بن محمّد عن أبيه أنّ النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال في عقيقة الحسن والحسين: "أن يبعثوا إلى بيت القابلة بِرِجْلٍ، وكلوا وأطعموا ولا تكسروا منها عظماً".
قال الميموني: تذاكرنا لِكمْ يسمّى الصّبي؟ فقال أبو عبد الله: يروى عن أنس أنّه يسمى لثلاثة، وأمّا سمرة، فقال: يسمّى اليوم السّابع.

ص -115-      فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الأسماء والكنى
ثبت عنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أنّه قال: "إنّ أخنع اسمٍ عند الله ـ عزّ وجلّ ـ رجلٌ تسمّى ملك الأملاك، لا مالك إلاّ الله".
وثبت عنه:
"إنّ أحبّ الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرّحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرّة".
وثبت عنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أنّه قال:
"لا تسمّين علامك يساراً ولا رباحاً ولا نجيحاً ولا أفلح، فإنّك تقول: أَثَمَّ هو؟ فلا يكون، فيقول: لا".
وثبت عنه أنّه غيّر اسم عاصية، وقال: "أنتِ جميلة"، وكان اسم جويرية برّة، فغيّره باسم جويرية، وقالت زينب بنت أمّ سلمة: نهى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أن يسمّى بهذا الاسم، وقال: "لا تزكّوا أنفسكم الله أعلم بأهل البرّ منكم".
وغيّر اسم أبي الحكم بأبي شريح، وغيّر اسم أصرم بزرعة، وغيّر اسم حزن جدّ ابن المسيّب بسهل، فأبى، وقال: السّهل يُوطأ ويمتهن.
وقال أبود: وغيّر النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ اسم العاص وعزيز وعتلة وشيطان والحكم وغراب وحُباب وشهاب، فسمّاه هشاماً، وسمّى

ص -116-      حرباً سلماً، وسمّى المضطجع المنبعِث، وأرضاً عَفْرة سمّاها خضرة وشِعب الضّلالة سمّاه شعب الهدى، وبنو مغوية سمّاهم بني رِشدة.
ولما كانت الأسماء قوالب للمعاني دالّة عليها، اقتضت الحكمة أن يكون بينها وبينها ارتباط وتناسب، وأن لا يكون المعنى معها بمنْزلة الأجنبي المحض، فإنّ الحكمة تأبى ذلك، والواقع يشهد بخلافه، بل للأسماء تأثير في المسمّيات، وللمسميّات تأثر عن أسمائها في الحسن والقبح، والخفّة والثّقل، واللّطافة والكثافة، كما قيل:
وقلّ أن أبصرت عيناك ذا لقبٍ        إلاّ ومعناه إن فكرت في لقبه
وكان ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يحبّ الاسم الحسن، وأمر إذا أبردوا إليه بريداً أن يكون حسن الاسم، حسن الوجه، وكان يأخذ المعاني من أسمائها في المنام واليقظة، كما رأى أنّه هو وأصحابه في دار عقبة بن رافع، فأتوا برطبٍ من رطب ابن طاب، فَأَوَّلَهُ أنّ العاقبة لهم في الدّنيا، والرّفعة في الآخرة، وأنّ الدّين الذي اختاره الله لهم قد أرطب وطاب.
وتأوّل سهولة الأمر يوم الحديبية من مجيء سهيل، وندب جماعة إلى حَلْبِ شاةٍ، فقام رجلٌ يحلبها، فقال:
"ما اسمك؟"، قال: مرّة. فقال: "اجلس"، فقام آخر: فقال: "ما اسمك؟"، قال: أظنّه: حرب. قال: "اجلس"، فقام آخر، فقال: "ما اسمك؟"، قال: يعيش، قال: "احلبها".
وكان يكره الأمكنة المنكرة الأسماء، ويكره العبور فيها، كما مرّ بين جبلين، فسأل اسمهما، فقالوا: فاضح ومخزي، فعدل عنهما.

ص -117-      ولما كان بين الأسماء والمسميّات من الارتباط والتّناسب والقرابة ما بين قوالب الأشياء وحقائقها، وما بين الأرواح والأجسام، عَبَرَ العقل من كلّ منهما إلى الآخر، كما كان إياس بن معاوية وغيره يرى الشّخص، فيقول: ينبغي أن يكون اسمه كيت وكيت، فلا يكاد يخطيء، وضد هذا العبور من اسمه إلى مسمّاه، كما سأل عمر رجلاً عن اسمه، فقال: جمرة. فقال: واسم أبيك؟ فقال: شهاب. قال: فمنْزلك؟ قال: بحرة النّار. قال: فأين مسكنك؟ قال: بذات لظى. قال: اذهب فقد احترق مسكنك. قال: فذهب فوجد الأمر كذلك.
كما عبر النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عن اسم سهيل إلى سهولة أمرهم، وأمر أمّته بتحسين أسمائهم، وأخبر أنّهم يدعون يوم القيامة بها، وتأمّل كيف اشتقّ للنَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من وصفه اسمان مطابقان لمعناه وهما: أحمد، ومحمّد، فهو لكثرة ما فيه من الصّفات المحمودة وشرفها وفضلها على صفات غيره أحمد، وكذلك تكنيته لأبي الحكم بأبي جهل، وكذلك تكنية الله ـ عزّل وجلّ ـ لعبد العزّى بأبي لهبٍ لما كان مصيره إلى ذات لهبٍ، ولما قدم النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ المدينة، واسمها يثرب، سمّاها طيبة لما زال عنها من معنى التّثريب. ولما كان الاسم الحسن يقتضي مسمّاه قال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لبعض العرب:
"يا بني عبد الله إنّ الله قد أحسن اسمكم واسم أبيكم". فانظر كيف دعاهم إلى عبودية الله بذلك.
وتأمّل أسماء السّتة المتبارزين يوم بدر، فالوليد له بداية الضّعف، وشيبة له نهايته، وعتبة من العتب، وأقرانهم علي وعبيدة والحارث، العلوّ والعبودية والسعي الذي هو الحرث، ولذلك كان أحبّ الأسماء إلى الله

ص -118-      ما اقتضى أحبّ الأوصاف إليه، فإضافة العبودية إلى اسمه (الله) و(الرّحمن) أحبّ إليه من إضافتها إلى (القادر) و(القاهر) وغيرهما، وهذا لأنّ التّعلّق الذي بين العبد وربّه إنّما هو العبودية المحضة، والتّعلّق بين الله وبين العبد بالرّحمة المحضة، فبرحمته كان وجوده وكماله، والغاية التي أوجده لأجلها أن يتألّهه وحده محبّةً وخوفاً ورجاءً. ولما كان كلّ عبدٍ متحركاً بالإرادة، والهمّ مبدأ الإرادة، وترتّب على إرادته حرثه وكسبه، كان أصدق الأسماء همام وحارث. ولما كان الملك الحقّ لله وحده، كان أخنع اسم عند الله، وأغضبه له اسم (شاهان شاه"، أي: ملك الملوك، وسلطان السّلاطين، فإنّ ذلك ليس لأحدٍ غير الله ـ عزّ وجلّ ـ فتسمية غيره بهذا باطلٌ، والله لا يحبّ الباطل. وقد ألحق بعضهم بهذا قاضي القضاة، ويليه في القبح سيّد النّاس، لأنّ ذلك ليس لأحدٍ إلاّ لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
ولما كان مسمّى الحرب والمرارة أكره شيء للنّفوس، كان أقبح الأشياء حرباً ومرّةً. وعلى قياسه حنظلة وحزن وما أشبههما. ولما كانت أخلاق الأنبياء أشرف الأخلاق، كانت في أسمائهم أحسن الأسماء، فندب النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أمّته إلى التّسمِّي بأسمائهم، كما في سنن أبي داود والنّسائي عنه:
"تسمّوا بأسماء الأنبياء"، ولو لم يكن فيه إلاّ أنّ الاسم يذكر بمسمّاه، ويقتضي التّعلّق بمعناه، لكفى به مصلحةً.
وأمّا النّهي عن تسمية الغلام بيسار ونحوه، فهو لمعنىً آخر أشار إليه في الحديث، وهو قوله: "فإنّك تقول: أَثَمَّ هو؟" إلى آخره، والله أعلم هل هي من تمام الحديث أو مدرجة؟ فإنّ هذه الأسماء لما كانت قد توجب تطيّراً، وقد

ص -119-      تقطع الطّيرة على المتطيّرين، فاقتضت حكمة الرّؤوف بأمّته أن يمنعهم من أسباب توجب سماع المكروه أو وقوعه، هذا إلى ما ينضاف إلى ذلك من تعليق ضدّ الاسم عليه بأن يسمّى يساراً مَن هو أعسر النّاس، ونجيحاً مَن لا نجاح معه، ورباحاً مَن هو من الخاسرين، فيكون قد وقع في الكذب عليه وعلى الله. وأمر آخر وهو أن يطالب بمقتضى اسمه، فلا يوجد، فيجعل ذلك سبباً لسبّه، كما قيل:
 سمّوك من جهلهم سديداً          والله ما فيك من سداد
وهذا كما أنّ من المدح يكون ذمّاً موجباً لسقوط الممدوح عند النّاس، فإنّه يمدح بما ليس فيه، فتطالبه النّفوس بما مدح به، وتظنّه عنده، فلا تجده كذلك فينقلب ذمّاً، ولو ترك لغير مدحٍ لم تحصل تلك المفسدة، وأمر آخر وهو اعتقاد المسمّى أنّه كذلك، فيقع في تزكية نفسه كما نهى أن تسمّى برّة، فعلى هذا تكره التّسمية بالرّشيد والمطيع والطّائع وأمثال ذلك.
وأمّا تسمية الكفار بذلك، فلا يجوز التّمكين منه ولا دعاؤهم بشيء من ذلك.
وأمّا الكنية، فهي نوع تكريم، وكنى النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ صهيباً بأبي يحيى، وعليّاً بأبي ترابٍ، وكنى أخا أنس وهو صغير بأبي عمير، وكان هديه تكينة مَن له ولد، ومَن لا ولد له، ولم يثبت عنه أنّه نهى عن كنيةٍ إلاّ الكنية بأبي القاسم، فاختلف فيه، فقيل: لا يجوز مطلقاً، وقيل: لا يجوز الجمع بينها وبين اسمه، وفيه حديث صحّحه التّرمذي، وقيل

ص -120-      : يجوز الجمع بينهما، لحديث عليّ، إن ولد لي من بعدك ولد أسمّيه باسمك، وأكنّيه بكنيتك؟ قال: "نعم". صحّحه التّرمذي، وقيل: المنع منه مختصّ بحياته.
والصّواب أنّ التّكنّي بكنيته ممنوع منه، والمنع في حياته أشدّ، والجمع بينهما ممنوع منه، وحديث عليّ في صحّته نظر، والتّرمذي فيه نوع تساهل في التّصحيح. وقد قال عليّ: إنّها رخصة له. وهذا يدلّ على بقاء المنع لِمَن سواه. وحديث عائشة:
"ما الذي أحلّ اسمّي، وحرم كنيتي" غريب، لا يعارض بمثله الحديث الصّحيح.
وكره قومٌ من السّلف الكنية بأبي عيسى، وأجازه آخرون، فروى أبو داود عن زيد بن أسلم أنّ عمر ضرب ابناً له تكنّى بأبي عيسى وأنّ المغيرة تكنّى بأبي عيسى، فقال عمر: أما يكفيك أن تكنّي بأبي عبد الله؟ فقال: إنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كنّاني بذلك، فقال: إنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وإنّا لفي جلجلتنا، فلم يزل يكنّي بأبي عبد الله حتى هلك.
ونهى عن تسمية العنب كرماً، وقال:
"الكرم قلب المؤمن"، وهذا لأنّ هذه اللّفظة تدلّ على كثرة الخير والمنافع، وقال: "لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا وإنّها العشاء، وإنّهم يسمّونها العتمة". وقال: "لو يعلمون ما في العتمة والصّبح لأتوهما ولو حبواً". والصّواب أنّه لم ينهَ عن إطلاق هذا الاسم بالكلّيّة، وإنّما نهى عن أن يهجر اسم العشاء، وهذا محافظة منه على الاسم الذي سمّى الله به العبادات، فلا تهجر

ص -121-      ، ويؤثر عليها غيرها، كما فعله المتأخّرون ونشأ به من الفساد ما الله به عليم، وهذا لمحافظته على تقديم ما قدّمه الله.
وبدأ في العيد بالصّلاة، ثم النّحر وبدأ في أعضاء الوضوء بالوجه، ثم اليدين، ثم الرّأس، ثم الرّجلين، وقدّم زكاة الفطر على صلاة العيد، لقوله:
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}، [الأعلى، الآيتان 14-15].
ونظائِرُهُ كثيرة.

ص -122-      فصل: في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـفي حفظ المنطق واختيار الألفاظ
كان يتخيّر في خطابه، ويختار لأمّته أحسن الألفاظ وأبعدها من ألفاظ أهل الجفاء والفحش، فلم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً ولا فظّاً.
وكان يكره أن يستعمل اللّفظ الشّريف في حقّ مَن ليس كذلك، وأن يستعمل اللّفظ المكروه في حقّ مَن ليس من أهله.
فمن الأوّل منعه أن يقال للمنافق: سيّد، ومنه أن يسمّى العنب كرماً، ومنعه من تسمية أبي جهل بأبي الحكم، وكذلك تغييره لاسم أبي الحكم من الصّحابة وقال:
"إنّ الله هو الحكم وإليه الحكم".
ومنه نهيه المملوك أن يقول لسيّده: ربّي، وللسّيّد أن ي قول لمملوكه: عبدي، وأمتي. وقال لِمَن ادّعى أنّه طبيب:
"أنتَ رفيق، وطبيبها الذي خلقها". والجاهلون يسمّون الكافر الذي له علم بشيء من الطّبّ حكيماً.
ومنه قوله للذي قال: ومن يعصهما فقد غوى:
"بئس الخطيب أنتَ".
ومنه قوله:
"لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان"، وفي معناه قول مَن لا يتوقى الشّرك: أنا بالله وبك، وأنا في حسب الله وحسبك، وما لي إلاّ الله وأنتَ، وأنا متوكّل على الله وعليك، وهذا من الله ومنك، ووالله وحياتك.
وأمثال هذه الألفاظ التي يجعل قائلها المخلوق ندّاً لله، وهي أشدّ منعاً وقبحاً من قوله: ما شاء الله وشئت.

ص -123-      فأمّا إذا قال: أنا بالله، ثم بك، وما شاء الله ثم شئت، فلا بأس كما في حديث الثّلاثة: "لا بلاغ لي اليوم إلاّ بالله ثم بك".
وأمّا القسم الثّاني ـ وهو أن تطلق ألفاظ الذّمّ على مَن ليس من أهلها، فمثل نهيه عن سبّ الدّهر، وقال
: "إنّ الله هو الدّهر"، وفي ثلاث مفاسد:
أحدها: سبّ مَن ليس بأهل.
الثّانية: أنّ سبّه متضمن للشّرك، فإنّه إنّما سبّه لظنّه أنّه يضرّ وينفع، وأنّه ظالم، وأشعار هؤلاء في سبّه كثيرة جدّاً، وكثير من الجهال يصرح بلعنه.
الثّالثة: أنّ السّبّ إنّما يقع على مَن فعل هذه الأفعال التي لو اتّبع الحقّ فيها أهواءهم لفسدت السّموات والأرض، وإذا وافقت أهواءهم حمدوا الدّهر، وأثنوا عليه.
ومن هذا قوله
: "لا يقولن أحدكم: تعس الشّيطان، فإنّه يتعاظم حتى يكون مثل البيت، ويقول: صرعته بقوتي. ولكن ليقل: باسم الله، فإنّه يتصاغر حتى يكون مثل الذّباب".
وفي حديثٍ آخر:
"إنّ العبد إذا لعن الشّيطان يقول: إنّك لتلعن ملعناً".
ومثل هذا قول: أخزى الله الشّيطان، وقبح الله الشّيطان؛ فإنّ ذلك كلّه يفرحه، ويقول: علم ابن آدم آني نلته بقوّتي. وذلك مما يعينه على إغوائه، فأرشد النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ مَن مسّه شيء من الشّيطان: أن يذكر الله، ويذكر اسمه، ويستيعذ بالله منه، فإنّ ذلك أنفع له، وأغيظ للشّيطان.
ومن ذلك نهيه أن يقول الرّجل: خَبُثت نفسي، ولكن يقول:

ص -124-      لقسَتْ نفسي، ومعناهما واحد، أي: غَثِيَتْ نفسي، وساء خلقها، فكره لهم لفظ الخبث لما فيه من القبح والشّناعة.
ومنه نهيه عن قول القائل بعد فوات الأمر: لو أنّي فعلت كذا وكذا، وقال: "إنّها تفتح عمل الشّيطان". وأرشده إلى ما هو أنفع منها، وهو أن يقول: "قَدَر الله وما شاء فعل". وذلك لأنّ قوله: لو كنت فعلت كذا لم يفتني ما فاتني، أو لم أقع فيما وقعت فيه، كلام لا يجدي عليه فائدة، فإنّه غير مستقبلٍ لما استدبر، وغير مستقيل عثرته، بلو، وفي ضمنها أنّ الأمر لو كان كما قدره في نفسه، لكان غير ما قضاه الله، ووقوع خلاف المقدر محال، فقد تضمن كلامه كذباً وجهلاً ومحالاً، وإن سلم من التّكذيب بالقدر، لم يسلم من معارضته بلو. فإن قيل: فتلك الأسباب التي تمناها من القدر أيضاً؟
قيل: هذا حقّ، ولكن هذا ينفع قبل وقوع القدر المكروه، فإذا وقع، فلا سبيل إلى دفعه أو تخفيفه، بل وظيفته في هذه الحال أن يستقبل الفعل الذي يدفع به أو يخفّف ولا يتمنى ما لا مطمع في وقوعه، فإنّه عجز محض، والله يلوم على العجز، ويحبّ الكيس، وهو مباشرة الأسباب فهي تفتح عمل الخير، وأمّا العجز، فيفتح عمل الشّيطان، فإنّه إذا عجز عما ينفعه صار إلى الأماني الباطنة، ولهذا استعاذ النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من العجز والكسل، وهما مفتاح كلّ شرٍّ، ويصدر عنهما الهمّ والحزن، والجبن والبخل، وضلع الدّين، وغلبة الرّجال، فمصدرها كلّها عن العجز والكسل، وعنوانها: "لو"، فإنّ المتمني من أعجز النّاس وأفلسهم، وأصل المعاصي كلّها العجز، فإنّ العبد يعجز عن أسباب الطّاعات، وعن الأسباب التي تبعده عن المعاصي وتحول بينه وبينها، فجمع

ص -125-      في هذا الحديث الشّريف أصول الشّر وفروعه، ومبادؤه وغاياته، وموارده ومصادره، وهو مشتمل على ثمان خصالٍ، كلّ خصلتين قرينتان، فقال: "أعوذ بك من الهمّ والحزن"، وهما قرينان، فإنّ المكروه الوارد على القلب إمّا أن يكون سببه أمراً ماضياً، فهو يحدث الحزن، وإمّا توقع مستقبل، فهو يورث الهمّ، وكلاهما من العجز، فإنّ ما مضى لا يدفع بالحزن، بل بالرّضى والحمد، والصّبر والإيمان بالقدر. وقول العبد: "قدر الله وما شاء فعل".
وما يستقبل لا يدفع بالهمّ، بل إمّا أن يكون له حيلة في دفعه، فلا يعجز عنه، وإمّا أن لا يكون له حيلة، فلا يجزع عنه، ويلبس له لباسه من التّوحيد والتّوكّل والرّضى بالله ربّاً فيما يحبّ ويكره، والهمّ والحزن يضعفان العزم، ويوهنان القلب، ويحولان بين العبد وبين الاجتهاد فيما ينفعه، فهما حملٌ ثقيلٌ على ظهر السّائر.
ومن حكمة العزيز الحكيم تسليط هذين الجندين على القلوب المعرضة عنه ليردّها عن كثيرٍ من معاصيها، ولا تزال هذه القلوب في هذا السّجن حتى تخلص إلى فضاء التّوحيد والإقبال على الله ولا سبيل إلى خلاص القلب من ذلك إلاّ بذلك، ولا بلاغ إلاّ بالله وحده، فإنّه لا يوصل إليه إلاّ هو ولا يدلّ عليه إلاّ هو. وإذا قام العبد في أيّ مقامٍ كان، فبحمده وحكمته أقامه فيه، ولم يمنع العبد حقّاً هو له، بل منعه ليتوسل إليه بمحابه فيعطيه، وليرده إليه وليعزه بالتّذلّل له، وليغنيه بالافتقار إليه، وليجيره بالانكسار بين يديه وليولّيه بعزله أشرف الولايات، وليشهده حكمته في قدرته، ورحمته في عزّته، وإنّ منعه عطاءٌ، وعقوبته تأديبٌ، وتسليط أدائه عليه سائق يسوقه إليه. والله أعلم حيث يجعل مواقع عطائه، وأعلم حيث

ص -126-      يجعل رسالته. {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}، [الأنعام، الآية: 53]، فهو ـ سبحانه ـ أعلم بمحال التّخصيص، فمَن ردّه المنع إليه، انقلب عطاء، ومَن شغله عطاؤه عنه، انقلب منعاً، وهو ـ سبحانه وتعالى ـ أراد منا الاستقامة، واتّخاذ السّبيل إليه، وأخبرنا أنّ هذا المراد لا يقع حتى يريد من نفسه إعانتنا ومشيئتنا له، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، [التكوير، الآية: 29]. فإن كان مع العبد روح أخرى نسبتها إلى روحه كنسبة روحه إلى جسده يستدعى بها إرادة الله من نفسه أن يفعل به ما يكون به العبد فاعلاً، وإلاّ فمحله غير قابلٍ للعطاء، وليس معه إناء يوضع فيه عطاء، فمَن جاء بغير إناءٍ، رجع بالحرمان، فلا يلومن إلاّ نفسه.
والمقصود أنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ استعاذ من الهمّ والحزن، وهما قرينان، ومن العجز والكسل، وهما قرينان، فإنّ تخلف صلاح العبد وكماله عنه إمّا أن يكون لعدم قدرته عليه، فهو عجزٌ، أو يكون قادراً لكن لا يريده، فهو كسلٌ، وينشأ عن هاتين الصّفتين فوات كلّ خيرٍ، وحصول كلّ شرٍّ، ومن ذلك الشّرّ تعطيله عن النّفع ببدنه وهو الجبن، وعن النّفع بماله وهو البخل، ثم ينشأ له من ذلك غلبتان: غلبة بحقٍّ وهي غلبة الدّين، وغلبة بباطلٍ وهي غلبة الرّجال، وكلّ هذه ثمرة العجز والكسل. ومن هذا قوله في الحديث الصّحيح للذي قضى عليه، فقال:
"حسبي الله ونعم الوكيل"، إنّ الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمرٌ، فقل: "حسبي الله ونعم الوكيل"، فهذا قالها بعد عجزه عن الكيس

ص -127-      الذي لو قام به لقضي له على خصمه، فلو فعل الأسباب، ثم غلب، فقالها لوقعت موقعها، كما أنّ إبراهيم الخليل لما فعل الأسباب المأمور بها ولم يعجز بترك شيءٍ منها، ثم غلبه العدوّ، وألقوه في النّار قال: "حسبي الله ونعم الوكيل"، فوقعت الكلمة موقعها، فأثرت أثرها.
وكذلك رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وأصحابه يوم أُحدٍ لما قيل لهم بعد انصرافهم من أُحدٍ:
{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}، [آل عمران، من الآية: 173]، فتجهّزوا وخرجوا لهم، ثم قالوها، فأثرت أثرها، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، [الطّلاق من الآية: 3]، وقال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، [المائدة، من الآية: 11].
فالتّوكّل والحسب بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجزٌ محضٌ، وإن كان مشوباً بنوعٍ من التّوكّل، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكّله عجزاً، ولا عجزه توكّلاً، بل يجعل توكّله من جملة الأسباب التي لا يتمّ المقصود إلاّ بها كلّها. ومن ها هنا غلط طائفتان:
إحداهما: زعمت أنّ التّوكّل وحده سببٌ مستقلٌّ فعطّلت الأسباب التي اقتضتها حكمة الله.
الثّانية: قامت بالأسباب وأعرضت عن التّوكّل، والمقصود أنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أرشد العبد إلى ما فيه غاية كماله أن يحرص على ما ينفعه ويبذل جهده وحينئذٍ ينفعه التّحسّب بخلاف مَن فرّط، ثم قال: حسبي الله ونعم الوكيل. فإنّ الله يلومه، ولا يكون في هذه الحال حسبه، فإنّما هو حسب مَن اتّقاه، ثم توكّل عيه.

 

ص -128-      فصل:في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الذّكر
كان أكمل النّاس ذكراً لله ـ عزّ وجلّ ـ، بل كان كلامه كلّه في ذكر الله وما والاه، وكان أمره ونهيه وتشريعه ذكراً منه لله، وإخباره عن أسماء الرّبّ وصفاته، وأحكامه وأفعاله، ووعده ووعيده ذكراً منه له، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتسبيحه وتحميده ذكراً منه له، وسكوته ذكراً منه له بقلبه، فكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائماً وقاعداً، وعلى جنبه، وفي مشيه وركوبه وسيره ونزوله، وظعْنِه وإقامته.
وكان إذا استيقظ قال:
"الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النّشور".
ثم ذكر أحاديث رويت فيما يقول إذا استيقظ، وإذا استفتح الصّلاة، وإذا خرج من بيته، وإذا دخل المسجد، وما يقول في المساء والصّباح، وعند لبس الثّوب، ودخول المنْزل، ودخول الخلاء، والوضوء والأذان، ورؤية الهلال، والأكل، والعطاس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Share to:

إرسال تعليق